شعرية المثاقفة والمنظور الإنساني في روايات الكاتب نور الدين محقق

شعرية المثاقفة والمنظور الإنساني في روايات الكاتب نور الدين محقق

وفاء سليم

           يعتبر الكاتب المغربي نور الدين محقق أحد أعمدة الرواية العربية الحداثية، سواء على مستوى المواضيع الكبرى التي يختارها لرواياته أو على مستوى طريقة المعالجة الروائية التجريبية التي يقدم بها هاته المواضيع. وقد استطاع من خلال ما قدمه من روايات عديدة، نذكر منها على سبيل التمثيل لا الحصر، كل من ” وقت الرحيل” و”شمس المتوسط” و”إنها باريس يا عزيزتي” وزمان هيلين” و”برج الميزان” و”النظر في المرآة” و”الفردوس الكوني”، أن يقدم للقارئ العربي صورة عن الحياة العربية في انفتاحها على العالم، من خلال شخصيات تتواجد في الشرق والغرب معا، إن على مستوى تكوينها الثقافي أو على مستوى الهجرة المختارة سواء لمتابعة الدراسة الجامعية العليا أو للبحث عن العمل هناك. وهو في كل هذا يسعى لتقديم رؤية حضارية منفتحة على الآخر إنسانيا وثقافيا على حد سواء. وتبعا لكل هذا، فقد اخترنا أن نتوقف عند بعض من رواياته الحداثية هاته، ونقوم بعملية قراءتها وتفكيك أهم البنيات المتحكمة فيها.

