فصول من مذكرات سيلفيا كريستل أيقونة السينما في سبعينيات القرن الماضي (3)
رضا الأعرجي
الحوريتان الصغيرتان بخدود وردية، تكشفان صدريهما طوال العام. لا ترتديان فساتين، بل ملاءة كبيرة تغطي أحد كتفيهما. شعرهما منسدل كضفائر سميكة. يبدو عليهما بعض الحزن، لم تبتسما بعد. أحاول أن ألمحهما، لكنني لا أستطيع. أراقبهما من خلال نافذة الغرفة 21، في شرفات الفندق، حيث ننام أنا وأختي معظم الوقت.
ثمة تماثيل يونانية على جانبي ساحة المحطة. على اليسار، مصدر الضوء الأحمر الذي يُضفي على ليالي المنطقة توهجاً ساطعاً متقطعاً: لافتة كوكا كولا ضخمة. أعشق الكتابة الأنيقة بخطوطها العلوية والسفلية، والاسم الطريف الذي يُشعّ كتحية بلغة غريبة. الضوء قوي ويتدفق مباشرةً إلى الفندق. كما أنه يُلوّن أنفس وثديي حورياتي، فيجعلهما يتألقان.
أحيانًاً أمد يدي من النافذة وأنا في حلم، أشاهد ذراعي وهي تحمرّ وتتلاشى. أنا حورية محطة، ملاكٌ على وشك الرحيل، فتاة صغيرة في رحلة. على وشك أن تطير من النافذة كطائر. أشاهد جسدي يغمره ضوء خافت، أدير ذراعي، أفتحها ثم أغلقها. أؤدي عرضاً لدمى الأصابع تحت أضواء كوكا كولا ونظرات حورياتي.
إنها مدينة أوتريخت ذات الطابع المضحك: مدينة متزمتة، رمادية اللون، مركز تجاري مزدحم يتم الترحيب بزواره من قبل امرأتين عاريتين ولافتة نيون حمراء ضخمة.
يُفتح باب غرفتي ببطء. تُخرج أمي رأسها من خلاله، وتُدهش لرؤيتي عند النافذة في منتصف الليل.
ـ أنت لا تنامين؟
ـ لا
ـ وأختك؟
ـ ماريان تنام دائماً بشكل جيد
الفندق ممتلئ. أيقظي أختك وخذيها إلى الغرفة 22، لقد أجّرتها للتو لزبون جيد.
الغرفة 22 ليست غرفة عادية، بل حجرة صغيرة، بفتحة سقف وسرير مفرد. عندما يمتلئ الفندق، نقضي الليلة هناك. أحمل ماريان بجسدها الساخن والمرتخي إلى الطابق العلوي بينما تُرتب أمي الغرفة بسرعة البرق، وتنادي على الزبون من الطابق السفلي بصوتها كبائعة مزادات في وقت متأخر من الليل.
السرير رقم 22 ضيق وبارد. سيستمتع الزبون رقم 21 بالاستلقاء في دفء أختي، وسينام بسهولة.
نافذة السقف عالية جداً لدرجة أنني لا أرى من خلالها سوى سماء سوداء. أُركز على هذا المستطيل. ماذا لو استأجرت أمي الغرفة رقم 22؟ إلى أين سنذهب حينها؟
***
أحب أختي الصغيرة. أنا سعيدة بوجودها، فالحياة ليست باردة كهذه الليلة. تجد أمي متعة في سرد كيف وجدتني عندما كنت في الثانية من عمري أحاول خنق ماريان الصغيرة. هذه القصة لا تُضحكني. يبدو أنني كنتُ أشعر بالغيرة. خنق ماريان؟ لا، سأفتقدها. أُفضّل أن أجذب أذنها أو أقرص خديها الممتلئين، دون أن أؤذيها حقاً، بل أُذكّرها بحزم أنني الأكبر والأقوى، وأننا هنا من أجل بعضنا البعض.
لا نحتضن في عائلتي. التواصل الجسدي مُقلل إلى أدنى حد. اللمس يُتيح للجسد التعبير عن حنانه، وما الفائدة من ذلك؟ العمل والضجيج والمسافة تُغني عن كل شيء.
“هل يجب عليكم أن تلمسوا بعضكم البعض لإنجاب الأطفال؟” أسأل بفضول.
شعرت أمي بالحرج وأخبرتني بنظريتها عن مرقة الملفوف. انفجرت عمتي ماري ضاحكةً. يا له من أمرٍ غريب!
