نُخَبُ الصحافة المغربية تتحرك من تحت الثرى
عبد الرحيم التوراني
في أعمق نقطة من السكون الأبدي، حيث تنام أصوات الرصاص وهمس الملاحقات وصرامة التحقيقات، اهتزت الأرض في تلك الردهة الأزلية. لم يكن الاهتزاز بفعل زلزال طبيعي، بل بوطأة انكسار الحقيقة في عالم الأحياء. كانت أرواح الرواد تستشعر الفضيحة وتجاوزات لجنة الأخلاقيات التي وُضعت لتصون المهنة فكادت أن تقتلها.
هنا، في هذا المركز الأبدي، لم يعد الصمت ممكنًا. تساءلت القامات الراحلة بوجع، وهي ترى ما يحدث للصحافة النزيهة: كيف تنتفض أرواح الرواد الراحلين…
“تتحرك دكة غسل الموتى.. أما أنتم لا تهتز لكم قصبة”؟ كما قال مرة الشاعر مظفر النواب.
لقد دقت ساعة الحقيقة الأخيرة.. والصمت لم يعد خيارًا.
غضب الرواد
بذبذبة ألم وصلت إليهم من الساحة الصحفية المغربية، اجتمعت القامات.. كانت الهالة البيضاء تحيط بعبد الكريم غلاب، وبجانبه جلس محمد العربي المساري، رئيس تحرير “العلم” السابق، وخلفه في إدارتها.
على الطرف الآخر، كان علي يعتة، مؤسس صحافة الحزب الشيوعي وحزب التقدم والاشتراكية، ومدير “البيان”.. صامتًا كعادته.
ابتدأ محمد الباهي:
– لقد تابعنا ما يكفي.. صوت الأزيز الذي وصلنا ليس أزيز حبر، بل صوت انكسار لقواعد المهنة...
ابتسم عبد الفتاح فاكهاني بمرارة:
– لجنة الأخلاقيات! هذه مفارقة سوداء.. إننا نجد من يُشرف على “الأخلاق” وقد أصبح هو نفسه رأس الفضيحة...
تدخل خالد الجامعي، وارتفع صوته الهادر غضبًا:
– الأمر تجاوز الفساد… إنه استهداف حقيقي لإبادة الصحفيين النزهاء.. لقد سمعت رئيس اللجنة يرمي صحفيًا متظلمًا بعبارة: “شكون أنت؟“ (من تكون أنت؟)…
يا زملاء، إن هذه العبارة المهينة ترشح من محبرة المتسلط وزير الداخلية المقبور إدريس البصري.. لقد حاول تسديدها إلى صدري ليرديني قتيلاً ذات يوم، لكني رددتها إليه. واليوم تعود لتُطلق الرصاص على كرامة الصحفيين…
تنهد عبد القادر شبيه، الصحفي الوديع:
– ما يحزنني هو الفراغ الذي خلّفه هذا الاستهداف… لقد باتوا يخافون من القلم أكثر من خوفهم من السجن، والأخطر أنهم يخافون من عبارة “الصحفي الزميل“…
رفع الباهي رأسه:
– ألا تتفقون معي أن ما يُمارس اليوم هو تدمير للذاكرة المهنية.. إنهم يقتلون الصحافة النزيهة لأنها تُعرّي، وهي تستهدفهم لأنها تتذكر وتوثق…
بنبرته الرصينة والفصيحة تكلم علي يعتة:
– الصحافة سلطة مضادة، وليست مجرد مرآة. عليهم أن يعلموا أننا، حتى في هذا الركن الهادئ، ما زلنا نرى كل شيء...
مكارثية جديدة؟
التحق بهم القادمون: نادية برادلي، وعائشة مكي، وحسن عمر العلوي، وأحمد صبري، ومصطفى اليزناسني. وانضم إليهم رسامو الخطوط: إبراهيم لمهادي وبلعيد بويميد، وإلى جانبهما جلس عبد العزيز مريد، رسام الأشرطة المرسومة، المعتقل السياسي السابق.. أما عبد الجبار السحيمي فلم يختر هذه المرة الكتابة “بخط اليد”، بل فضل أن يوثق المشهد بكاميرا فوتوغرافية.
تحدثت نادية برادلي، بصوتها القاطع:
– أنا التي قضيت سنوات من شبابها في سجون إسرائيل، أقول لكم إن ما شاهدته يذكرني بالنازية والمكارثية.. إنهم يريدون زرع الخوف المنهجي لقتل المقاومة الداخلية...
تدخلت عائشة مكي، الصحفية البارزة المتخصصة في التحقيقات الاجتماعية وتغطية وقائع المحاكم، بصوت يمزج بين الحزن والعمق:
– إنهم يهاجمون الجودة.. التحقيق الاجتماعي الهادئ الذي يكشف الوجع بأسلوب أدبي، هو أكثر ما يخشونه… يجب أن يُذكِّروا الصحفيين اليوم بقيمة الأسلوب الجميل في نقل أبشع الحقائق...
ثم تدخل حسن عمر العلوي:
– لو كان أحدنا الآن هناك، لـحول فضيحة اللجنة ورئيسها إلى مسرحية هزلية كبرى… القلم الساخر سلاح فتاك يُفقدهم مصداقيتهم...
أشار أحمد صبري، الصحفي المتعدد المواهب، وقال:
– الصحافة التي تقاوم التصفية هي تلك التي تعتمد على الوثيقة والتحقيق المتعمق...
أضاف مصطفى اليزناسني، الصحفي النزيه:
– عليهم استخدام الأرشيف كمرجع لإدانة كل من يبيع ضميره اليوم…
في تلك اللحظة، رفع إبراهيم لمهادي رسمه الشهير للسفينة الغارقة، وفاجأهم بلعيد بويميد برسم آخر يحمل عنوان “عائدون“.. فيما كان عبد العزيز مريد يخطط لشريطه المصور عن سنوات الرصاص الجديدة وجلادي الصحفيين من موقع مؤسسة يزعم أنها تمثلهم!!!...
واختتم الباهي المشهد موجها كلماته إلى الجيل الجديد:
– اجعلوا من قلمكم الخالد سيفًا لا يُكسر، فالموت الحقيقي هو موت الضمير، لا موت الجسد…
الصراع الأبدي
تسللت الأوامر الحادة من مكتب “الرئيس” المستهدف بالفضيحة، كرد فعل على هذا الإجماع القوي، بقطع التمويل ورفع الدعاوى القضائية.
في الساحة، بدأ الضغط الشعبي والجماهيري يقوى ويتزايد، وتلقى الصحفيون التهديدات، لكنهم لم يبق وحدهم في المواجهة.
أدرك الصحفيون الأحياء أن المعركة ليست جولة واحدة.. إذ أصبح الصراع يدور حول مفترق طرق..
هل ستنجح الإجراءات القمعية في إغراق سفينة الصحافة بالضغط المالي والقانوني؟!
أم ستستمر الروح الجديدة في سد الثقوب.. محولة الذاكرة والتوثيق والسخرية والفن إلى أسلحة خالدة تنتصر بها على الموت المهني، مجيبة على سؤال “شكون أنت؟” بـ “نحن حراس الحقيقة”؟
