أمريكا والبحث عن السلام المفقود

أمريكا والبحث عن السلام المفقود

أحمد مطر

        باتفاق وقف إطلاق النار الذي رعته واشنطن، والذي لم تلتزم به إسرائيل، بات واضحاً أن الإدارة الأميركية أخذت على عاتقها إمساك المفتاح الأمني؛ استكمالاً لدور الوساطة الذي تلعبه منذ سنوات، حتى بعد مناقلات السفراء الأميركيين ووصول السفير الجديد “ميشال عيسى” لاستكمال المهمة نفسها، وإن اختلفت التوصيفات. ويستمر تقدم واشنطن إلى الأمام بين دول اللجنة الخماسية، التي ضمّت إلى جانبها مصر، السعودية، وقطر، إضافة إلى فرنسا التي سجلت تراجعاً في القدرة على التأثير، أقلّه في فترة ما بعد وقف إطلاق النار.

وفي بيان صادر عن الرئاسة الأولى، اعتبر الرئيس عون أن القيم الإنسانية، وفي طليعتها الحق في الحياة، هي مبادئ عالمية ثابتة غير خاضعة للاستنساب ولا للمزاجية أو الاجتزاء. وقال: «فكما ندين ونرفض الاعتداء على أي مدني بريء في غزة أو في جنوب لبنان أو في أي منطقة من العالم، كذلك بالمبدأ والواجب نفسيهما ندين ما حصل في سيدني».

وقبل انشغال العالم بهذا الحادث، كانت الأوضاع الجنوبية تشهد عودة قاتلة للضربات ضد المواطنين الآمنين؛ فاستهدفت المسيَّرات والقذائف المدفعية مجموعة من القرى الجنوبية؛ من ياطر إلى صفد البطيخ، وجويا، والضهيرة، وحلتا، ويانوح، مما أدى إلى سقوط 3 شهداء.

في المحصلة، يمكن استشراف حركة الموفدين المتقاطعة في الأهداف عربياً وغربياً؛ إذ إنها تأتي في وقت يشهد فيه لبنان حالة من اللااستقرار السياسي والأمني، ما يعزز هذه الأدوار المتنقلة بين الرياض والقاهرة وبين باريس وواشنطن، والمتأثرة بالعصف الاجتماعي المناقض في الداخل اللبناني. وهذا يؤكد أن لبنان، وعقب مجموعة محطات ليس آخرها الاستعراض الذي تمثل بالمسيّرات التي كانت تحتفل بسقوط النظام السوري في العديد من المدن والمناطق اللبنانية وما تركت بدورها من رسائل قريبة وبعيدة، أصبح على قناعة مغلّفة بضرورة الرعاية الخارجية، حتى ولو أوصلته هذه الرعاية إلى وصاية تتحكّم في شكل النظام ومهمته الإقليمية المرتبطة بدوره المستقبلي وتموضعه ضمن الدول المطبّعة بشكل غير مباشر مع كيان الاحتلال الإسرائيلي.

لعلّ ما يحصل على الساحة اللبنانية يؤكد، بشكل أو بآخر، انفتاح لبنان في مشهديته السياسية والأمنية على كل الاقتراحات المعلّبة والجاهزة في المطبخ الدولي؛ لا سيما ما تقدّمه الوفود التي تطوف على المقرات الرسمية وتؤدّي مناسك حجّها في الناقورة، في إشارة إلى أبعاد ما تحمله الرسائل المباشرة وغير المباشرة من أن طريق السلام اللبناني وأمنه الداخلي وسلمه الأهلي يمر عبر بوابة «السلام الإبراهيمي»، وإن كانت الخطوات تحتاج إلى تأنٍّ وطلب مهل زمنية حتى تتبلور الصورة المعكوسة على الواقع اللبناني بشكل أوضح.

فبعد زيارة وفد سفراء الدول الأعضاء في مجلس الأمن الدولي، المطعّمين بالمبعوثة الأميركية “مورغان أورتاغوس”، ولقاءاتهم المرجعيات السياسية اللبنانية، وما سمعوه من استجداء بالطلب إلى دولهم للضغط على كيان الاحتلال لوقف اعتداءاته وانسحابه من الأراضي اللبنانية التي احتلها مؤخراً وتطبيق القرار 1701 إنفاذاً لرغبة المجتمع الدولي، أتت الزيارة المكملة من الوفد إلى الجنوب لمعاينة الوقائع ميدانياً؛ من الناقورة حتى نقطة الـ “B1“، وهي واحدة من ثلاث عشرة نقطة متنازع عليها، عدا النقاط الخمس الجديدة.

