جائزة”أميرة أستورياس” للاسبانيّ-الكطلانيّ إدوَاردُو ميندُوثا

جائزة”أميرة أستورياس” للاسبانيّ-الكطلانيّ إدوَاردُو ميندُوثا

رواياته ترصد التحوّل الديمقراطيّ فى اسبانيا

 د. السفير محمد محمد خطّابي  

           فاز الكاتب والروائيّ الاسباني- الكتلاني إدواردُو ميندوثا بجائزة (أميرة أستورياس) فى الآداب  الإسبانية لعام 2025 ، وتعتبر هذه الجائزة من أهمّ الجوائز الأدبية فى اسبانيا إلى جانب جائزتيْ (سيرفانتيس) و(بلانيتا)، وقد أقيم حفل الإعلان عن فوزه بهذه الجائزة المرموقة يوم الجمعة 24 اكتوبر 2025 بحضور العاهل الاسباني فيليبّي السادس، والملكة ليتيثيا، والاميرة ليونور (وريثة العرش الاسباني) التي تحمل الجائزة اسمَها، بعد ان كانت تحمل هذه الجائزة اسمَ والدها عندما كان ولياً للعهد للملك الاسباني السابق خوان كارلوس الأوّل، كما حضرت هذا الحفل اختها الاميرة صوفيا، وأعضاء  لجنة التحكيم، والعديد من الشخصيات، والكتّاب، والمثقفين الإسبان والأجانب. وتبلغ قيمة هذه الجائزة المادية 50.000 اورو، فضلاً عن مجسّم رفيع للفنان الاسباني-الكتلاني العالمي الشهير جوان ميرُو، ودبلوم خاص يؤرخ لهذا الفوز المستحقّ.

أعمال ميندوثا الروائيّة

 غالباً ما تدورالاعمال الأدبية والروائية لهذا الكاتب فى مدينة برشلونة  التي ولد بها عام 1943، وقد ترجمت  بعض أعماله الروائية الى العديد من اللغات الحيّة منها روايات: (الحقيقةحول قضية سافولتا)، و(متاهات الزيتون)، و(مدينة العجائب)، و(عام الطوفان)، و(لا أخبار عن غورب)، و”لغز القبو المسكون”، و(عساكر من رصاص). ومن أعماله الرّوائية البوليسية رواية تحمل عنوان (فتاة المُوضة المفقودة)، و إدواردو ميندوثا هو مترجم مسرحية (حلم ليلة صيف) لوليم شكسبير إلى اللغة الإسبانية، كما اعتبر كتابه (ملهاة خفيفة) أحسن كتاب أجنبي في فرنسا. ونقلت بعض أعماله الرّوائية إلى السينما الإسبانية التي حققت نجاحات ملحوظة، وحصلت على جوائز هامّة.

معايشات الطفولة والشباب

 على الرّغم من كثرة اعماله الروائية وتنوّعها فإنّ غير قليل من القراء  الاسبان لا يعرفون هذا الكاتب بقدر ما يحظى بشهرة واسعة خارج بلاده، قال فى مستهلّ خطابه  بمناسبة فوزه بهذه الجائزة الرفيعة: “إذا لم أنظر لوجهي فى المرآة، فإنني ما زلت أعتبر نفسي شابّاً واعداً  فى عالم الإبداع فى الرواية الاسبانية “. وقال  أيضاً فى نفس المناسبة عند حصوله عن هذه الجائزة الأدبية المرموقة: “لا قيمة لي  شخصياً، فهذه الجائزة جاءت تكريماً لاعمالي الأدبية وليست لي، فأنا لا أستحقّ هذا التكريم”. وأضاف: “هذه الأعمال هي خلاصة وعصارة غير لقليل من العوامل مروراً بطفولتي، ومرحلة شبابي التي كانت عنصراً أساسياً هامّاً فى تكويني الأدبي،  فقد كنت ذا حظّ كبير لأنني ولدتُ وترعرتُ وألفيتُ نفسي محاطاً بأكوام من الكتب من كلّ نوع، وبين أناس  حبّبوا إليّ الأدب وكانوا يقرأون لي أعمالاً إبداعية بصوتٍ عالٍ، وشجّعوني على اختيار الوجهة الصحيحة التي تناسبني فى الحياة”.

إسعاد القرّاء!

