المعرفة ثم المعرفة في التجريب العارف
د. عبد الكريم برشيد
فاتحة الكلام
وهذا الاحتفالي، المؤمن بالفكر المسرحي وبالعلم المسرحي وبالفقه المسرحي، قبل الفرجة المسرحية العابرة بكل تأكيد، هو الذي قال بالأمس، وهو الذي يقول اليوم أيضا، بأن هذا المسرح العربي مازال يدور في دائرة مفرغة، ويؤكد هذا الاحتفالي اليوم نفس ما قاله، ونفس ما كتبه ونفس ما صرح به بالأمس.
وللحقيقة والتاريخ نضيف اليوم ما يلي، بأن هذا المسرح العربي، وهو تحت زحمة المال والبيروقراطية مازال في درجة الصفر, أو ما قبل الصفر، وهو يتحدث كثيرا عن التجريب، من غير أن يعرف معنى التجريب، ويكتب نقاده عن ما بعد الدراما من غير أن يدركوا معنى الدراما، ويتحدث المتحدثون في هذا المسرح عن ما بعد الحداثة، وهم لم پصلوا بعد درجة الحداثة، ونجد من يدعي من يدعي التجريب يقدم (مسرحيات) في غير فضاءاتها التجريبية الحقيقية، والتي هي مسارح الجيبب الصغيرة، وهو يقدمها لجمهور يفتقر إلى ابجديات الثقافة التجريببة، وهو في تجربته المسرحية، والتي تفتقر إلى خط فكري ناظم لا يفعل سوى أن (ينتج) نفس المسرحيات القدي، بنفس العقليات القديمة، وبنفس المنهجيات القديمة، وهو يستعير مصطلحات لا ينزلها منزلتها الحقيقية، ولا يعطيها معانيها الحقيقة، وهو يرتجل مهرجانات بعدد يفوق عدد المسرحيات، المنتحة بل ويفوق حتى عدد الجمهور الحاضر، وأغلب هذه المهرجانات لا تضيف أي شيء، وفي أحيان كثيرة تكشف عن فقر وبؤس هذا المسرح، مما يمكن أن يساهم في هروب الجمهور من هذا المسرح الذي لا يقول أي شيء له علاقة والواقع وبالتاريخ والفن و بالفكر وبالعلم، وأغلب هذه المهرجانات الإدارية فيها أكل وشراب وتكريم ونميمة ثقافية يسمونها خطا ندوات فكرية، مع أنه لا فكر فيها، ولا علم فيها، ولا فن فيها، ولا فقه فيها، ولقد سبق للاحتفالي أن قال في كتاب (فلسفة التعييد الاحتفالي في اليومي وفي ما وراء اليومي) ما يلي، بأن (مستقبل المسرح العربي يكمن في إيجاد هندسة فكرية وفلسفية محكمة، وأن الأمر يتطلب تأسيس علم للجمال أولا، ويتطلب تفعيل السؤال الفلسفي في هذا المسرح ثانيا، ويتطلب إيجاد تصور شامل ومتكامل للوجود في المسرح وللمسرح في الوجود، ولعل هذا هو ما حاولت الاحتفالية القيام به، فاشتغلت بالعلم المسرحي وبالفكر المسرحي وبالسياسة المسرحية وبالعمران المسرحي، وذلك إلى جانب اشتغالها بالمهنة المسرحية والصناعة المسرحية والتقاليد المسرحية وبالمؤسسة المسرحية).
مسرحيات تجريبية أو مسرح مسرح تجريبي؟
وبالتأكيد فإن وجود مسرحية تجريبية هنا، ووجود مسرحية تجريبية أخرى هناك، لا يمكن يصنع مسرحا تجريبيا شاملا ومتكاملا، له فلسفته، وله مساره، وله تجاربه المسرحية الجادة والجديدة والمجددة.
