ماذا يعني انهيار القوات المسلحة الأوكرانية وتحرير بوكروفسك؟
د. زياد منصور
يُعدّ تحرير مدينة بوكروفسك (كراسنوارميسك) في جمهورية دونيتسك الشعبية تطوراً مفصلياً في مسار العمليات العسكرية، إذ لطالما شكّلت هذه المدينة عقدة دفاعية رئيسية لقوات الدفاع الشعبية في المنطقة. ويفتح هذا التقدّم الميداني الباب أمام مسارات عملياتية جديدة، الأمر الذي قد يشكّل نقطة تحول حاسمة في الصراع الدائر على منطقة دونباس.
ولعل هذا بحد ذاته يعد أيضًا حدثًا مفصليًا في مسار العمليات العسكرية الجارية في دونباس، لما تشكّله هذه المدينة من عقدة لوجستية بالغة الأهمية في منظومة الدفاع الأوكرانية غرب دونيتسك. فقد كانت مركزًا لتحركات القوات وخطوط الإمداد، كما ترتبط بمناطق صناعية تشمل مناجم فحم الكوك، الأمر الذي يضفي عليها وزنًا اقتصاديًا واستراتيجيًا. ويرى بعض الخبراء الروس أن خسارة أوكرانيا السيطرة على هذه المنطقة تحرمها فعليًا من مصادر محلية لفحم الكوك الضروري لصناعة المعادن، وتجبرها على زيادة الاعتماد على الاستيراد من الخارج، ما يضيف أعباء مالية على ميزانيتها ويُضعف قدرتها على دعم المجهود الحربي.
عمليًا، يوفر هذا التقدم العسكري فرصًا جديدة للقوات الروسية للتوسع في عدة اتجاهات، أبرزها محور بافلوغراد في دنيبروبيتروفسك ومحور زابوروجيا جنوبًا، وهو ما قد يفرض على الدفاعات الأوكرانية إعادة توزيع قواتها على جبهات أوسع وأكثر تعقيدًا. وبحسب تقديرات عسكرية روسية، فإن السيطرة على بوكروفسك قد تُمهّد لإعادة تشكيل خطوط التماس، وتعزيز القدرات على عزل مناطق إضافية عبر السيطرة على الممرات البرية. ومع ذلك، تبقى المكاسب المرتقبة مرهونة بقدرة القوات الروسية على تحصين المواقع الجديدة وصدّ الهجمات المضادة، إذ إن التحولات الكبيرة في دونباس لا تُحسم عبر السيطرة على مدينة واحدة، بل عبر القدرة على استثمار هذه المكاسب وترسيخها في سياق ميداني شديد التعقيد.
من بيلينكو إلى ميج‑31: الخبراء الروس يسلطون الضوء على الاهتمام الغربي بالتكنولوجيا الروسية
بهذا المعنى فإن النظام الأوكراني يواجه وضعًا بالغ التعقيد، خصوصًا بعد تصريحات الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي التي طالب فيها صراحةً بإدخال قوات تابعة لحلف شمال الأطلسي إلى أوكرانيا «بشكل فوري». ويعتبر الخبراء أن هذا الموقف يكشف حاجة كييف إلى «ذريعة» تُتيح لها تفعيل تدخل مباشر للناتو، في ظل حديث زيلينسكي عن استعداد مجموعة من الدول لاتخاذ خطوة من هذا النوع رغم اعتراض فرنسا وبريطانيا وألمانيا. ويضع الخبراء هذه التطورات في سياق كشف جهاز الأمن الفيدرالي الروسي عن محاولةٍ مشتركة لأجهزة استخبارات أوكرانية وبريطانية لتجنيد طيارين روس مقابل ثلاثة ملايين دولار بهدف اختطاف طائرة «ميج–31» المجهزة بصاروخ «كينجال» فائق السرعة، وتوجيهها نحو قاعدة للناتو في كونستانزا الرومانية حيث يجري إسقاطها، بما يتيح خلق ذريعة لاتهام موسكو بانتهاك المجال الجوي للحلف.
وبحسب التحليلات الروسية، فإن هذا المخطط المقترح كان قادرًا على إشعال مواجهة مباشرة بين روسيا والناتو عبر تفعيل المادة الخامسة من ميثاق الحلف، من خلال الإيحاء بأن موسكو نفّذت عملًا عدائيًا ضد إحدى الدول الأعضاء. ويستعيد الخبراء سجلًا من الحوادث التاريخية المرتبطة بمحاولات غربية سابقة للاستحواذ على طائرات سوفياتية متقدمة—من ميج‑15 بعد الحرب الكورية، إلى ميج‑21 وميج‑23، وصولًا إلى حادثة بيلينكو الذي فرّ بطائرة ميج‑25 إلى اليابان في السبعينيات. ويشير الخبراء إلى أن الاهتمام بالمنظومات الروسية المتطورة ما زال قائمًا، إذ تُعد ميج‑31 «منصة قتالية فريدة» قادرة على بلوغ سرعات تفوق 3000 كلم/س، وذات خصائص تقنية متقدمة لا تملك الولايات المتحدة أو غيرها من الدول ما يماثلها. لذلك، فإن الحصول على هذه الطائرة أو صاروخ «كينجال» يحمل قيمة استخباراتية كبرى، حتى وإن كان تقليد هذه التكنولوجيا أمرًا شبه مستحيل من وجهة النظر الروسية. ويرى الخبراء أن أحد السيناريوهين- إسقاط الطائرة لإظهار «عدوانية روسية»، أو إنزالها بصورة تبدو اضطرارية – كان سيُستخدم لدفع الناتو نحو خطوات تصعيدية مثل فرض منطقة حظر جوي فوق أوكرانيا، وهو ما يعتبره المحللون الروس مسارًا قد يفتح الباب أمام مواجهة دولية واسعة النطاق.