غرق الفندق في صمته الليلي. لا أستطيع النوم، وأنا أترقب أدنى صوت، أي حركة محتملة لمقبض الباب الصيني. أترقب وجه أمي المنهك، لعله يطرق الباب ويطلب منا مغادرة غرفتنا، مهما كان الوقت وعمق نوم أختي، لنصعد إلى أعلى، إلى أبعد، في فضاء صغير جداً لدرجة أنه بالكاد يتسع لنا، صغير جداً لدرجة أنه لا يمكن أن تكون هناك مساحة أصغر. سنكون غير مرئيين، منسيين إلى الأبد.
هذا التنقل الطفولي بين الغرف الذي رتبته أمي، وهذه الهجرات الليلية لإفساح المجال للغرباء من أجل بعض القروش الإضافية، تتركني بقناعة راسخة تتآكلني أحياناً تحت هدوئي وأنا أتنقل من غرفة إلى أخرى.
ـ هل هانز هنا؟ يسأل الزبون.
ـ لا، لم يعد يعمل هنا. صوت العمة أليس مقتضب.
الزبون متفاجئ، يداه ترتعشان على طاولة الاستقبال.
ـ ولكن أين ذهب؟ يصر بحزن.
ـ نحن لا نعرف، ولا نرغب في أن نعرف.
يأخذ الزبون مفتاحه ويبدأ صعود الدرج. يتردد، يتوقف، يمسك بالدرابزين، ويضع يده على وجهه.
انطلقتُ أتجوّل في الصالة جيئةً وذهاباً. أجل، أعرف هذا الزبون. أتعرّف على ذلك المعطف القرمزي ذي الياقة الفروية السوداء، وتلك البشرة المليئة بحب الشباب. إنه الرجل الذي اعتاد “العم” هانز تقبيله في المطبخ. دخلتُ صامتة، ظننتُ أنني وحدي، فقد كان الوقت متأخراً ولم أتناول الطعام. كان “العم” هانز يُمسك الرجل من رقبته، يضمهً إليه، يلتهم فمه. كانت حركتهما حادة، بدا وكأنهما متعطشان لبعضهما البعض. كان الرجل مُديراً ظهره لي. كان “العم” هانز مُواجهاً لي. رآني فوراً، توقف للحظة، ثم استأنف التهام فم الرجل. كنتُ أتأوه قليلاً. حدّق بي “العم” هانز بثبات، ثم أغمض عينيه، ثم أعاد فتحهما مباشرةً عليّ. حدّق بي كما لو كان يريد أن يصرخ بي، ربما غضبه المكبوت، رغبته في رؤية فقاعتي تنفجر، عالم الطفلة الصغيرة الهادئة، الحالمة، والصامتة.
كنتُ أشهد رغبةً لم تُعجبني. كنتُ أسمع لذةً لم تكن لطيفة. تراجعتُ ببطءٍ إلى الوراء، مُحدِّقًة في نظرة “العم” هانز.
انزلقت باطن قدميّ على أرضية اللينو، وغادرتُ بصمت تلك الدائرة الخفية التي شكّلتها حول جسدين يرغبان في بعضهما البعض. دخلتُ في علاقة حميمة، ثم خرجتُ منها مباشرةً.
كثيراً ما أسأل نفسي عن هذا العالم الذي ينبض بالحياة بصخب خلف الأبواب المغلقة. ماذا يفعلون؟ شخصياً، أُفضّل دائماً القليل من النور، باباً مفتوحاً جزئياً، لأتمكن من إلقاء نظرة خاطفة على حياة الآخرين، كما يفعل كبار السن من النوافذ. تُغلق الأبواب في وجه الألفة والرغبة والأسرار.
أُنتبه لكل شيء. لاحظتُ طاقةً أقوى من أي شيء آخر، تجمع الناس عند حلول الليل، حين يهدأ العمل وضجيج المدينة. إنها تُجذبهم. في البار، أشاهد الأجساد تتلامس تحت الطاولات، وأرى النساء يُقدّمن أعناقهن. إنها طاقةٌ ناضجةٌ تُثير فضولي.
لماذا أُعفي أمي وأبي من هذه الطاقة؟ لماذا لا يجتمعان؟ أمي لا تُقدم تضحياتها كغيرها من النساء. لا، والداي لا يحتضنان بعضهما، حتى خلف باب غرفتهما. أعرف. أخي ينام في غرفتهما. أدخل إلى هناك دون أن أطرق الباب، بهدوء، بريئة وتائهة على ما يبدو، مصممة على اكتشاف الحقيقة. نادراً ما يجتمع والداي هناك.
والداي دائماً في اتجاهين متعاكسين. عندما تنام أمي، يستيقظ أبي. وعندما يخلع أبي ملابسه، تستيقظ أمي. لا يوجد بينهما أي ترابط، ولا ألفة.