وحتى في حال وجود مسرحية تجريبية، فإن ذلك لا پعني أنها مسرحية متفوقة، لا لشيء، سوى أنها تجريبية، لأن الأصل في فعل التجريب هو أنه مخاطرة، قد تصيب وقد تخطئ، وقد يحدث أن تكون مغامرة انتحارية، تؤدي في كثير من الحالات الانتحار أو إلى الجنون، كما حدث مع أنطونان أرطو، وما أكثر الفشل في المسرحيات التجريبية، والتي تخرج إلى الناس قبل أن تدرك درجة النضج، وقبل أن تكتمل صورتها في وروح ونفس وذهن مبدعها.
ويعتقد الاحتفالي أن فعل التجريب ليس مطلوبا لذاته، وأنه ليس قيمة ولكنه مجرد آلية جرائية، وبهذا فهو فعل يسبق خروج المسرحية إلى الناس، وعلاقته بالبروفة المسرحية أكبر من علاقته بالكتاب المسرحي أو بالعرض المسرحي، لأن ما يهم للقارئ، وما يهم والجمهور، ليس هو المسودة التي فيها حذف وفيها إضافات وفيها مراجعات، وفيها شطب، ولكنها النسخة الأخيرة، أي ما بعد التجريب.
وما معنى وجود مسرح واحد بسرعة واحدة وبإيقاع واحد، مسرح لا يختلف ولا يخالف ولا يسال، ولا يتساءل، ولا ينتقد، ولا يشكك، ولا يراجع، ولا يتقدم، ولا يضيف جديدا، ولا يدهش، ولا يبهر، ولا يتنبأ؟
وعن لغز هذا التجريب، في المسرح المغربي والعربي، والذي ملأ الدنيا وشغل الناس بكلام عن التجريب، وذلك في غياب شبه تام عن روح التجريب وعن جوهر التجريب وعن المعنى الحقيقي للتجريب، وفي شكليات هذا التجريب سودت الكثير من من الأوراق، وتدفقت أنهار من الحبر الأسود، وكان الغث فيها أكثر من السمين، ومن بين كل هذه الكتابات المتعددة والمتنوعة، أقف اليوم عند كتاب جاد وجديد، بدا من حيث كان ينبغي أن يتم البدء، أي من السؤال أولا وأخيرا.
كتاب في التجريب عنوانه السؤال
عن منشورات (المركز الدولي للدراسات الفرجة) صدر كتاب (التجريب في المسرح العربي المعنى والسؤال ـ حوارات) للباحث المسرحي د عبد العالي السراج وتقديم د. خالد أمين، ولقد توصلت عن طريق الأستاذ عبد السلام لحيابي بنسخة من هذا الكتاب، مرصعا بتوقيع جميل من الكاتب، والذي أعطى الكلمة للمسرحيين المغاربة والعرب، من أجل أن يشرحوا لنا فهمهم ومستوى فهمهم لهذا التجريب الذي أصبح شرطا للدخول الى عالم المسرح الحديث والمعاصر، وأشهد أن د. عبد العالي السراج رجل مسرح, وأنه باحث جاد ورصين، وأن آخر عنه في كتاباته وهو إصدار الأحكام ووضع المسرحيين في خانات وداخل طبقات، ولعل هذا هو ما جعله يكتفي بأن يكون عالما في أسىلته، وأن يكون دقيقا في اختيارات الزوايا التي يطرح منها الأسئلة.
وفي رده عن سؤال الكاتب د عبد العالي السراج، يقول الفنان المسرحي السوري الكبير فرحان بلبل، عن معنى التجريب ما يلي: (إن للتجريب معاني قد لا يحصيها عد، وكل من يدعي أنه تجريبي يضع في ذهنه معنى لهذا المصطلح ينطلق منها في الساعه، كاتبا كان أم مخرجا أم عاملا في بعض أشغال المسرح، وقد لا ينطبق مفهوم واحد عن التجريب مع مفهوم الآخر).
