سؤال من يحكم؟
عبد الرحمان الغندور
إن المشهد في المغرب اليوم يشبه لوحة مركبة تجريدية، سريالية، معقدة، لا تُقرأ بسهولة، حيث تتداخل الخطوط وتتبادل الألوان حتى يصبح التمييز بين الخلفية والأصل مستحيلاً. لم يعد السؤال من يحكم؟ سؤالا ثوريا كما كان في عهد الحسن الثاني، يدخل من يضعه السجن، ولا سؤالا ساذجاً كما يردده البعض بغباء، لأن الإجابة عنه لا تكمن في النصوص الدستورية ولا في الخطابات الرسمية، بل في مسارب أخرى، معتمة، تتحرك فيها قوى لا اسم لها ولا عنوان، لكن بصماتها تظهر على كل قرار مصيري، وعلى كل مفصل من مفاصل الحياة العامة. لقد تحولت الدولة من فكرة مؤسساتية قائمة على القانون إلى شبكة معقدة من التحالفات والولاءات والمصادر، حيث تذوب الحدود بين المال العام والمال الخاص، وبين المصلحة الوطنية العامة والمصالح الشخصية الضيقة، في بوتقة واحدة.
في هذا المشهد، يصبح الاقتصاد ساحة رئيسية لتفريخ واستنبات واختبار هذه العلاقات. فالنمو الاقتصادي، بسرعاته المتفاوتة التي صرح بها أكثر من خطاب رسمي، وبمعدلاته المتقطعة التي تعلنها الأرقام الرسمية، لا يحكي القصة كاملة. فالحكاية تكمن في ثروات تتراكم بلا جهد مرئي، واستثمارات توجه نحو قطاعات غير منتجة، وصفقات تبرم بعيداً عن أعين الرقابة. بينما يعيش جزء كبير من الشعب على هامش هذا الاقتصاد، يعاني من الفقر والتهميش واليأس. حيث نرى بروز طبقة جديدة من “الأقرباء ” و”الوسطاء” و”المقربين” الذين يتحولون إلى أصحاب نفوذ حقيقي، ليس بسبب كفاءتهم، بل بسبب قرابتهم وولائهم وقربهم من المراكز الخفية لصنع القرار. إنهم لا يشغلون مناصب رسمية في كثير من الأحيان، لكنهم يمسكون بخيوط اللعبة الحقيقية، فيتحكمون في تدفق الاستثمارات، وفي حسم الصفقات، وفي تقرير من يفوز بالعطاء.
وهكذا، فإن الفقر والتهميش ليسا مجرد نتاج لسياسات اقتصادية فاشلة، بل هما بالضبط الثمرة المرة لبنية حكم تفضل الوساطة على الجدارة، والولاء على الكفاءة، والقرابة على القانون. فالإنسان البسيط في الأحياء المهمشة وفي القرى النائية، والذي يكافح من أجل لقمة عيشه، هو الضحية المباشرة لهذا النظام. إنه لا يخسر فرص العمل فحسب، بل يخسر كرامته وإيمانه بالعدالة عندما يرى أن الطريق إلى النجاح محصور في من يملك “الواسطة” أو القرابة، أو ينتمي إلى “الشبكة الصحيحة”. هذا الإحساس باليأس والإقصاء هو ما يغذي الاحتقان الاجتماعي ويقوض فكرة الانتماء إلى وطن واحد.
أما على المستوى السياسي، فإن الصورة أكثر مأساوية، فالمؤسسات الدستورية، من حكومة وبرلمان، تعمل في كثير من الأحيان كواجهة تزيينية، (vitrine) بينما القرارات الحقيقية تتخذ في أماكن أخرى، غير خاضعة للمساءلة ولا للمحاسبة. وحتى ما يسمى “بالمعارضة” لم تستطع، أو لم ترد، أن تفلت من براثن هذه المنظومة. فجزء منها انزلق إلى منطق اللعبة ذاته، فتحول من صوت للمعارضة إلى وسيط يبحث عن حصته من الغنيمة. إنهم يعيشون في منطقة رمادية، لا هم في السلطة فيتحملون مسؤوليتها، ولا هم في المعارضة الحقيقية فيكشفون عيوبها. إنهم ينتظرون دورهم في “الصفقة” القادمة، مما أفقد السياسة معناها وجعلها مجرد امتداد للسوق، حيث تُباع المبادئ وتُشترى المواقف.
في هذا السياق، يصبح السجن مصيراً للصحافيين والناشطين الذين يجرؤون على كشف الخيوط الخفية أو المساءلة عن الثغرات في الرواية الرسمية. فوجود معتقلين سياسيين في سجون القرن الحادي والعشرين هو دليل صارخ على أن السلطة تخشى الكلمة الحرة أكثر مما تخشى الفساد نفسه. وفي الوقت نفسه.
إن الخروج من هذا المأزق يتطلب أكثر من مجرد إصلاحات سطحية أو تغييرات في التشكيلات الحكومية. إنه يتطلب جراحة عميقة تبدأ بالاعتراف بالمرض. يجب كشف الآلية الحقيقية للحكم، والإعلان عن كل من يتدخل في صنع القرار من خلف الستار، وتحديد هوية من يستفيد من الفساد الممنهج. إنها معركة الشفافية ضد الغموض، ومعركة القانون ضد الوساطة، ومعركة المؤسسات ضد الشبكات غير الرسمية.
اليسار، والأحزاب السياسية بشكل عام، مدعوون اليوم إلى مراجعة جذرية. إذا استمروا في التعامل بنفس الأدوات وبنفس العقلية، فإنهم سيساهمون، سواء قصدوا أم لم يقصدوا، في تدوير نفس النفايات. إذ لا تكفي الخطابات الثورية المتطرفة إذا كانت الممارسة على الأرض هي ممارسة “مخزنية” تقليدية. والشرعية لا تمنحها الشعارات، بل تمنحها المواقف الواضحة والحاسمة: في تحديد الخصم الحقيقي، وفي رسم حدود الصراع، وفي رفض منطق المحسوبية والوساطة.
اللحظة الحالية هي لحظة حقيقة، ككل اللحظات التي سبقتها ولم نلتقطها. فإما أن نعمل جميعاً، من قلب نبض الشارع، على نقل الدولة من الظل إلى النور، من العتمة إلى العلنية، ومن منطق الشبكات إلى منطق المؤسسات. وإما أن نستمر في تدوير النفايات والدوران في الحلقة المفرغة ذاتها، حيث تتغير الأسماء ولكن الآلية تبقى كما هي، ويبقى الوطن رهينة لمنطق القوة الخفية، ويبقى المواطن العادي يدفع الثمن من دمه وحريته وكده وكرامته.
