سقراط زمانه وإشكالية الجمهور المسرحي
نجيب طلال
فايسبوكيون
مطية هاته المقالة ذاك النقاش الفايسبوكي تجاه حدث أطلق عليه “عزوف الجمهور”، عن عرض المخرج نبيل لحلو، الذي أحدث فصول هذا العزوف تمثل في حضور ثمانية أشخاص فقط، لعرض مسرحي احتضنه مسرح محمد الخامس في الرباط. ويتعلق الأمر بمسرحية “ماشا مشمشة تريد دورًا في فيلم محاكمة سقراط”، من تأليف وإخراج نبيل لحلو وبطولة صوفيا هادي (1).
هنا لا غرابة فمسألة القطيعة أو العزوف أو جفاء الجمهور عن العروض المسرحية، هي من المظاهر العجيبة والتي أضحت حاضرة بقوة في المشهد الثقافي عامة، وفي واقع الأمر تحتاج لنقاشات متكررة وحادة وجادة، من لدن المكتوين بنار المسرح حقيقة، بدل تكرار مواضيع أمست باهتة جدا أو فتح أوراش الإخراج تكوين الممثل مبادئ التأليف المسرحي الذي دأب عليه أصحاب ما يسمى “التوطين”، الذي لم يحقق توطينا حقيقيا للمسرح في المغرب.
إذن مشهدنا أو وضعية النقاش الفعلي والفعال، إن رغب جنود التوطين، وعلماء مسرحنا قضية الفنان المتأصل نبيل لحلو، كلما أنجز عرضا مسرحيا إلا ويصطدم بغياب الجمهور الذي يريده هو، النخبة، ولاسيما أن المسرح في أصله هل هو نخبوي أم جماهيري. سؤال احتدم النقاش حوله ليس عندنا بل في بلدان أخرى، حتى أن مدرسة فرانكفورت ناقشت الموضوع من زاوية عمومية الثقافة: هل نخبوية أو جماهيرية، ولم يتم الحسم في السؤال، لأن المسرح جنس ثقافي مشهدي ليس جماهيريا مطلقا، كما يتوهم البعض عندنا. وبعض علمائنا الأجلاء يناقشون قضية الجمهور في غياب الجمهور كفاعل أساس في اللعبة المسرحية، ويحاولون بالكاد أن يشبهوا المسرح بكرة القدم، من أجل تأطيره جماهيريا.. شتان بين العقل والقدم، وبالتالي فالمسرح نخبوي بامتياز.. رغم أننا كنا نعتقد بأن مسرح الهواة الذي اغتالته الأيادي المسرحية جماهيري، من حيث نوعية الحضور المتمثل في أغلب الشرائح الاجتماعية، فالقضية أساسا تحتاج لدراسة سوسيولوجية، بحيث هل النخبوية أو الجماهيرية تجاوزا، تكمن في عدد الحضور أم في نوعية العرض ومحتواه الفني والجمالي.
وبنوع من التأمل في هذه التدوينة نقبض على رؤية أخرى، بأن مسرحنا ليس نخبويا ولا جماهيريا، لأن الآن ذاك النداء أطلقه اليوم الصديق الكاتب والباحث المغربي منتصر حمادة، كمبادرة للتضامن بالحضور مع هذا الفنان الاستثنائي في تاريخ السينما والمسرح المغربي فقط، أقول للصديق منتصر بالكثير من الحرقة بأن هذا الفنان سابق لزمانه، وللأسف، لم يعد هناك جمهور لمثل هاته التجارب المضيئة، والمفارقة في المسرح المغربي بسبب غياب الذوق الفني الجاد وسيادة ذوق التفاهة أصبح الجمهور المغربي، يبحث عن مسرح فيه البندير ورقص الشيخات وهز الأرداف وهذا ما أصبح سائدا ومسيّدا الآن في الكثير من تجارب الموجة الجديدة من المسرح المغربي (2)..
هنا الوتد الذي لم ينغرس بعد لماذا لا نتوفر على دراسات ميدانية استقرائية تجاه الجمهور المسرحي، الذي هو في الأصل جماهير، وبالتالي فالمبدع لحلو في كثير من تصريحاته، كان يسعى إلى خلق جمهور مثقف عاشق للمسرح الجاد والجيد، لأن دور الفنان الحقيقي أن يكون دائما ذلك الضوء الذي ينير عتمة الكوكب الإنساني. لكنه فشل في تحقيق ذلك لماذا؟
خارج السؤال
قبل الإجابة لنتمعن في عمق قوله التالي: إنني فشلت في خلق جمهور مغربي مثقف يعشق المسرح الجميل والجيد، ويحب الذهاب إليه لمشاهدة الأعمال المسرحية العالمية الجيدة.. لأن الدولة المغربية فشلت في زرع بذور الثقافة في عقل المواطن المغربي مند فجر الاستقلال، ويعزو فشلها هذا إلى فشل النخبة المغربية المثقفة المخزن أسكتها كما أسكت وروَّضَ الأحزاب السياسية التقدمية. فالكل استسلم وترك الشعب يعيش، كما نقول باللغة العامية “يعوم في بحره” (3). لكن في تصريح آخر مرتبط بالسياق نفسه يشير “حاولت منذ بدايتي المسرحية تكوين جمهور مثقف لكن مع الأسف الشديد أعترف بأنني فشلت لأن المثقفين يظنون أنهم يعرفون كل شيء، ويرون أن من يصعد المسرح يريد إعطاء دروس ولو أن حضور المسرحيات هدفه اكتشاف الحالة الثقافية بالمغرب”. (4).