هو تجريب واحد إذن، ولكن من يمارس فعل هذا التجريب الواحد هم كل المسرحيين في كل العالم، ولكل مسرحي مفهومه الخاص، وله تجربته الخاصة، وله أساطيره التجريبية الخاصة، وله شطحاته أيضا.
ويذكر د، فرحان في الكتاب أن سعد الله ونوس الكاتب، وفواز الساجر المخرج، قد كتبا في دليل مسرحيتهما في مسرح القباني التجرببي بدمشق بأن (التجريب كما نفهمه هو البحث عن وسائل فنية جديدة تزيد من تواصل الجمهور مع المسرح)، وهل التجريب فعلا هو مجرد وسائل فنية تزيد من تواصل الجمهور؟ وهل المسرح غير التجريبي لا يسعى هو أيضا، من أجل البحث عن وسائل التواصل مع الجمهور؟ وأين الجديد وأين التجريب، في مسرح يدعي التجريب، وهو لا يسعى إلا للتواصل مع الجمهور؟ وهل هذا وحده يكفي؟
ولعل أسوأ كل التجريبيين هم التجريبيون الاستعراضيون، والذين لا يهمهم أن يقولوا شيىا، أو أن يفهم الجمهور من مسرحياتهم أي شيء، والأساسي هو يدهشوا الجمهور، وأن يبهروه، إما بالحركات الإستعراضية أو بالأزياء الغريبة، أو بالمشاهد العجيبة، بالللعب بالأضواء، وأن يؤدي الممثلون أدوارهم بطريق آلية تختلف عن الأداء العادي، ويكون أداء ميكانيكا يحول الممثل الإنسان إلى دمية أو إلى روبوت.
وهناك من المخرجين من يعرف قواعد المسرح الأساسية، وهو يعرفها حق المعرفة، ويعترف بها، ويحترمها، وهناك من يسعى إلى تكسيرها، وإلى تدمپرها، من أجل أن يعوض القواعد القديمة بقواعد أخرى جديدة، وهناك من يمارس التدمير العشوائي والفوضوي، فقط حبا في الهدم أو في الاختلاف الوحشي.
وفي تقديم كتاب د عبد العالي السراج، يقول د خالد أمين:
(ومن أبرز القضايا الشائكة التي أثارها الباحث المصري الدكتور عبد العالي السراج بصيغ مختلفة مع أغلب المسرحيين والباحثين المستجوبين، الموقف من “مسرح ما بعد الحداثة”، بوصفه موجة تجريبية جديدة أصبحت تغزو مسارحنا العربية).
وهذا الكتاب، وكما وصفه د. خالد أمين، هو فعلا سفر ممتع (أمام نخبة من الحوارات الهامة التي تستشكل قضايا المسرح العربي بما يجعل فنون الأداء والفرحة خاضعة دائما للتفاوض والتداول والمراجعة، وهذا هو المطلوب إذا أردنا أن نمضي بالإبداع والنقد المسرحيين إلى آفاق ارحب، ولعل من بين أهم ما يجعل الحوار بناء ومثمرا عمق الأسئلة التي يطرحها وعمقها من شأنهما فتح آفاق للنظر في قضايا المسرح والفرجة، كما أن تفاعل الأساتذة الأفاضل المساهمين في هذه الحوارات سيساهم في إغناء تصوراتنا ورؤانا حول تلك القضايا).
