الاحتفالية بين مسرح يشبهنا ومسرح لا يشبهنا
د. عبد الكريم برشيد
فاتحة الكلام
هو سفر احتفالي، شاق وطويل جدا، ولكنه ممتع تماما كما هي الحياة ممتعة، وهو سفر فكري وإبداعي لم أكن فيه وحدي، وهذا ما زاد هذا السفر جمالا وجلالا، لقد كنا فيه جماعة، وكانت هذه الجماعة برتبة أسرة، وكنا في هذه الأسرة إخوة، وكان المسرح وحده في هذه الجماعة ـ الأسرة هو الأب وهو الأم، وكان هو البيت، بل كان هو الوطن، وكان الذي يجمعنا هو الفكرة الصادقة، وهو المبادئ الإنسانية الجميلة والنبيلة، وهل هناك ما هو أبلغ وأصدق من أخوة الطريق، ومن أخوة الفكرة، وفي هذا المعنى يقول شمس الدين التبريزي:
(العين لا تهوى إلا ما تراه، والعقل لا يهوى إلا ما يفهمه، والروح لا تهوى إلا ما يشبهها).. ولقد تشابهت أرواحنا قبل أفكارنا، فجاءت الاحتفالية لتكون ذاتنا الجماعية الكبرى، وذابت الأنا ومعها الأنانية، وارتقت هذه النحن لتصبح في درجة النحنية.
ولعل أجمل وأصدق كل الطرق هو الطريق التي ينطلق منا ليؤدي إلينا، والتي توصلنا إلينا، أي إلى المعروف الذي نسيناه، وهو الطرق الذي ينتهي بأن تجد ووطنك فيه، وتجد فيه بيتك، وتجد فيه علمك، ونجد فيه ثقافتك، ونجد فيه لغتك، وتجد فيه أهلك وصحبك وكل رفاقك..
وما أكثر الذين ضپعتهم الطرق، فوجدوا أنفسهم خارج عالمهم وخارج ثقافتهم، وكانت النتيجة أنهم في النهاية قد عرفوا كل الآخرين في البلدان الأخرى، وفي الحق التاريخية الأخرى، ولم يعرفوا أنفسهم، ووصلوا إلى كل الأوطان البعيدة، من غير أن يصلوا إلى وطنهم الحقيقي
وهذا الاحتفالي المشاء، هو الذي مشى في الطريق الاحتفالي السليم، وهو الذي عرف أنه احتفالي، والذي قال وكتب، والذي صرخ بأعلى صوته في وجه العالم وهو يردد:
( أنا احتــــــفـــــــــــالي. ..).
ولقد كان هدف هذه الجماعة، هو أن لا تبقى جماعة، وأن تتسع حتى تصبح مجتمعا، وأن تبني هذه الجماعة ـ المجتمع مدينتها المستقبلية، والتي راهنت على أنها ستكون في المستقبل هي المدينة السحرية الفاضلة.
وهذا السفر، ولحد هذا اليوم، مازال متواصلا، وهو الآن يقترب، يوما بعد يوم، من الاحتفال بالذكرى الذهبية لذاك البدء الذي كان، في تلك الأيام الربيعية الدافئة التي كانت، من سنة 1976.
هو نصف قرن مضى إذن، من أعمارنا ومن أعمار الاحتفالية أيضا، نصف قرن من الحلم ومن الشغب ومن البحث ومن الخيال ومن الأمل ومن التحدي ومن التصدي ومن الحراك ومن الجرأة ومن النضال ومن الإصرار على الوجود وعلى الحضور وعلى الحياة في درجاتها العليا والسامية.
وهو سفر عشناه بعشق، وذلك في طريق عرفنا بدايته فقط، ولم يكن يهمنا أن نعرف نهايته، ومتى كانت للبدايات الصادقة والجميلة نهاية؟
ولقد تأكد لنا اليوم، وبعد كل هذه السنوات الطويلة من الحفر في الصخر، أن من يراهن على الحقيقة يراهن على الخلود، ويراهن على الأبدية، ويراهن على الطاقات الوجدانية والفكرية الجديدة والمجددة والمتجددة.
هذا السفر الاحتفالي إذن، هو طريق مشيناه خطوة خطوة، وهو كتاب كتبناه كلمة كلمة، وهو فكر احتفالي نظمناه فكرة إلى جانب فكرة، لنصل بعد سنوات من البحث ومن الاجتهاد إلى هذا المنظومة الفكرية والجمالية والأخلاقية التي أطلقنا عليها اسم (فلسفة التعييد الاحتفالي).