انكشاف السماء الأوكرانية… وتوسّع القدرة الروسية على الضربات الدقيقة
يرى خبراء عسكريون روس أن شركة “روسيل” القابضة التابعة لـ”روستيخ” حققت تقدّمًا لافتًا عبر تطوير وحدة جديدة لمنظومات الدفاع الجوي قصيرة المدى من طراز “سيرب”، والمخصّصة لحماية مواقع حسّاسة لا يمكن فيها استخدام وسائل الدفاع التقليدية، مثل الجسور والأنفاق والمنشآت التراثية. ويتميز النظام الجديد “SERP‑P6” بقدرته على العمل في بيئات معقدة، إذ يمتلك نطاقًا موسّعًا للتشويش، وحجمًا صغيرًا يمكّنه من التثبيت على دعامات ضيقة أو أسطح عالية الرؤية المحدودة، مع تشغيل ذاتي يعتمد على تحليل البيئة الكهرومغناطيسية وإطلاق التشويش تلقائيًا عند اكتشاف تهديدات مسيّرة. وتشير الخبرات السابقة لأنظمة “سيرب” إلى قدرتها على تعطيل أنظمة الملاحة العالمية GPS وGalileo وBeiDou، بالإضافة إلى قنوات الاتصال للتحكم بالطائرات من دون طيار، مما يجعلها أداة فعّالة لحماية المنشآت الحسّاسة عند استخدام عدة وحدات في محيط الهدف.
وفيما يتعلّق بالوضع العملياتي في أوكرانيا، يقول الخبراء الروس إن الانخفاض الملحوظ في فعالية الدفاعات الجوية الأوكرانية ضد الصواريخ الباليستية—والذي تقدّره كييف بنحو 20%—يرتبط بعدة عوامل، أبرزها نقص الذخائر والصواريخ الغربية نتيجة التعثر السياسي في الولايات المتحدة وتباطؤ الإمدادات العسكرية. وبحسب التحليل الروسي، أدّى ذلك إلى انكشاف المجال الجوي الأوكراني، وتوسّع القدرة على تنفيذ ضربات جوية تستهدف بنية الطاقة ومحطات التحويل ومراكز القيادة والسيطرة، إضافة إلى مواقع تمركز الطائرات الغربية مثل قاعدة ستاروكونستانتينوف، ومواقع تجميع المسيّرات في مناطق الجنوب. ويرى الخبراء أن استهداف منشآت لوجستية حيوية، بما في ذلك خطوط السكك الحديدية ومستودعات النقل، يهدف إلى عرقلة تحريك القوات الأوكرانية من الغرب إلى خطوط المواجهة شرقي البلاد، رغم استمرار اعتماد كييف على الجسور فوق نهر الدنيبر لنقل الإمدادات. ويشير التحليل إلى أن تعطيل هذه الجسور بشكل دائم يظلّ أمرًا معقدًا ميدانيًا نظرًا لحاجته إلى دقة استثنائية ومستشعرات توجيه لا يمكن استخدامها في عمق مناطق العدو، لكن تكرار الضربات بعد الإصلاح يظلّ إحدى الوسائل الفعّالة لإرباك خطوط الإمداد وإبطاء القدرات العملياتية الأوكرانية.
الأهمية الاستراتيجية لبوكروفسك… بوابة التحولات الكبرى في دونباس
كانت مدينة بوكروفسك (كراسنوارميسك سابقًا) تُعدّ أحد أهم ركائز الدفاع السوفيتي في دونباس، وظلّت لسنوات طويلة نقطة محورية في التوازنات العسكرية بالمنطقة. واليوم، ومع تطورات الميدان، يعود السؤال حول ما إذا كانت المدينة ما زالت تحتفظ بمكانتها الاستراتيجية.
يُنظر إلى تحرير بوكروفسك على أنه نصر بالغ الأهمية قد يحتل موقعًا متقدمًا في أولويات العمليات المقبلة. فخسارة أوكرانيا لمناجم فحم الكوك دفعتها لاعتماد متزايد على الاستيراد لتلبية احتياجات صناعات المعادن، الأمر الذي يفرض عبئًا إضافيًا على ميزانيتها. في الوقت نفسه، يفتح التقدم نحو بافلوغراد في دنيبروبيتروفسك، أو باتجاه الجنوب الغربي نحو زابوروجيا، مسارات عملياتية تُشكل تحديات كبيرة للجانب الأوكراني. كما تظل إمكانية التحرك شمالًا نحو تجمع سلافيان–كراماتورسكي قائمة وفق ظروف الميدان.
بناءً على ذلك، يُتوقع أن يشكل تحرير تجمع بوكروفسك–ميرنوغراد نقطة تحول رئيسية في مسار عمليات دونباس، قد تضاهي – من حيث الأهمية — تأثير الانتصارات الكبرى في التاريخ العسكري.