1- بنية المثاقفة في الرواية الحداثية 

  منذ البداية نلاحظ أن كلا من رواية” شمس المتوسط” ورواية “النظر في المرآة” للكاتب الروائي نور الدين محقق قد جسدتا المثاقفة بأدق تفاصيلها وحيثياتها بين العرب والغرب، من منظور إنساني تكاملي مبني على المحبة والتآخي والتسامح والاحترام والتقبل…إذ بيّن من خلالهما التأثير الناتج عما حصله الكاتب طوال حياته من قراءات مختلفة ومتباينة لكتاب كثر أمثال: الشاعر الرائي شارل بودلير، والشاعر المستقبلي أرتير رامبو، والشاعر الرمزي بول فرلين، والشاعر الرؤيوي ستيفان ملارمي، والشاعر والروائي المرموق فيكتو هوغو، و الكاتب العالمي ، صاحب نوبل غابرييل غارسيا ماركيز (مائة عام من العزلة)، والروائي الفيلسوف ألبير كامي (الغريب)، والروائي العميق غوستاف فلوبير (مدام بوفاري)، بالإضافة إلى روايات كل من الكاتب الإيطالي ألبرتو مورافيا، ومسرحيات الكاتب الإنجليزي الشهير وليم شكسبير، وكتابات الفيلسوف الفرنسي الأنثروبولوجي ليفي ستروس، شيخ البنيويين في العالم أجمع، ودواوين الشاعر التصويري الهائل جاك بريفير وغيرهم… وكذا التأثير الظاهر في أقوال الكاتب بلسان أصدقائه الذين أعجبوا بمؤلفاته، فضلا عن ترجمة بعض دواوينه إذ أفصح عن ترجمة أحدها من قبل المترجمة الإيطالية “بيرطا كوفري”، والتي كتبت عنه أيضا مجموعة من الدراسات النقدية وأجرت معه مجموعة من الحوارات الثقافية أبرزها حوار عن عشقه لمدينة الأنوار باريس، بالإضافة إلى إذاعي ثم باللغة الفرنسية وثم بثه في راديو “ليسي ليوطي” بمدينة الدار البيضاء. ولا ننسى التأثير الحاصل في قرائه انطلاقا من أسلوبه المازج بين الواقعية والخيال، وطريقة سرده وسبكه للأحداث التي تجعل القارئ يلتهم أوراق مؤلفاته التهاما كليا متمما لما تبقى منها. كما يظهر التأثر كذلك في أهمية ما ذكره من مؤلفات أدبية متباينة لكتاب مختلفين ومتنوعين، حيث يجد القارئ نفسه مرة أخرى داخل حلقة موسوعية معرفية ثقافية لا متناهية. والمثاقفة لا تقف عند هذا الحد بالنسبة له بل تجاوز التأثير بالإبداع الكتابي إلى الإبداع البصري (أي تأثره بالصورة وجمالها وما تعكسه من قضايا)، أو بتعبير أعم تأثره بالسينما التي أولاها اهتماما كبيرا في مجال اشتغاله، ويتضح ذلك من تأليفه لكتاب بعنوان “سينما الحداثة والتعبير الجمالي: قراءات في السينما المغربية”، والتي عرفها في روايته ” شمس المتوسط” في قوله، إنها “مرآة الحياة، والذي يعرف كيفية التعامل مع هذه المرآة يختصر في عملية تعليمه مراحل كثيرة، قد تبدو لغيره بعيدة المنال”. (ص 31،32). أي أن السينما هي خطاب للمتلقي يعكس واقعه وتمرر عبره رسائل كثيرة، وما عليه سوى استخلاصها والاستفادة منها. فضلا عن التأثير بالعنصر النسوي أي المرأة الغربية وجمالها واهتمامها بالقراءة، وكذا تأثره بأماكن مدينة باريس، كمقاهيها المعروفة ومكتباتها وأحيائها ومآثرها التاريخية، على سبيل المثال لا الحصر إعجابه الشديد بالبرج الباريسي، «برج إيفل”…. أما ذكره لكتاب “الإمتاع والمؤانسة” لأبي حيان التوحيدي، واستحضاره لكاتبه المفضل “نجيب محفوظ”، وبطلة كتاب “ألف ليلة وليلة”، أي “شهرزاد”، وذكره لكل من الطاهر بنجلون، و”بوجمعة أشفري”، و”محمد أسليم”، والكاتبة العربية المعروفة “غادة السمان”. والشاعر العربي الكبير “محمود درويش”، و”عبد المجيد بن جلون”، و”جبران خليل جبران”، و”محمد بن طلحة”، و”زهير أبو شايب”، و”محمد بودويك”، و”عادل محمود”، و”نور الدين بالطيب”، و”يحيى جابر”، و”يوسف بزي”، و”حنا مينا”، و”محمد برادة” (أستاذه الذي تأثر به تأثرا شديدا لافتنانه هو الآخر بمدينة باريس قبله)، والكاتبة “منى وفيق” التي كتب فيها قصيدة قصيرة بعنوان “فراشة النور”. و”نزار قباني”، و”أبو الطيب المتنبي”، والشاعرة اللبنانية “جمانة حداد”. والكاتب المصري “يوسف السباعي”، والقاصة المغربية “مليكة مستظرف”. و رواية “عصفور من الشرق” للكاتب المصري “توفيق الحكيم”، و”قنديل أم هاشم” للكاتب المصري “يحيى حقي”، ورواية “الحي اللاتيني” للكاتب اللبناني”سهيل ادريس”، و”موسم الهجرة” للكاتب السوداني “الطيب صالح”… والمترجم اللبناني “سعيد عفيف”، و”المسرح المغربي”، والفنان الكبير “عبد النبي الجيراري”، والفنان المرموق “يونس ميكرى”، والفنان الممثل اللبناني “عبد المجيد مجذوب”، والفنان الممثل اللبناني “محمود سعيد”، والمطربة اللبنانية “سميرة توفيق”، والفنانة المغربية الرقيقة “أسماء الخمليشي”، والفنانة اللبنانية “هند أبي اللمع”… والفنانة التشكيلية الشعبية “طلال” … وغيرهم كثير، ما هو في واقع الأمر إلا دلالة على تأثره بالآداب والفنون العربية موطنه الاصلي الذي لا مفر للهروب منه، فهو كاتب وأديب وشاعر عربي عاش وترعرع في وطنه وقرأ لأدبائه على مختلف انتماءاتهم الفكرية والفنية ،  منذ أن كان تلميذا وطالبا، لذا لا مهرب من ترك بصمة أثرهم الأدبي والفني والإبداعي فيه. وبهذا يكون الكاتب الروائي نور الدين محقق قد أبان لمختلف قرائه ماهية المثاقفة التي يشكل عنصرا التأثير والتأثر عمودها الرئيسي الذي تتكئ عليه. وإن كانت كل من هاتين الروايتين “شمس المتوسط “والنظر في المرآة” قد أعربتا عن التأثير بين العرب والغرب وبين العرب بعضهم بعضا، فإننا سنختتم هذا المقال بروايته المعنونة بهذا الاسم “أوراق كاتب في باريس”، لتوضيح هذا التثاقف الإنساني العميق وهذا الانفتاح على الآخر.