وما أجمل أن تعيش، أنت الاحتفالي، نصف قرن في الكون الاحتفالي الجميل، وأن لا تمشي في الطريق وحدك، وأن يكون معك كل الاحتفاليين الصادقين، وأن يقول الاحتفالي كلمته، وأن يكتبها بدمه قبل حبره، وأن ينشرها في كل العالم، وأن يسجلها في في سجلات الزمان، وأن يدونها في كل مدونات التاربخ، وأن يصوتها ويرعاها ويحرسها، وذلك على امتداد عقود طويلة جدا.
هذا السفر الاحتفالي هو سفر فكري ووجذاني وأخلاقي وروحي قبل أن يكون سفر أجساد في الزمان وفي المكان، ولعل أهم ما يميز هذا السفر الاحتفالي هو أنه يربط بين ذات إنسانية حية، كانت وعاشت بالأمس، بذات (أخرى) أصبحت اليوم، وهل هي فعلا ذات أخرى، أم هي نفس الذات، والتي اتسعت مع توالي الأيام والليالي، والتي اغتنت فكريا ووجدانيا، والتي تمددت في الجغرافيا، وتجددت في التاربخ، والتي تكيفت مع الأزمان الجديدة، من غير أن تضيع جوهرها الفلسفي، كما تكيفت مع المعطيات الجديدة ومع الشروط الجديدة ومع الظروف المناخية والثقافية والعلمية الجديدة؟
الاحتفالي الذي يمشي، مازال يمشي..
وهناك اليوم من لا يفكر إلا في شيء واحد ووحيد، والذي هو موت الاحتفالية، معتقدا أنه إذا ماتت هذه الاحتفالية، ومات كل الاحتفاليين، فإن كل قوانين الكون وكل قوانين التاريخ وكل قوانين الجغرافيا وكل قوانين الفيزياء وكل قوانين الكيمياء سوف تتغير في لحظة واحدة، وأنه من المحتمل جدا أن تشرق الشمس، في زمن ما بعد الاحتفالية من الغرب، وليس من الشرق، وأن يصبح الفراغ والخواء، في الفكر والعلم، أكبر وأخطر من الخواء فيهما.
هو مسار زمني قطعناه بصدور عارية وبأقدام حافپة، ولكن قلوبنا لم تكن حافية، ولا كانت أرواحنا حافية، لقد مشينا على الورد حينا، ومشينا على الأشواك في أغلب الأحيان.
وفي هذه المسيرة كنا نمشي، وكنا نراقب أنفسنا ونحن نمشي، وكانت لنا في نفوسنا وعقولنا مرايا صادقة، لا تعرف المجاملة، ولا تكبر الأمر الصغير، ولا تصغر الأمر الكبير ، ولا تظهر قامتنا إلا وهي في حجمها الحقيقي، ولا تظهر وجوهنا إلا بالوانها الطبيعية الحقيقية، اي بدون ألوان ولا أصباغ، وبلا مكياج وبلا أقنعة، وبلا أزياء كرنفالية.
ومع كل السهام التي كانت تأتينا من كل الجهات، فلم نفقد الأمل في الآتي، ولقد أتى الآتي، وما تغير اليوم أي شيء، وأصبح الواقع اليوم أسوأ مما كان بالأمس، وفي ظل هذه الشروط الجديدة أصبح من حقنا أن نردد مع الشاعر الغنائي أحمد رامي، وأن نقول معه:
( العمر فات
في أمل وخيال
والقلب مات
من كثر ما مال
وفضلت بعد الملل
عندي أمل
في الأمل)
ولا يمكن أن تكون احتفاليا، وألا يكون قلبك طافحا بالأمل وبالجمال وبالفرح، ولقد سافرنا، مشيت على الأقدام، ولم تكن نعرف هل سنصل أو لا نصل، ولا أين يمكن أن نصل، ولا متى سوف نصل، ولقد ردد الاحتفالي مع إليا أبو ماضي في قصيدته (لست أدري) وقال معه:
(جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت
ولقد أبصرت أمامي طريقا فمشيت)
وفي البدء إذن كان الطريق، ولقد اكتشناه صدفة، وشكرا لتلك الصدفة العاقلة والحكيمة التي أهدتنا طريقنا، وأهدتنا معها حياتنا الحقيقية، وأهدتنا فكرنا وعلمنا وصناعتنا المسرحية الحفيقة، وذلك في عالم تعددت فيه الطرق وتشعبت، بين الطريق العبثي والطريق الفوضوى والطريق الماساوي والطريق الملهاوي والطريق العدمي، ولقد اخترنا نحن الطريق الاحتفالي، مؤمنين بأن السير فيه سيوصلنا إلى العيد، وبأننا سوف نلقى الفرح الصادق في هذا العيد، ولقد أغرانا هذا الطريق الاحتفالي والعيدي بأن نمشي فيه، فمشينا فيه، ولحد هذا اليوم مازلنا نمشي، بنفس روح طفولتنا التي كانت، وبنفس تلك العيون التي كانت، والتي أبصرت نور الله لأول مرة، وبنفس ذلك العشق الصوفي الذي ساقنا إلى الجمال والكمال، ودلنا عليهما.