يمكن أن نلاحظ بأن هنالك تناقضا بين الفقرتين، حيث يوجه اللوم للدولة التي فشلت في زرع بذور الثقافة منذ فجر الاستقلال وفي باب آخر يوجه اللوم على المثقفين. هنا لا ندافع عن أطروحته، وإنما تفرض علينا مناقشتها في سياق غياب الجمهور عن عروضه تحديدا لأن المبدع نبيل لحلو حاول ويحاول إنتاج مسرح مختلف ونوعي يتداخل فيه الإبداع البصري بالكلام والتجريبي بالحوار والحركة في آن إذ يعتقد البعض أنه عبثي سوريالي صرف بالعكس إنه عقلاني يشتغل بثقافة العرض الاحترافي المعتمد كمهنة لها ضوابطها ومخارجها الفنية في قوالب إيديولوجية وفكرية تمارس النقد المجتمعي الساخر بتغليف سوريالي وهذا موضوع يحتاج لوقفة خاصة.
وعودا للعزوف وإن كانت الظاهرة عامة فعلى سبيل المثال في مدينة الخميسات مؤخرا وصل لعلمنا أن عرضا متخندقا في الترويج حضره خمسة أفراد بما فيهم مدير دار الشباب هذا الأخير ليس متلقيا بل مسؤولا إداريا ولكن هناك شهادة مريبة جدا مفادها إذ إن الغالب الأعم أن العروض المقدمة في الرباط أو الدار البيضاء أو غيرهما من المدن الكبرى تقام أمام مقاعد شبه فارغة (5).
نعلم جيدا بالسماع والمعايشة كذلك بأن أغلب العواصم تعج حيوية وحياة ثقافية نشطة. فهل يعقل عاصمتنا تعيش جمودا ثقافيا وحياة باردة مسرحيا.
من هذا المدخل، فالطرحين السابقين يطرحان قضية جد معقدة وشائكة في الحقل السياسي والثقافي معا، طارحة علينا أسئلتها المربكة استنكارا مما يحتاجان لنقاش جاد لمعرفة الأسباب الحقيقية عن العزوف، أو القطيعة، أو اللامبالاة، تجاه العروض المسرحية. هل الدولة مسؤولة عن ذلك حسب رؤيتها الإيديولوجية التي انتهجتها آنذاك، أم في مسلكيات أغلب المسرحيين، أم في أعمالهم بين المحتوى والقيمة الفنية، أم في أغلب المثقفين الذين يمارسون القطائع والتشكيلات، وتخلوا عن حمل مشعل التنوير والقدوة الفنية والفكرية. حتى أن البعض منهم أمسى بيروقراطيا يكرس تلك الخردة الفنية، والبعض الآخر صار من رهط الطغاة وتم تغيير جلده الأفعواني وسلخ أفكاره الحربائية حسب الظرفية وتقلبات الموارد. إنه ذاك المثقف الذي لم يحسن طرح أفكاره ولم ينجح بالعمل عليها لإعادة ابتكارها وتحويلها بحيث تترجم إلى منجز حضاري سياسي أو اقتصادي أو مجتمعي.. ولا أراني أظلم المثقف الحداثي بذلك، فهو كأحد عمال الفكر مسؤول قدراً من المسؤولية عما حدث ويحدث (6)*. ممكن أن يكون المثقف مساهما فيما يقع، بتخليه عن أدواره الطلائعية وعن انخراطه الكلي في قضايا مجتمعه دفاعا عن تربية جمالية وفكرية، أمام تدني الذوق وغياب جمالية الجمال في تربة شبه ثقافية بالتضاد مع السياسي، الذي استطاع أن يلتهم المثقف ويدجنه لفلسفته ورؤيته الإيديولوجية. لا مفر من الحقائق.
محاكمة سقراط..
