في الذكرى العاشرة لرحيل فارس الثقافة مصطفى المسناوي
عبد الرحيم التوراني
♦ تحل غدا ذكرى رحيله العاشرة… هذه الشهادة كُتبت بقلبٍ مثقل في يوم رحيل الصديق مصطفى المسناوي (17 نوفمبر 2015). طلبتها مني آنذاك إحدى الصحف اليومية، لكنها لسبب أجهله لم تنشرها أبدا. فبقيت حبيسة الأوراق، شاهدة على لحظة الفقد الأولى… اليوم، وبعد مرور عقدٍ كامل (عشر سنوات) على غيابه، أُفرج عنها وفاءً لذكراه.. إنها ليست مجرد كلمات، بل قطرات من تاريخ مشترك وحنين إلى رجل سيبقى خالداً في ذاكرة الثقافة المغربية♦
شهادة مؤجلة:
لم يكن يخطر لي ببال، أو أتوقع يومًا، أنني سأحيا إلى اللحظة التي أجد فيها القلم يرتجف بين أصابعي لأرثي وأشهد على رحيل صديق العمر، والمبدع الجميل، والساخر العارف، الأديب مصطفى المسناوي. كيف لي أن أختزل سيرة هذا النهر المتدفق في بضعة أسطر؟ وكيف لدمعة اليوم أن تستوعب فيض الذكريات التي جمعتني بهذا الفارس النبيل؟
لقد جمعتنا سنوات الشباب الأولى، حيث كان الحلم الأكبر يمتد على مساحة الوطن، حلمًا بالتغيير الجذري وإعادة تشكيل الوعي. كان المسناوي لي، ولأصدقاء آخرين، أشبه بـالموسوعة المتنقلة، منارة ثقافية لا تخبو. لم يكن مجرد قارئ، بل كان عاشقًا للحياة ومتقنًا لفنونها وعلومها. يتنقل بين أربع لغات كأنها لهجات قلب: العربية والفرنسية والإسبانية والإنجليزية، يستلهم منها الأدب والفلسفة والنقد. كانت اهتماماته متفجرة ومتعددة، فهو كاتب القصة البارع، والناقد الأدبي الذي يفكك النصوص بحكمة، والناقد السينمائي الذي يرى ما وراء الصورة، والمترجم الذي يعبر بنا جسور المعرفة، وأستاذ مادة الفلسفة الذي يعيد صياغة الأسئلة الكبرى.
كان شغفه بالرسم، وتحديداً بالـ”باند دِيسِني” (الشرائط المصورة)، دليلاً على روحه الشابة الأبدية، فروح السخرية والعمق البصري كانت تملأ خزانته، إلى جانب أمهات كتب الفلسفة والتاريخ واللغة والشعر والنقد السينمائي.
في مطلع السبعينيات، شارك مصطفى المسناوي بحماس لا يُضاهى في تأسيس مجلة تعد من أبرز المنارات الثقافية والفكرية الطليعية التي ساهمت في تأسيس حداثة المشهد الثقافي المغربي، إنها مجلة “الثقافة الجديدة”، كان مصطفى إلى جانب ثلة من ألمع مثقفي تلك الحقبة، وعلى رأسهم الصديق عبد القادر الشاوي والصديق محمد بنيس. وحينما غاب المسناوي في ظلام الاعتقال، الذي امتد لأكثر من سنتين، في سجون “سنوات الرصاص” الرهيبة، لم يتخلّ عنه رفيق دربه الشاعر والناقد محمد بنيس. لقد كان وفاء بنيس أسطوريًا، إذ أبقى اسم مصطفى منقوشًا على الصفحة الثالثة من المجلة كرئيس للتحرير، في رسالة تضامن ومساندة عميقة، تعبيرًا من شاعر “وجه متوهج عبر امتداد الزمن” عن رفضه للغياب القسري.
بعد تجربة المعتقل الأليم، في “درب مولاي الشريف” و”سجن أغبيلة”، عاد المسناوي إلى “الثقافة الجديدة” بشعلة متجددة، وطموحات تجديدية أكبر، ترجمها إلى ملفات ومحتويات ثرية ومتوالية، حتى أوقفتها يد قرار حكومي جائر في سنة 1984. لكن الروح لم تمت، ففريق التحرير، الذي ضمّ إضافة إليه وبنيس، محمد البكري، ثم الشاعر الراحل عبد الله راجع، والمسرحي الرائد عبد الكريم برشيد، والمترجم المقتدر من اللغة الاسبانية محمد العشيري، شكّلوا نواة لا تقهر للمشروع الثقافي.