 تجدر الإشارة أن أعمال وكتابات ميندوثا  اتّسمت فى مجملها بالعمق الفكري والتحليلي، وتميّزت بالدعابة والتسرية والتسليّ والنقد اللاذع للمجتمع فى مختلف أصنافه وأجناسه وطبقاته وشرائحه، كما طبعت هذه الاعمال بالقدرة الفائقة على استعمال السخرية المبطّنة، وتوظيفها فى نصوصه الروائية بمهارة فائقة بهدف إسعاد القراء، ورسم البسمات على محيّاهم أينما كانوا، واينما وُجدوا، وهي تعمل على تعرية مختلف  التناقضات، والنقائص ، والعيوب الاجتماعية، والسياسية بواسطة شخوص غرائبية ً، كما اتّسمت اعماله الابداعية  بمسحة من الادب الروائي البوليسي الذي تدور احداثه فى الغالب في مسقط رأسه المدينة الكتلانية العملاقة المترامية الأطراف الحافلة بالتناقضات برشلونة.

وجاء فى قرار لجنة تحكيم التي منحته هذه الجائزة: “يتمّيز الكاتب إدواردو ميندوثا كروائي محنّك بأسلوبه الأدبي واللغوي السلس، وانتشاره الاستثنائي وشهرته العالمية، ممّا أفضى به إلى إثراء التراث الأدبي الإسباني المعاصر”.

مخاطبة جميع الشرائح الاجتماعيّة

ويشير النقاد: “إن روايته (الحقيقة حول قضية سافولتا) فتحت عهداً جديداً في الرّواية الإسبانية المعاصرة، وهي تعيد للقارئ روعة الاستمتاع بما يُقرأ، كما أنها تحثّه على العناية بالتاريخ الذي يقدّم له في هذه الرّواية الخصلة أو الميزة التي اتّسم بها هذا الكاتب على امتداد حياته وعطاءاته في عالم الرّواية والإبداع”. كما يصنّف معظم النقاد الإسبان أعمال ميندوثا من بين أفضل ما كُتب في حقل الرواية خلال مرحلة التحوّل الديمقراطي، والانتقال السياسي في إسبانيا فى السبعينيات من القرن الفارط.

 ويرى المثقفون المتابعون للشأن الثقافي فى إسبانيا: “يبدو أن لجنة التحكيم أخذت هذه المرّة بعين الاعتبار مراحل تطور الرواية الإسبانية في تلك الحقبة من الزمن، التي كانت إسبانيا تعرف فيها قفزة نوعية مهمّة نحوالانفتاح، والإنعتاق، والديمقراطية، بعد حقبة الحكم الديكتاتوري المطلق للجنرال فرانسيسكو فرانكو، الذي استغرق زهاء أربعين عاماً (1936- 1975). وهو ما وفّر حظاً كبيراً لهذا الكاتب بأن تعاد قراءة ما كان قد كتبه في تلك المرحلة الانتقالية الصعبة نحو الديمقراطية من تاريخ إسبانيا المعاصر في حقل الرواية على وجه الخصوص. ومن خلال روايتيْه (الحقيقة حول قضية سافولتا) (1975)، و( مدينة الأعاجيب) (1986) يقدم ميندوسا الوقائع وكأنها  تتسابق وتتشابك وتتلاحق وتتداخل في ما بينها لتكوّن مشهداً تاريخياً حافلاً بالأحداث المتتابعة والمتوالية والمتواترة في هذا المجتمع الجديد الذي أصبحت إسبانيا تعيش في كنفه بعد رحيل الجنرال فرانكو عنها. ويشير النقاد إلى أنّ هاتين الرّوايتين كأنهما كانتا تغوصان في الذاكرة الجماعيّة للسكّان الاسبان ، وفي السّاحات العمومية، والحدائق الكبرى، والمآثر، والمعالم، والدّور ، والقصور، والقلاع والحصون، التي صيّرت  من مدينة برشلونة على وجه  الخصوص حاضرة ذات طابع خاص ومميّز، هاتان  الرّوايتان كانتا تخاطبان جميع الشرائح والطبقات الاجتماعية في إسبانيا، ومن ثم كان سرّ نجاحهما.

