حبيبتي الدولة.. (في زمن التشظي وغياب اليقين)
عبد الرحيم التوراني
أسمح لنفسي باقتباس هذا التعبير، “حبيبتي الدولة”، من عنوان إصدار للشاعر اللبناني محمد العبد الله، نشره قبل أربعة عقود… عنوان شبيه باستغاثة امرأة العمورية لما صاحت “وامعتصماه”.. كان الشاعر يستغيث بدولة تخلص بلده من جحيم الميليشيات، دولة تنشر الأمن وتوطد الاستقرار بعد سنوات الحرب الأهلية التي دامت عقدًا ونصف…
لكن ما العلاقة بين هذه وتلك؟ بين المغرب ولبنان الحرب الأهلية؟
(وهنا تكمن المفارقة الساخرة الحزينة يا صديقي) سأؤجل الإجابة…
وما دمت بدأت بالشعر، فسأبقى في الغناء، وأردد مع عبد الحليم، بعد الاعتذار له عن التعدي، (الصحفيون يتساءلون.. في حيرة وظنون… حبيبتنا الدولة من تكون…؟)…
غير أني أخشى أن تتحرك مسطرة أقسى من المسطرة – المطرقة التي يهيئونها لتنزل على رؤوس المشككين في تزوير الانتخابات، فما بالك بمن سيتجرأ ويشكك في جوهر “الدولة” ذاتها؟
أتساءل، ومعي الكثيرون الذين يهمسون خلف الجدران، عن غياب حبيبتنا الدولة، أين راحت؟ وفي أي غرفة مرصودة موصودة أبوابها عليها؟ ومن يقترب منها ليخبرها بما يجري ويحصل، “مفقود يا ولدي.. مفقود…” كما أخبرنا نزار قباني وعبد الحليم في “قارئة الفنجان”…
يبدو أن موظفي الإخبارية الخاصة بها يتعاطون “التخدير الجماعي”، أو أنهم يفضلون “السكوت” لئلا يزعجوا “حبيبتنا النائمة”.
تعال نتأمل الكارثة الوطنية المسماة “فضيحة الفيديو المسرب” من قبو ما يسمى “اللجنة المؤقتة المكلفة بقطاع الصحافة”… ذلكم الفيديو الناطق بالصورة بألوانها الطبيعية وبالصوت الواضح، والذي لو حدث في دولة أخرى، لأحدث بها ما تُحدثه الزلازل فعلاً، لأن ما حصل يعد كارثة حقيقية، وأرددها بمرارة.
لو حصل ما حصل في بلد يحترم “مسرح الديمقراطية” (ولو كان مسرحًا هشًا)، لأسقط الحكومة على الأقل، أو لأدى بـ “الوزير الوصي على القطاع” إلى تقديم استقالته فورًا، بدموع التماسيح المعتادة.. وبـ “الما والشطابة” غير مأسوف عليه…
لكن هنا؟ لا زلازل ولا هزَّات ارتدادية، فقط صمت ثقيل يُطعم اليأس.
في بلدان أخرى محترمة، نتابع استقالة الوزراء والمسؤولين لأسباب أقل، ولتصرفات لم تتجاوز حدود تصريح فالت، أو “تغريدة حمقاء” أو “تهرب ضريبي صغير”. أما هنا، فنحن نشاهد أبطال الفضيحة وهم يستأسدون و”يجهلن فوق جهل الجاهلينا”!!!
بدلًا من أن نراهم مجرجرين أمام العدالة ومتابعين أمام القضاء على أفعالهم الواضحة والمرتكبة عن عمد وسبق إصرار… أو على الأقل أن يختفوا عن المشهد ويغيبوا عن الأنظار خجلًا…
لكننا نراهم يعلنونها حرباً ضد من فضحهم!! فشاهدنا السيد يونس مجاهد (بأي معنى للجهاد هذا؟) يخرج علينا في صحيفة “التشيطين بوست” (ويا له من اسم يليق بهم!) بصورته وثرثرته، متحديًا الجميع، وكأنه يقول لنا: “ولتشربوا البحر!”…
وهنا يحضرني الاقتباس الأكثر سخرية ووجعًا… سأقتبس من سكيتش للفنان حسن الفد، لكن في السياق المضاد تمامًا، متسائلًا بصوت مكتوم بالخيبة: “هذي دولة؟… هذي دولة؟!”
يحدث هذا في زمن غير الزمن الذي قيل لنا إنه زمن نهاية “سنوات الرصاص”… الجميع يمينًا ويسارًا يلعن العهد الأفقيري الدموي، ويدين عهد الوزير إدريس البصري… وقيل لنا إن ضحايا تلك السنوات تم جبر الضرر لهم وأخذوا تعويضات مادية، وأننا طوينا صفحة الماضي المظلم إلى الأبد.