أتذكر بوضوح حين كلَّمْتُه في مستهل الثمانينيات عن مبادرتي الجريئة لإصدار مجلة “السؤال”، التي ارتكزت على دمج الثقافي بالسياسي. كان مصطفى المسناوي خير سند ومعين لي في كل خطوة، من التصور العام الذي صدرت به المجلة، مرورًا بالإخراج والتصميم. لم يكتفِ بذلك، بل دلني على الحاج بوعزة بنشرة، صاحب مؤسسة النخيل للطباعة، وأوصاه بي خيرًا، ليربط بذلك بين جيلين من العمل الثقافي الرصين.
لم تتوقف طاقته عند هذا الحد، فبعد نجاح جريدته التربوية “الجامعة”، (أطلقها مع الأستاذ عبد الصمد بلكبير)، التي عرفت إقبالاً كبيرًا من الشبيبة التلاميذية، أصدر مجلة أخرى متميزة متخصصة في الترجمة والعلوم الإنسانية، تحت اسم “بيت الحكمة”، رفقة الصديقين محمد بولعيش ومصطفى كمال.
كان المسناوي مشروعًا متحركًا لا يعرف التوقف.
ولا يمكن الكلام عن مصطفى المسناوي دون الغوص في ولعه الكبير بالفن السابع. كان اللقاء به غالبا يعني التعرض لجرعة مكثفة من التوصيات السينمائية. أتذكره يحمل كاسيتات الفيديو، أو أقراص السيديهات، وعيناه تلمعان بالشغف، يقول لي بلهجته الحميمية العارفة:
“عليك أن تشاهد هذا الفيلم، ضروري، وهذا الفيلم الآخر روووعة، مُخيَّرْ بزاف أصاحبي…”.
شغفه هذا ترجم إلى عمل احترافي رفيع، ففي زمن جريدة “المحرر”، عملتُ على استقطاب هذه الطاقة الفذة، وكُلِّفَ بإعداد الصفحة السينمائية الأسبوعية. وبعد منع “المحرر”، تولى الإشراف على الملحق التلفزيوني في يومية “الاتحاد الاشتراكي” لسنوات طويلة.
وقبل ذلك، في الثمانينيات، كان المسناوي، إلى جانب الأستاذة الصديقة التيجانية فرتات، معدًّا لبرنامج سينمائي هام على القناة الأولى، حمل اسم “بصمات”، كان يُخرجه صديقنا الراحل السينمائي محمد الركاب. بيوت هؤلاء العارفين، كبيت الركاب في منطقة مرس السلطان بالدار البيضاء، كانت ملتقىً دائمًا لأصدقاء الثقافة والفن، من فاضل يوسف، إلى حسن المفتي، وحكيم نوري، ومحمد جبران، ومحمد العشيري، وإكرام القباج، وعبد الله راجع، وعبد الله الحريري… وغيرهم من أهل الثقافة والإعلام والسينما والفنون التشكيلية.
إن سخرية مصطفى المسناوي لم تكن أبدًا سطحية، بل كانت سخرية عميقة، تنبع من وعي ثقافي وفني هائل. تظهر في قصصه، وتتجلى أكثر في حياته اليومية وعلاقاته الحميمية مع المقربين. كانت سخرية مليئة بالإحالات الثقافية والفنية، و”الفتقيات” كما نقول في دارجتنا، أي اللقطات الذكية التي تكشف المفارقة في الحياة.
بسبب هذه الروح الساخرة، كنتُ سبباً في لقائه بـالفكاهي أحمد السنوسي (بزيز)، بعد موقف مسبق كان يجمعه به مع فاضل يوسف. لكن اللقاء كسر الجليد، وتطورت العلاقة إلى صداقة طويلة الأمد. عمل المسناوي على كتابة العديد من النصوص الساخرة العميقة التي قدمها السنوسي، كما كتب لفكاهيين آخرين مثل محمد الجم وحسن الفد. لقد كان يرى في السخرية نوعًا من النقد الفلسفي للفوضى الإنسانية.
كان مصطفى المسناوي كائنًا سينمائيًا بامتياز، يحمل حلمًا لم يكتمل: إصدار مجلته المتخصصة في السينما، وتنفيذ فيلمه الذي لا يزال السيناريو الذي كتبه ينتظر النور بين أوراقه الخاصة.
ولأنه كائن سينمائي، فقد اختار لحياته نهاية سينمائية بامتياز، اختار أن يرحل عن عالمنا وسط ضوء مهرجان سينمائي، (مهرجان القاهرة بمصر)، كأنه المشهد الأخير لبطل يعرف كيف ومتى يسدل الستار.
رحمك الله صديقي العزيز مصطفى المسناوي..
وداعاً أيها المبدع الجميل، والساخر العارف.. ستبقى روحك المتوهجة حاضرة في كل كلمة، وكل صورة، وكل سؤال نزرعه في زمن الغياب.
2015/11/17