النقد الذاتي والعين الثالثة
وخارج نقد الآخرين، والذي هو أسهل النقد وأرخص النقد، والذي جاء هذه الاحتفالية من خارجها، والذي كلمها بغير لغتها وبغير علمها، فقد مارس الاحتفاليون على أنفسهم وعلى تجربتهم نقدهم الخاص، والذي ينطلق أساسا من العين الثالثة، والذي هو عند كل الناس له اسم وعنوان واحد، والذي هو النقد الذاتي، ولقد عاش الاحتفاليون هذا النقد، من خلال التصحيح والتصويب ومن خلال المراجعة والتعديل، ومن خلال الحذف وإعادة الترتيب، وكان ذلك إيمانا منهم بأن من لا يرى عيوبه، قبل أن يراها الآخرون، لا يمكن أن يصلح أمره، ولا يمكن أن يذهب بعيدا في مشروعه الفكري والحمالي، وبهذا فقد أمكن أن نقول بأن أول من انتقد الاحتفالية بعشق، كان احتفاليا، وبأن أصدق من انتقد الاحتفالية علميا. موضوعيا قد كان احتفاليا.
ولقد اقتنع الاحتفاليون مبكرا، بان هذا النقد الذاتي هو أصدق النقد، وأن ذلك الصدق الخارجي، وفي كثير من نماذجه وحالاته قد يكون نقدا ظائما، أو مجانبا للصواب، لأنه مؤثث في بعض تجاربه بالكثير من الاعتبارات وبالكثير من الحسابات وبالكثير من الحساسيات، والتي قد تكون بعيدة جدا عن روح العلم وعن جوهر الفكر، وعن اخلاقيات الفن الحقيقي، ولهذا فقد كان مثل ذلك النقد البراني في حاجة إلى نقد آخر مختلف ومختلف، نقد يفهمه ويحلله وبجادله منطقيا وعقليا، وانطلاقا من إيمان الاحتفاليين بأن الحقيقة توجد في ملتقى الطرق، وفي مفترق الآراء والمواقف، فقد أصدر الاحتفالي كتاب (الاحتفالية مواقف ومواقف مضادة)، وذلك في جزءين وقد صدر الجزءان في تاريخين متباعدين
وفي هذا الكتاب، تساءل الاحتفالي، هل نحن من ينطق الحقيقة، أم أن هذه الحقيقة هي التي تنطق نفسها؟
وهل وجهة النظر، عند هذا أو ذاك، أو عند هذه الجماعة أو تلك، يمكن أن ترقى لتصبح هي الحقيقة، كل الحقيقة؟
ونحن في التفكير الاحتفالي وفي الكتابة الاحتفالية، وفي الإبداع الاحتفالي، لم تكن ندعي في العلم فلسفة، وكنا مجرد مراة ناطقة وكاتبة، نعكس ما نراه وما نحسه وما نحباه بصدق، ولهذا فقد تعودت أن أقول دائما بأن كل المرايا تظل بريئة في كل الحالات، وما كان يزعج الاحتفالي أكثر، هو وجود إدارات وهيئات في المسرح غير عاقلة وغير منصفة وغير ديمقراطية، مع أن الأصل في هذا المسرح هو أنه أبو الديمقراطية وهو مدرسة الديموقراطية، وهو مدرسة التعدد والاختلاف، وهو الحوار والجدل، ونسأل كل الاجازات وكل النقابات وكل الهيئات المسرحية، هل هي فعلا هيئات ديمقراطية؟ ام إنها شركات بها مديرون وموظفون وأجراء وإداريون؟
يقول شمس الدين التبريزي:
(قبل أن تصل إلى الباب الصحيح
يتوجب عليك أن تقرع كثيرا من الأبواب الخاطئة
فالأخطاء ليست سيئة، بل هي التي تقود إلى النضج)
وفي رحلة هذه الاحتفالية، عشنا الحيرة والشك، وبحثنا عن اليقين، ولقد طرقنا، في مسيرتها الاحتفالية، كل أبواب العلماء والحكماء والشعراء والمبدعين، وقبلها طرقنا باب الله، ومن حسن حظنا أن كل ابواب الكرماء قد انفتحت في وجهنا، إلا ابواب الجاهلين وأبواب البخلاء وأبواب الفقراء نفسيا وعقليا وأخلاقيا، هؤلاء فقط هم الذين اغلقوا كل الأبواب وكل النوافذ وكل الشرفات في وجوهنا.