عن التجريب وحدود التجريب
ويتساءل الاحتفالي، المؤمن بالمعرفة وبالحق في المعرفة، ما معنى وجود شكل من أشكال التجريب في المسرح، يمكن أن تغيب فيه وعنه ألف باء المعرفة بالمسرح وبتاريخ المسرح وبثوابت ومتغيرات هذا المسرح؟
وما الذي يقبل التجريب في هذا المسرح، وما الذي يمكن أن يكون مجرد تحريف وانحراف ومجرد تشويه لروح فن وعلم وفكر المسرح؟
وأين يمكن ممارسة فعل التجريب تحديدا، هل في الشكل أم في المضمون أم فيهما معا؟
وهل الاعتداء على النصوص المسرحية العالمية باستعمال المقص أو بالاقتباس أو بالإعداد هو شكل من أشكال التجريب؟
وفي إحدى دورات مهرجان القاهرة الدولي بالقاهرة قدمت مسرحية بعنوان (جوليو ورومييت) بدل (روميو وجولييت) وكانت عند (مقترفيها) شكلا من أشكال التجريب.
وفي سلسلة هذه التساؤلات نضيف ما يلي، وما هي حدود فعل التجريب في المسرح ؟
وأين تبدأ حرية الفنان التجريبي وأين تنتهي ؟
وهل حرية الفنان هي حرية مطلقة وبلا حدود؟
إن المسرح العربي اليوم، وفي أغلب تجاربه تغيب عنه أسىئلة علم اجتماع المسرح، وبهذا يتم طرح سؤال كيف نحيا المسرح، وكيف تمثل في تلنسرح، وذلك في انفصال تام عن سؤال كيف نعيش في المجتمع، وكيف نحيا في التاريخ.
وعندما قدمنا مسرحية (قراقوش الكبير) في مهرجان المسرح العربي بدمشق سنة 1977، وكان العرض من تقديم فرقة المسرح الطلائعي بمدينة الدار البيضاء، في إخراج المخرج ابراهيم وردة، وفي جلسة مناقشة العرض، تدخل أحد الصحفيين وربط اسم الفرقة بالحركة المسرحية (الطليعة) الفرنسية، اعتمادا فقط على اسم الفرقة، وليس أي شيء آخر، وحاول أن يقرأ هذه المسرحية العاقلة جدا ،في إطار ما يسميه النقد المسرحي العربي مسرح اللامعقول، وفي الجلسة النقدية، قلت في الجواب، بأنه لا علاقة لأي كلام أو تصوير رمزي، بالتيار العبثي الفرنسي، وإلا لكانت المغنية الشعبية المغربية الحاجة الحمداوية هي مؤسسة الفن العبثي لأنها غنت:
خايفه لمواج لتعواج
وخايفه البحر ليرحل
ولهذا فقد كان من حقنا، أو من واجبنا، أن نؤكد على المعرفة في المسرح، سواء أكان تجريبيا أو غير تجريبي، وأن نقول ما يلي:
إن وجود مسرح بلا معرفة ليس مسرحا، ووجود مسرحي يقول في مسرحيته شيئا لم يفكر فيه، من قبل فإنه لا معنى له.
إن التجريب الحق يبدا بالكتابة، وكل تجريب لا تسنده الكتابة العالمة ليس مسرحا، وهو مجرد شرود ذهني، ومجرد هذيان، ومجرد فوضى غير منظمة.
يقول الاحتفالي فرق كبير جدا، بين من لا يعرف، وهو يعرف أنه لا يعرف، ويسعى من أجل أن يعرف، وبين من لا يعرف، وهو لا يعرف أنه لا يعرف، ولا يعمل أي شيء من أجل أن يعرف.
ولهذا جاء كتاب د. عبد العالي السراج ليكون مساهمة منه ومن منشورات (المركز الدولي للدراسات الفرجة) ليكون مساهمة صادقة في زيادة منسوب المعرفة في مجال التجريب المسرحي، ولقد كنت دائما أتساءل، بيني وبين نفسي، هل هناك مسرحي عربي تجريبي يمكن أن يشرح لنا مساره في طريق التجريب، وأن يدلنا على المحطات التي عبر منها، وعلى الأسئلة التي طرحها، وعلى المسائل التي واجهته في تجربته، وظل هذا السؤال معلقا في ذهني حتى وصلني كتاب الدكتور عبد العالي السراج.