إصلاح أعطاب الرّواية في إسبانيا

كما يرى بعض النقّاد أنّ روايات الكاتب إدواردو ميندوثا تعمل على إعادة القيم القديمة واسترجاع العناصر المضيئة للرّواية الإسبانية فى تاريخها الطويل الحافل بالنجاحات والشهرة الواسعة والذيوع والانتشار، وهي تعمل على إصلاح الأعطاب والانحرافات  التي كانت تعاني منها الرّواية في إسبانيا منذ الستينيّات من القرن الفائت. ذلك الزمن الذي يُنعت بـ “زمن الصّمت” المريب، حيث كانت برشلونة ــ وهي المدينة التي وُلد فيها الكاتب  كما سبقت الاشارة الى ذلك آنفاً ــ كأنّها تتأهّب لاستقبال موجة التحـرّر التي ستطولها عام 1975 مع رحيل الجنرال فرانكو عن الساحة السياسية فى اسبانيا فى ذلك الإبّان. وفجأة أصبح الإسـبان ينعمون بنعمة الحرية، ويعيشون في كنف مجتمع جديد أكثر انفتاحاً وتعدّداً، حيث طفقت مختلف العُقد والأفكار المُسبقة، والأحكام الخاطئة والجاهزة والتخوّفات تتلاشى وتزول فى البلاد رويداً رويداً، وصارت تمّحي معها كذلك تدريجياً مُخـلّفات العهد الفرنكاوي المطلق البائد، وكأنّ الناس، كانوا ينتظرون روايات مثل التي وضعها إدواردو ميندوثا، وهو لم يزلْ بعدُ في ريعان الشباب، ومقتبل العُمر، وعلى وجه التحديد روايته الشهيرة  “الحقيقة حول قضية سافولتا”.

عريس إسبانيا الجديدة روائيّاً

وصف بعض النقاد الإسبان الروائي إدواردو ميندوثا  فى ذلك الإبّان وكأنه كان عريساً لإسبانيا الجديدة في مرحلتها الانتقالية، كان وسيماً أنيقاً، متعلّماً ومثقّفاً، ذا أخلاق عالية، ونزعة عالمية، كان الكاتب يعمل على إعادة القيم القديمة واسترجاع العناصر المضيئة للرّواية الإسبانية، كان يملأ صفحاتها بالرّوح الخفيفة المرحة والتشبّث  بها، كان يجعلها تعلّمنا كيف نعيش الحياة حتى الثمالة، وكيف يعامل الكتّابُ ارّاءه بلطف، كان وكأنّه يشجّع على القراءة، ويعود بالرّواية إلى ينابيعها الأولى، وإلى عوالم المرح والبساطة، وينقل القارئ إلى دهاليز ومنعطفات ومتاهات المُخبرين السرييّن المثيرة، الذين يشحذون خيال القرّاء، وكأنّه كان يرجع بهم إلى الروايات التاريخية التي تغذي أرواحهم، وتوقظ حواسّهم، وتدغدغ عواطفهم، كلّ هذه الخيارات قادت الكاتب ميندوثا إلى كتابة روايته الأخرى الناجحة التي تحمل عنوان “شِجَار القطط” التي اعتبرها البعض الوجه الآخر، أو النسخة الأخرى لروايته “الحقيقة حول قضية سافولتا”، ولكن هذه المرّة عن مدينة مدريد، وليس عن برشلونة.

بمثل هذه الأعمال الرّوائية حصل إدواردو ميندوسا على أهمّ وأرقى  الجوائز الأدبية فى اسبانيا وهي بالوالي: سيرفانتيس، وبلانيتا ، وأخيراً جائزة أميرة أستورياس فى الآداب الإسبانية. كما سبق له أن حصل من قبل على إحدى أكبر الجوائز الأدبية الاجنبية الأخرى عام 2010، وهي جائزة «فرانز كافكا»، ولابدّ أن العديد من زملائه الكتّاب، والنقّاد، ومعهم القرّاء يحتفون اليوم بهذا الفوز الأدبي المهمّ الذي حققه بحصوله على هذا التكريم الكبير الأخير المتمثل فى جائزة أميرة أستورياس التي تُعتبر من أرقى الجوائز في الآداب المكتوبة باللغة الإسبانية.

حصل  الروائي إدواردو ميندوثا على الليسانس في الحقوق من الجامعة المستقلة في مدينة برشلونة، ثم انتقل للعيش في مدينة نيويورك، حيث كان يعمل مترجماً في الأمم المتحدة.

 وتجدر الاشارة فى ختام هذه الفذلكة انّ جائزة “أميرة أستورياس” كانت قد انطلقت عام 1981 وهي تكرّم  أيضاً مبدعين من مختلف الجنسيات  في ميادين العلوم الإنسانية ،والاجتماعية، والأدب، والتعاون الدولي ، والرياضة وسواها من المجالات الاخرى.

شارك هذا الموضوع

د. محمد محمد الخطابي

كاتب، وباحث، ومترجم من المغرب عضو الأكاديمية الاسبانية- الأمريكية للآداب والعلوم بوغوتا كولومبيا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!