بحثاً عن الاستقلال الضائع!
عبد الرحيم التوراني
(يصادف اليوم الثلاثاء 18 نوفمبر 2025 ذكرى “عيد الاستقلال” في المغرب).
“شَدّينَا الاسْتِقْلال ونْدَمْنَا”…
تلك العبارة المكلومة، التي سمعتُها يومًا من أفواه جيل صارع الاستعمار وقدم الفداء، لم تكن مجرد همس عابر. لقد كانت رنَّة جرح غائر لم أستوعب مرارته إلا حينما أدركتُ حقيقة الخذلان الذي اكتنزت به حروفها..
اليوم، يكررها من يترحمون على ماضٍ كان بغيض الاحتلال، حكايتهم: خيبة ممتدة على جسد الوطن.
لقد تحوَّل الاحتفال بذكرى الاستقلال من مناسبة تاريخية ووجدانية سامقة إلى مجرد “عطلة رسمية”، فارغة كصدى في قاعة موحشة، مجردة من كل مدلول نضالي أو مضمون تحرري..
وأمام هذا المشهد القاحل، بدأت شرعية التساؤل تقتحم كل يقين: “آش من استقلال أو زعتر؟!”
كما يجيبني مراهقٌ عجّل به الشقاء ليشيخ قبل الأوان.
أي استقلال هذا الذي نتغنى به؟ هل هو ذات الحلم الذي روته دماء الشهداء وعرق المقاومين والمناضلين الحقيقيين الذين سطروا بدمائهم ثمن الحرية والتحرّر؟
إن الشاخص أمامنا اليوم هو تراجعٌ مؤلم، ارتدادٌ إلى الخلف بدلاً من المضي بثبات نحو المستقبل. ولا تخدعنا صروح الإسمنت الشاهقة، ولا سرعة القطارات “البُراقية”، ولا الخطب الرنانة التي تتعثر خططها على أرض الواقع الصلبة. فما أرساه ضابط الحماية الاستعمارية الماريشال ليوطي، في ثلاثة عشر عامًا من تجديد النظام المخزني، عجز عنه من تولوا الأمر في سبعة عقود من “الاستقلال”…
فلتسكت هتافات “المغرب أجمل بلد في العالم”، ولتدع كليشيهات الكاميرا المعمشة في صندوقها الأسود.
لستُ متشائمًا، ولكني أعيشُ تضاريس الواقع العنيد..
لطالما شحنتُ بطارية الأمل، فسرعان ما خذلها المشهد…
ما زلتُ، كالكثيرين، أقف على باب الرجاء، لكنَّ صرخات الخبراء وتقارير المنظمات الدولية تؤكد: البلد ليس بخير.
شبابنا، زهرةُ المستقبل، يغوص في أوحال الفراغ والبطالة واليأس، يبتلعه “التشرميل”، ويركب قوارب الموت بالمئات يوميًا، هاربًا صوب المجهول. يبحثون في الضفة الأخرى عن قطرة دم تضخ في عروقهم حُبَّ الحياة، وعن سماء تزرع فيهم فخر الانتماء الذي يحفز على البناء ويشحذ العزائم.
الجميع يعرف الإجابة الموجعة إذا ما سألنا شباب اليوم: ماذا يعني لكم عيد الاستقلال؟
ما زالت ذاكرة الوطن مثخنة بجراح الماضي القريب لسنوات الرصاص، وبمواجهتها التي أيقظت الأمل في التغيير الجذري، وبنداءات حراك الريف التي طالبت بالكرامة والتنمية. لم تكن صرخاتهم سوى امتداد لثمن الحرية الذي لم يُدفع بعد، فكان جزاءها التضييق والسجن. السجون تكتظ بمعتقلي الحراك، أولئك الشباب الذين لم يطلبوا سوى أن يكون الاستقلال حقيقة لا وهمًا.. وجودهم خلف القضبان هو أبلغ دليل على أننا لم نخرج بعد من قفص الوصاية إلى فضاء الوطن.
في ظل هذا البؤس الممتد، تستمر حلقات نهب المال العام في سيناريو مُعاد وممل، حيث الأرقام الفلكية تتبخر أمام مرأى ومسمع العاجزين…
يرافق ذلك كله مشهد هزلي لاستعدادٍ مسرحي أشد إبهارًا لتزوير انتخابي جديد..
لكنَّ الهزل بلغ منتهاه، حين صاروا يهددون ويتوعدون كل من سيتجرأ على تشهير التزوير أو الإشارة إليه…
هزلت… فإذا كان تكميم الأفواه هو الحل الأوحد لمنع فضح العبث، فذلك هو إعلان النهاية لمنطق الدولة القائمة على التعاقد والثقة..
إذا كانت الأجيال التي حققت الاستقلال قد ندمت على ثمرته، فإن الأجيال الحالية تندم الآن أكثر على العيش في ظل واقع البؤس والقهر والحرمان الذي أفرزته سنوات الاستقلال…
هذا هو إرث “جيل Z”.. جيل الأسئلة اللاذعة والإجابات المرة.
وكل عيد استقلال… وألمُ السؤال يشتد.