التأسيس يبدأ من درجة الصفر
وفي كتاب (عبد الكريم برشيد وخطاب البوح حول المسرح الاحتفالي) للأستاذ عبد السلام لحيابي، وجوابا عن سؤال (الاحتفالية تيار من التيارات المسرحية العربية، ما نقاط الالتقاء والاختلاف مع التيارات المسرحية العربية الأخرى؟)، يقول الاحتفالي ما يلي:
(نحن نؤمن بأن الطريق المسرحي هو طريق واحد، ونعرف بأننا كلنا ملتزمون بأن نمشي في هذا الطريق، ولكن، هناك من اختار أن يبدأ فعل السير فيه من بدايته، أي من نقطة التأسيس، ومن درجة الانطلاق، وهذا هو ما قامت به الاحتفالية، أي أنها ابتدأت من البداية، والتي بمثلها الاحتفال الشعبي الخام، وفي المقابل، فهناك من فضل الابتداء من النهاية، أي مما انتهى إليه الآخرون، وبهذا يكون قد اعتنق مسرحا جاهزا، ولم يؤسس مسرحه الخاص كما فعلت الاحتفالية، ويكون قد فضل الكسل على الاجتهاد، وفضل الاتباع على الإبداع، وفضل الدخيل على الأصيل، لقد بحث المسرح التجريبي عن مسرحه لدى الآخرين، وقدم مسرحا غريبا عن الأرض وعن الإنسان، وعن ثقافة هذا الإنسان، اما التيار التأصيلي فقد كانت هجرته إلى الماضي وإلى الموتى، فكان ضروريا أن يكون مسرحه مسرحا تقليديا وسلفيا، وأن يقوم على تمجيد الماضي، وعلى الاحتفاء بالأسلاف، وبهذا يكون قد قبض على ظلال التاريخ من غير أن يقبض على جوهره وروحه… وبذلك يلتقي التياران التجريبي والتفاصيل في التأكيد على الشكلانية البرانية، وفي الاحتفاء بالآخر الغائب، بدل الاحتفاظ بالنحن الحاضرة وبالآن الحية وبالهنا أيضا).
وللحقيقة والتاريخ، وفي ختام هذا البوح، أو هذه الشهادة، أقول الكلمة التالية:
إن ما يميز الاحتفالية هو أنها لا تنطلق في أحكامها وعلاقاتها إلا من مرجعها الفكري، والذي هو (إنسانية الإنسان وهو حيوية الحياة وهو مدنية المدبنة)، وهو (التعبير الحر للإنسان الحر في المجتمع الحر)، ولهذا فإنني في هذه الكتابة، لا أدين شخصا معينا أعرف أنه إلى زوال، ولا أدين أية جهة من الجهات أعرف أنها عابرة، ولكنني أدين الاستبداد الطالم، في السياسة وفي الثقافة وفي الفن، وفي كل مناحي الحياة، وأنا في احتفالياتي مع المشاركة ومع الاقتسام ومع الحوار ومع الشورى، وذلك في صياغة المبادرات المصيرية المختلفة، والتي يمكن يمكن أن تحدد فنا من الفنون أو علما من العلوم أو صناعة من الصناعات.