تقول المصادر المتابعة: «إن زيارة لبنان أصبحت ثابتة على أجندة المبعوثين الغربيين والعرب، وهي ترتبط بمدى التقدم المطلوب من بيروت نحو مقاربة الرؤية الغربية حول ترتيبات البيت اللبناني بعيداً عن معاداة إسرائيل». والثابت الآخر هو زيارات الموفدين الفرنسيين، وخاصة المبعوث الرئاسي “جان إيف لودريان” الذي أوكل إليه الرئيس إيمانويل ماكرون الإحاطة بالملف اللبناني. بَيْد أن هذه الزيارة وغيرها لها ظروفها ومناخاتها المسحوبة على مدى تطور المشهد اللبناني، الذي يفرض قراءات مختلفة عن السابق (أي ما قبل الحرب الأخيرة وسقوط النظام في سوريا)، مما يعكس مقاربة ترتبط بالمستجدات وعدم تجاوزها بشقيها السياسي والأمني.

تتابع المصادر السياسية أن هذه الزيارات تحمل مطلباً واحداً، وإن اختلف تفسيره بين اللغتين الفرنسية والإنكليزية، إلا أنه يدفع نحو إقناع السلطات اللبنانية، عبر النصيحة تارة والتهويل طوراً آخر، بالقبول بأجندة واشنطن المعطوفة على رغبة تل أبيب. وما زيارة لودريان الأخيرة إلى بيروت، التي وصلها في لحظة سياسية شديدة الدقّة على وقع تهديدات إسرائيلية متزايدة بتوسيع العملية العسكرية، إلا دليل على ما أسلفنا من عرض للمعطيات.

من هنا، ووفق المصادر، فإن لبنان بمشهده الحالي يتأثر بأكثر من تقاطع دولي لمسارات مفتوحة في وقت واحد؛ بدءاً من المسار الأمني المهتز وغير المستقر جنوباً نتيجة استمرار الاعتداءات وتوسيع دائرة الاستهدافات، مروراً بمسار التفاوض الذي لم تتضح حدوده ومدياته وجوهر وظيفته النهائية الملتبسة على كثيرين، بين من يفسرها بمفاوضات تقنية أمنية، وآخر يذهب بتفسيرها إلى أنها أولى خطوات التفاوض المباشر بين لبنان وإسرائيل الموصلة إلى تطبيع أو اتفاق سلام. أما التقاطع الأخير والأكثر تعقيداً فهو المسار السياسي الداخلي المشبع بالانقسامات العمودية والأفقية، على خلفية التباين في رؤية كل طرف حول مستقبل لبنان وطبيعة تموضعه في ظل التطورات الحاصلة في المنطقة والعالم.

إذن، تشكّل الساحة اللبنانية أرضاً خصبة لكل المشاريع المسوّقة، بدءاً من احتدام الجبهة الجنوبية، مروراً بسوريا وغزة.

ختاماً، يشهد لبنان واحدة من أخطر لحظاته التاريخيَّة منذ نشأته كدولة مُستقلِّة ذات سيادة؛ فالخطر الذي يهدده اليوم لا يقتصر على المخاطر الإسرائيليَّة الخارجيَّة، بل بات نابعاً من وهن داخلي في ظل تحولاتٍ دوليَّة وإقليميَّة جذريَّة، وفي ظل هشاشة النظام القائم؛ بحيث أصبحنا أمام دولةٍ مكشوفةٍ عاجزة عن تحمُّل أدنى مسؤولياتها، سواء تجاه مواطنيها أو تجاه المجتمع الدولي الذي أصبح ينظر إليها كدولة منقوصة السِّيادة، منهكة اقتصادياً، مشلولة إدارياً، وينهشها الفساد من كل حدب وصوب، وغير قادرةٍ على اتِّخاذ قراراتها السياديَّة، ولا لملمة مكوناتها ضمن إطار شرعي معترف به دولياً.

شارك هذا الموضوع

أحمد مطر

صحفي وكاتب لبناني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!