2- الرواية الحداثية والمرايا المتجاورة

تعد رواية “أوراق كاتب في باريس” بشكل أو بآخر امتدادا لروايته الباريسية الأخرى الموسومة بعنوان “إنها باريس يا عزيزتي”. فهي تخليد لإعجابه الشديد بمدينة الأنوار باريس التي جعلها موضوعه الرئيس فيها ، وعناوين فصولها دليل في ذلك، وسنذكر بعضها: ( أوراق كاتب في باريس، الجلوس في مقهى باريس، جميلات الحي اللاتيني، إنها باريس يا عزيزتي، الذهاب إلى متحف اللوفر، فوق نهر السين، مديح  الموناليزا وأخواتها…” وكانت فصول روايته هاته تعريفا بباريس وثقافتها ومميزاتها ومآثرها… فهي رحلة ممتعة للقارئ تجعله يلج أبوابها بسرعة ولوقت وجيز، لاستشعاره بأنه ضيف محبوب مرحب به في عالم أوروبي مغاير لعالمه الأصلي، متفاعل ومتداخل في لحظة، ومتجاوب ومؤول في لحظة أخرى، متلذذ ومستمتع بأزقتها، ومعجب بفنها ورونقها وجمالها… وهذا لا يتأتى لولا توظيف الكاتب الروائي نور الدين محقق لآليات الكتابة وتقنياتها المتعددة ، ومن أهمها: مخاطبة القارئ ومراعاة وجوده منذ لحظاته الأولى إلى لحظاته الأخيرة أثناء الكتابة، واعتباره رفيقا له في رحلته الممتعة لاستكشاف مدينة الأنوار “باريس”، وهذا ما يسم ويميز إبداع الكاتب والروائي نور الدين محقق.

* خاتمة

  أخيرا يمكن لنا القول إن أجمل ما في القراءة أنها وسيلة نقل مغايرة لما نألفه من وسائل النقل الانعكاسي العادي، ذلك لأنها تجعل القارئ بطريقة ممتعة يعيش ويتجول في عالم غير عالمه تقربه منه ومن واقعه وأحداثه وأبنائه وأدبائه وثقافته ونمط عيشه…  وكثير منا، نحن القراء، من تعرف على مدن وبلدان أحبها وتعلق بها دون الذهاب إليها أو الاطلاع عليها، وذلك من خلال فعل القراءة، الوسيلة الوحيدة لنشر العلم والثقافة والمعرفة ومحاربة الجهل والتفاهة، لذا فقد عنون الكاتب الروائي نور الدين محقق أحد فصول روايته “النظر إلى المرآة”   بما يلي “خذ الكتاب بقوة”، وهي دعوة لمصاحبة الكتاب واقتنائه رغم كل الظروف والمحن والصعوبات. وتعتبر هذه الدعوة في الآن ذاته تناصا مع الآية القرآنية الكريمة “يا يحيى خذ الكتاب بقوة” (الآية 12، سورة مريم). وهنا نلمح أن التثاقف والتلاقح لا يقتصر عند مجال دون غيره، بل يفتح مصراعيه على مجالات مختلفة ومتباينة.

شارك هذا الموضوع

وفاء سليم

كاتبة وباحثة جامعية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!