سقراط زمانه الذي يهدف إلى كسر الصمت والتحدي.. هل يحق لنا محاكمته في الواقع على ضوء واقعه ونتهمه بأنه لا يعتقد في الآلهة التي تؤمن بها المدينة.. ولكنه يعتقد في مقدسات أخرى وأنه يفسد الشباب (7)، أي شباب سيفسده وأعماله الدرامية حولها عزوف حتى من طلبة الفن المجاورين للمسرح. وحسب ما قيل سلفا العروض المقدمة في الرباط، تقام أمام مقاعد شبه فارغة. لهذا فما فائدة فضاء مسرحي يضم عاملين وموظفين وتقنيين، ولا حرارة داخله. أليس الجمهور هو الطاقة الحرارية التي تنعش أي فضاء، أم على ضوء حلمه في بناء ومحاولة تأسيس نخبة خارج زمرة السفسطائيين، وخاصة من في المحاكمة حيث كانوا يتكلمون عن رجل آخر، رجل يحب الفوضى، رجل ليس لديه أساس لنفسه ويحطم أسس الآخرين.. هل يمكنهم حقا أن يعتقدوا فيما يقولون(8). بين الحلم والواقع تبقى المحاكمة مؤجلة، لأن ملفها متشابك وجوانيته مئات الأيادي التي تنسف مشروعية الحلم، فلو فكر في تأسيس مسرح الجيب، رغم الإكراهات التي تساهم في عرقلة هذا النوع من المسرح المغيب في الوطن العربي والمنتعش في أوروبا، لاستطاع أن يحقق ما يحلم به، ولو أنه شبه محاصر بخيوط ناعمة وهي العامل الأساس في كل معاناة سقراط زمانه، بمعنى لا بد من العودة إلى الوراء لأبرز الأسباب التي دفعتني لكتابة رسائلي المفتوحة التي وصل عددها إلى أكثر من ثلاثمئة رسالة.. ففي شهر مارس سنة 1970، ونحن على خشبة مسرح سينما “لامبير” في مدينة فاس، نستعد لتقديم مسرحيتي “السلاحف” أمام جمهور ملأ كل مقاعد صالة العرض، نادى عليّ شرطي جاء إلى المسرح ليأخذني إلى مقر الشرطة، ثم أخبرني العقيد الممتاز أنه توصل من العاصمة الرباط بأمر مفاده منع عرض مسرحية “السلاحف”، التي كانت تقدم تحت إشراف وزارة الثقافة ووزيرها الأول محمد الفاسي (9).
هذا في تقديري ليس سردا تاريخيا وإن كان يبقى في الأصل أرضية لفهم جزئي لماذا أغلب عروض الفنان نبيل لحلو يحضرها قلة من المتلقين فحضور تلك القلة في حد ذاته يعطي لصرخته امتلاؤها رغم قتامة الوضع المسرحي فالفنان لحلو أو سقراط زمانه لم ينزلق لبوتقة التشاؤم والعدمية بل يقاوم ويتصارع بناء على الفيض الداخلي للذات الحية المتشبعة بالثقافة المسرحية حقيقة وليس زيفا لكن لسان حاله الباطني يقول ما سوف يحطمني في النهاية إن تحطمت لن يكون ملتس أو أنيتس ولكن حديث العالم السيئ وشعوره السيئ الذي كان سببًا في هدم كثير من الرجال الطيبين الآخرين فيما مضى أجل وسوف يكون سببًا في المستقبل كذلك فيما أحسب ولن يكون الأمر معي على خلاف ذلك. (10).
الاستئناس:
1- ثمانية متفرجين فقط في عرض مسرحي مغربي والجدل يتجدد حول غياب الجمهور بقلم عبد العزيز بنعبو صحيفة القدس العربي بتاريخ 3 نوفمبر 2025 .
2- تدوينة بوجمعة العوفي على جداريته بتاريخ 29 أكتوبر 2025.
3- لا زلت مُحارباً من طرف الفاشلين الذين يسيّرون أمور السينما المغربية، حاورته فتحية النوحو في صحيفة “رصيف22″، بتاريخ 8 يناير 2022.
4- لحلو فشلت في تكوين جمهور مثقف ومسرح الموظفين خضرة فوق طعام، في صحيفة هسبريس، حاوره وائل بورشاشن، بتاريخ 26 يناير 2024.
5- ثمانية متفرجين فقط في عرض مسرحي مغربي والجدل يتجدد حول غياب الجمهور الاستئناس السابق.
6- الإرهاب وصناعه لعلي حرب ص10 الدار العربية للعلوم بيروت ط1 2015.
7- سقراط الرجل الذي جرؤ على السؤال لكورا ميسن ت محمود محمود ص100 مؤسسة الهنداوي 2017.
8- نفسه ص103
9- لا زلت مُحارباً من طرف الفاشلين الاستئناس السابق.
10- سقراط الرجل الذي جرؤ على السؤال ص 106 الاستئناس السابق.