لكن ما نراه رؤية العين ونحسه ونعاني من ناره ولظاه، هو سنوات رصاص وجمر جديدة تم إشعالها من جديد، لكن ببطء وتخدير أقل درامية من السابق.. والذي تغير هو الأسماء والوجوه، ربما ارتفعت الكلفة قليلًا، أما الأفعال فربما هي أكثر إيلامًا ووقاحة.
كأنما التاريخ يكرر نفسه، لكن ليس بطريقة كاريكاتورية كما أخبرنا المفكر الألماني كارل ماركس، بل يكرر نفسه بطريقة أكثر مأساوية ودرامية وعبثية. فالأمس كان “رصاصًا ظاهرًا”، واليوم “رصاص في الروح”، يقتل الثقة ويصيب الشرف المهني في مقتل.
إنهم سائرون في غيهم، غير مبالين بما وقع من فضيحة مدوية يخجل الإنسان من ذكر الألفاظ النابية التي راجت فيها… وها هم يصدرون الأحكام، ويجهزون المسطرة-المطرقة، بينما هم غارقون في المستنقع…
يحدث هذا في زمن “الحداثة المطعونة”.. التي تنبأ بها صديقنا الشاعر والكاتب محمد بنيس لما أعطاها في كتاب له وصف “الحداثة المعطوبة”.
حبيبتي الدولة، نعم أنت المعنية، لأنك أنت المبتدأ والمنتهى. ليس لنا غيرك نشكو إليه ونطمع في أن يأخذ لنا حقنا، ممن يأذونك ويأذوننا باسمك وباسم “الوطن” الذي يمزقونه بأفعالهم…
***
“حبيبتي الدولة”… لكي تستردي عافيتك، يا حبيبتي، ولكي نعود نحن ونصدق أنكِ هنا، بيننا، ولستِ مجرد حلم جميل خادع، يجب أن تقومي ببعض “التضحيات الدرامية”.
عليكِ أن تتذكري معنى “المحاسبة”. لا تلك المحاسبة البلاستيكية التي تُطبق على صغار الموظفين الذين يسرقون “كيلو سكر” من الدكاكين، بل المحاسبة التي تقتلع رؤوس الفساد الكبيرة التي شاهدنا وقاحتها بأم أعيننا في الفيديو الملعون. يجب أن نرى أبطال “التشيطين” هؤلاء لا يختفون في إجازة مرضية طويلة الأجل، بل يقفون أمام مسطرتك العادلة فعلًا. لكن للأسف، أتخيل أن أول ما سيحدث هو ترقيتهم إلى مناصب أعلى، ربما في قطاع “مكافحة الشائعات”، تقديرًا لصمودهم في وجه الفضيحة!
يجب أن تقرري الاستماع إلينا. الاستماع ليس عبر لجان “مؤقتة” تُشكل لتمتص الغضب ثم تنام في الأدراج. بل الاستماع لـ “الهمس الحزين” الذي يملأ المقاهي ووسائل التواصل الاجتماعي. نحتاج أن نرى أن كرامة المواطنين الذين يفضحون الفساد أغلى من كرامة المسؤول الفاسد (الذي مارس الفساد).
والأهم، يجب أن تقدمي لنا اعتذارًا وطنيًا يليق بحجم الإهانة التي تعرض لها ضمير هذا البلد. اعتذار واضح، وصريح، يكسر جدار الصمت والسخرية…
لكن يا حبيبتي، هذا طلب ساذج، أليس كذلك؟
فالاعتذار يحتاج إلى “روح” تشعر بالخطأ، و”قيادات” تدرك أن منصبها ليس حصانة أبدية، بل مسؤولية ثقيلة تُسحق تحت وطأتها. ونحن نعلم أن آخر ما يفكر فيه المسؤول هنا هو “إسقاط القناع”.
حبيبتي الدولة، لن تُسترد عافيتك بـ “الرصاص في الظلام”، ولا بـ “التحدي السمج” للمفسدين، ولا بـ “الصمت الذهبي” على الجريمة… بل تُسترد بشجاعة مواجهة القبح الذي تسرب إلى شرايينك. حتى ذلك الحين، سنظل نغني لكِ مع عبد الحليم، لكن بنبرة أكثر حزنًا وأكثر تشكيكًا:
(المواطنون حائرون..
والصحفيون يتساءلون..
في حيرة وظنون…
حبيبتنا الدولة… الحنون..
هل ستعودين إلينا حقًا من غير ظنون
كما ينبغي الأمور أن تمشي وتكون
أم سنبقى نجاهد أشباحكِ في وحدتنا
نفنى هباء .. نكون بك أو لا نكون؟).
***
أفيقوا، فالصمت على هذا غيابك “حبيبتي الدولة” هو جريمة أعظم.
