اللغة العربية ومحدودية الفعالية العلمية

اللغة العربية ومحدودية الفعالية العلمية

أحمد لعيوني

           وضعت اليونسكو بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية شعار 2025 حول “آفاق مبتكرة للغة العربية: سياسات وممارسات ترسم مستقبلاً لغويا أكثر شمولاً”. أي دعوة لربط التعليم، الإعلام، التكنولوجيا والسياسات العامة لجعل العربية أكثر وصولاً وحداثة.

تعد اللغة العربية إحدى اللغات العالمية الحية، إذ تحظى باعتراف دولي منذ اعتمادها لغة رسمية في منظمة الأمم المتحدة منذ سنة 1973. غير أن هذا الاعتراف ظل في جوهره رمزياً أكثر منه وظيفياً، إذ لم يترجم في معظم الدول العربية، إلى حضور فعلي في مجالات البحث العلمي، والتكنولوجيا، والصناعات المعرفية. وتطرح هذه المفارقة سؤال الإرادة السياسية ودورها في التخطيط اللغوي، كما تثير إشكالية التفرقة السياسية بين الدول العربية، وما ينتج عنها من تشتت في السياسات اللغوية وضعف في التنسيق المؤسسي.

وتكتسي هذه الإشكالية أهمية خاصة في المغرب، حيث يتقاطع الاعتراف الدستوري باللغة العربية مع واقع لغوي يتسم بازدواجية معقدة وتعدد لغوي (العربية ولهجاتها الدارجة، الأمازيغية بفروعها، الفرنسية والإنجليزية) مما يجعل التجربة المغربية مجالاً خصباً لتحليل حدود وإمكانات النهوض بالعربية في سياق عربي منقسم.

***

وتجمع أدبيات علم اللغة الاجتماعي على أن تطور اللغات لا يخضع لقوانين طبيعية محضة، بل لخيارات سياسية واقتصادية وثقافية واعية. يؤكد عالم سوسيولوجيا اللغة، الأمريكي جوشوا آرون فيشمان (1926-2015) أن بقاء اللغة وتطورها مرتبطان بمدى تبني الدولة لها في التعليم والإدارة والإنتاج المعرفي، وتخطيط المتن Status Planning.

ومن هذا المنظور، لا تعاني اللغة العربية من قصور بنيوي أو دلالي، بل من ضعف في تخطيط وضعها الوظيفي داخل المجتمعات العربية. ويذهب الأكاديمي التونسي، عبد السلام المسدي (1945- ) إلى أن أزمة العربية هي “أزمة سياسة لغوية لا أزمة لغة”، معتبراً أن الحداثة اللغوية لا تتحقق إلا بقرار سياسي صريح ومتماسك.

***

أدت التفرقة السياسية بين الدول العربية إلى غياب سياسة لغوية عربية موحدة، رغم وحدة اللغة والرصيد الحضاري. ويتجلى هذا الوضع في تباين النظم التعليمية، واختلاف استراتيجيات التعريب، وتعدد المرجعيات المصطلحية في العلوم والتكنولوجيا. بل هناك غياب لاستراتيجيات وطنية وقومية تجعل من العربية لغة للبحث العلمي والابتكار، لا مجرد أداة للتواصل الثقافي والديني. كما أن ضعف العمل العربي المشترك انعكس على مشاريع الترجمة، التي ظلت محدودة الأثر ومجزأة، مقارنة بتجارب لغوية أخرى كالإسبانية أو الألمانية، (مشروع المغربي أحمد الأخضر غزال (1917-2008) في التعريب وحوسبة الحرف العربي الذي لقي معارضة شديدة، خاصة من دول المشرق العربي). ويؤكد تقرير التنمية الإنسانية العربية (2003) أن بناء مجتمع المعرفة العربي يظل رهيناً بإقامة فضاء لغوي عربي متكامل، وهو ما لم يتحقق بسبب الخلافات السياسية وتغليب الاعتبارات القطرية. بالإضافة إلى الأصوات داخل الدول العربية التي تطالب بمعادلة لغات ولهجات محلية وإقليمية بالتوازي مع اللغة العربية، مثل الأمازيغية بفروعها، والكردية…

***

وفي المملكة المغربية، حيث يقر دستور 2011 أن العربية لغة رسمية للدولة، إلى جانب الأمازيغية. غير أن هذا الاعتراف لم يترجم بالكامل إلى سياسات لغوية منسجمة، خاصة في مجالات التعليم العالي، والبحث العلمي، والتكوين التقني. ما تزال هذه القطاعات تعرف هيمنة متزايدة للفرنسية، ثم توجهاً متسارعاً نحو الإنجليزية في السنوات الأخيرة. ويرى عدد من الباحثين المغاربة أن الإشكال لا يكمن في التعدد اللغوي في حدّ ذاته، بل في غياب سياسة لغوية واضحة تُحدد وظائف اللغات وتضمن تكاملها، بدل تنافسها غير المتكافئ.

ويظل النهوض باللغة العربية ناقصاً في غياب أفق عربي مشترك، ينسق الجهود المصطلحية والعلمية، ويُحَوّل العربية إلى لغة إنتاج لا مجرد هوية. فالتجربة المغربية، على خصوصيتها، تعكس حدود الفعل الوطني المنعزل داخل فضاء لغوي عربي منقسم. بينما نجد دولاً عديدة استطاعت تحويل لغاتها القومية إلى أداة علم وإدارة، رغم التعدد الجهوي واللغوي (في إسبانيا : الكتالانية، الباسكية، الغالثية). فإن كانت اللغة الإسبانية (القشتالية) تحظى بوضع مركزي في التعليم العالي، والبحث العلمي، والإدارة، فهي على انفتاح منظم على اللغات الجهوية.

التجربة التركية، شهدت سياسة لغوية صارمة منذ إصلاحات مصطفى كمال أتاتورك (1881 – 1938)، هدفت إلى تحديث اللغة التركية وجعلها لغة العلم والإدارة والتعليم. وقد رافق ذلك استثمار كبير في الترجمة العلمية، وإنشاء مؤسسات متخصصة في المصطلح.

أما كوريا الجنوبية، فإنها تعد من أنجح التجارب المعاصرة في ربط اللغة الوطنية بالتنمية الشاملة. وأصبحت تستعمل في جميع التخصصات العلمية والتكنولوجيا الدقيقة، مع تشجيع تعلم اللغات الأجنبية بوصفها أدوات انفتاح تستثمر في الترجمة، والبحث، والتكنولوجيا اللغوية.

***

إن التفرقة السياسية العربية تشكل عائقا بنيويا أمام نهضة اللغة العربية، ليس لقصور في بنيتها، بل لغياب إرادة سياسية جماعية تُحولها إلى لغة علم ومعرفة. وتبرز حالة المغرب أن الاعتراف الدستوري، رغم أهميته، لا يكفي دون سياسات لغوية مندمجة واستثمار فعلي في التعليم والبحث والترجمة. وعليه، فإن مستقبل العربية، في المغرب وفي العالم العربي عموماً، يظل رهيناً بانتقال السياسة من مستوى الخطاب إلى مستوى التخطيط والتنفيذ الحضاري.

شارك هذا الموضوع

أحمد لعيوني

مؤرخ منطقة امزاب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!