حكايات من الذاكرة: عندما حلّ “الفاجومي” ضيفًا على الدار البيضاء
عبد الرحيم التوراني
تحلّ علينا اليوم ذكرى وداع عزيزة، ذكرى رحيل الشاعر المصري الكبير، أحمد فؤاد نجم، الذي غادر مسرح الحياة في الثالث من ديسمبر عام 2013، تاركًا وراءه قصائد هي صوت أمة.
كم كنت محظوظًا حين أُتيحت لي فرصة لقائه ومجالسته أيامًا، والحديث معه في شؤون تمتد أبعد من رمال الشعر وخشبة المسرح… كان حلم “العم أحمد” (كما كنا نناديه) أن يستقر هنا في المغرب، وأن يشكّل فرقة مسرحية بروح مغربية خالصة، مستعينًا ببعض الهواة الذين تعرف عليهم على كراسي حانة “تور حسان” بشارع الجيش الملكي بالدار البيضاء.

لكن الأقدار، ممثلة في “رأي السلطات”، كانت لها دومًا الكلمة الأخيرة.
وصل نجم إلى المغرب بجواز سفر ليبي، قادمًا من زمن القذافي الذي أكرمه.
استقر به المقام أول الأمر في فندق “الموحدين” الراقي (أربع نجوم حينها) بشارع الحسن الأول. وما كاد الخبر يطير حتى وصل إلى الشاعر والرياضي أحمد صبري، الذي لم يتردد لحظة، فمضى إلى “الموحدين” لينقله فورًا إلى دفء منزله في حي “الإنارة” بمنطقة عين الدياب. خصص له صبري غرفة وسط أسرته، وأصبح نجم ضيف العائلة لا ضيف الفندق.
وبصفته مسؤولاً في اتحاد كتاب المغرب، بادر صبري بتنظيم لقاء جماهيري ضخم لصاحب “يعيش أهل بلدي”. بـ”قاعة الأفراح” (الملاصقة لحانة “تور حسان”)، التي غصّت بالحضور.. شباب ومناضلون بيضاويون أتوا ليتنفسوا شعر نجم وأغاني الشيخ إمام.
بعد اللقاء، انتقلنا برفقة بعض الأصدقاء، إلى منزل صبري، حيث أقيمت وليمة تليق بمقام “الفاجومي”. وفي غمرة الليل، وعند منتصفه تقريبًا، طلب نجم حقيبته الصغيرة (الموزيط). اندهش صبري من هذه الرغبة المفاجئة، لكن نجم أصرّ على المغادرة برفقة أحمد السنوسي، الذي لم يكن قد تعرف عليه إلا في تلك الأمسية.
هكذا، انتقل نجم للعيش في شقة “بزيز” بحي كوتيي؛ تلك الشقة التي أصبحت خلية لقاء ثقافي. هناك التقى بالعربي باطما، نجم فرقة “ناس الغيوان”، الذي كان يسكن في العمارة نفسها، وعقد لقاءات مع مثقفين وصحفيين.
وداخل هذه الشقة تحديداً، وعلى مدى أيام، حاوره الزميلان عبد الكريم الأمراني وحسن نجمي، في حوار مطول أصبح مرجعًا نُشر أولاً في “الاتحاد الاشتراكي”.
كما التقى أحمد فؤاد نجم بالمثقفة إيديث صول دوردان. وهي يهودية مغربية تقدمية، ومن أصدقائها الكاتب محمد برادة والشاعر باللغة الفرنسية مصطفى النيسابوري، والكاتب إدموند عمران المليح..
وما رسخ في ذاكرتي هو أن أحمد فؤاد نجم قد أُسِرَ بالسيدة إيديث حقًّا.. كان إعجابه متكاملاً بأناقة أستاذة مادة التاريخ السابقة بثانوية ابن تومرت، وبجمالها الآسر، وبعمق ثقافتها، وبساطتها الأخاذة، وصولاً إلى تدخينها المميز للسيجار الكوبي.
لكن دوائر البوليس بدأت تضايقه، وكان المدعو احميدة بنعبد الإله (المتحدر من مدينة وجدة) هو المسؤول عن جهاز الاستخبارات بالعاصمة الاقتصادية، وقد ظهر اسم احميدة بن عبد الإله، كواحد من أعضاء “الكاب وان” ضمن لائحة الفالتين من العقاب، في اللائحة التي أصدرتها الجمعية المغربية لحقوق الإنسان.
جاء الأمر لمنزل أحمد السنوسي بضرورة إخراج نجم، وهو ما رضخ له “بزيز”، فانتقل نجم ليقيم مع مجموعة من الشباب المسرحيين في حي سباتة. وبعد انتهاء مدة تأشيرته، غادر المغرب.
ويا للمرارة، حتى حواره الذي أجرته معه مجلة “لوميساج دولاناسيون” (التي كانت ترأس تحريرها نادية برادلي ويديرها عبد الله الستوكي)، لم يظهر، فقد جاء الأمر بمنع نشره.
بعد سنوات، استردّ المغرب شاعر “ورقة.. من ملف القضية”، حين عاد أحمد فؤاد نجم ضيفًا رسميًا على معرض الكتاب الدولي بالدار البيضاء، في عهد الوزيرة الفنانة ثريا جبران. هذه المرة كان بصحبة ابنته نوارة، ثمرة زواجه من الكاتبة صافيناز كاظم.
تبقى تلك الأيام صفحات مضيئة في تاريخنا الثقافي المشترك، أيامٌ تنبض برائحة الحرية وصوت الثورة، وذكريات لن تمحوها السنون.
هذه مجرد لمحات من تلك الأيام، وخلف كل مشهد تبقى تفاصيل صغيرة لم تُروَ بعد. أرجو أن أتمكن من استحضارها وكتابتها قريباً، لإكمال صورة الفاجومي في ذاكرة البيضاء.
