نحو الجنوب الفرنسي (2)

نحو الجنوب الفرنسي (2)

أحمد لعيوني

           بعد أسبوعين في باريس، خرج الحسين منها كما يخرج المرء من حلمٍ مزدوج: نصفه قاسٍ ونصفه لذيذ. تعلّم هناك أن المدينة لا تمنح أسرارها دفعة واحدة؛ تعطيك مقهى دافئًا، ثم تصفعك بليلٍ بارد، تفتح لك باب الصداقة، ثم تتركك وحيدًا في محطة قطار. وحين شعر أن ما يكفي قد قيل، قرر العودة إلى إسبانيا، لا بالطائرة ولا بالقطار. عاد بالطريق المفتوح… بالأوتوستوب.

حمل حقيبة خفيفة، وقلبًا أثقل بالتجارب، ووقف عند أطراف باريس. كان أول ما يراه هو الطريق:  خطوط إسفلت تمتد بلا نهاية، شاحنات تمر مسرعة، وسيارات تتباطأ ثم تواصل طريقها دون أن تتوقف. يقف ساعات أحيانًا، الشمس فوق رأسه أو برد الصباح ينفذ إلى عظامه، فيتعلم الصبر. يراقب التفاصيل الصغيرة: سيجارة تُشعل ثم تُطفأ، طائر يحطّ على الحاجز المعدني، ظلّه وهو يقصر أو يطول حسب حركة النهار.

في باريس وضواحيها، كان الانتظار ثقيلاً. السائقون مترددون، ينظرون إليه من خلف الزجاج كأنه سؤال غير مرغوب فيه. بعضهم يبتسم ويعتذر بحركة يد، وآخرون يتجاهلونه تماماً. في تلك الساعات، يشعر الحسين بضعفه، لكنه يتعلم أن الكرامة ليست في الوصول السريع، بل في الاستمرار.

أول سيارة توقفت كانت R4 قديمة، لونها باهت كذاكرة بعيدة. بين باريس وأورليان، يمر عبر حقول واسعة، يرى القرى الفرنسية الصغيرة: كنائس حجرية، محطات وقود مهجورة، مقاهٍ لا يجلس فيها إلا عجائز صامتون. حين يركب مع سائق، يبدأ حديث حذر: من أين أتيت؟ إلى أين تذهب؟ ثم يتحول الكلام إلى اعترافات عفوية، كأن الطريق تفتح القلوب.

وصل إلى أورليان. هناك، في زنقة لامادلين، قضى ليلة في مأوى الشباب، يتقاسم الخبز والضحك مع غرباء يشبهونه : مسافرين بلا خرائط دقيقة، لكن بفضولٍ لا ينتهي.

على الطريق نحو كليرمون فيرون، يطول الانتظار. ساعات كاملة تمر دون سيارة تتوقف. يبدأ الشك يتسلل إليه : هل كان القرار صائباً؟ يشعر بالجوع، بالعطش، وبوحدة ثقيلة.

في الصباح، عاد إلى الطريق. مرّت سيارات كثيرة بالطريق، حتى توقفت 2CV صغيرة، تهتز كعصفورٍ مبتل. حينها أحس كأن العالم قد قرر منحه فرصة جديدة.

 انطلق بها عبر مراحل طويلة، من قرية إلى أخرى. هناك يرى الجبال البركانية، السماء المنخفضة، والضباب الذي يجعل كل شيء يبدو مؤقتاً. السيارة تشق طريقاً وسط الغابات الكثيفة حتى وصل إلى كليرمون فيرون. المدينة كانت هادئة، بركانية المزاج، فمكث فيها ثلاثة أيام، ينام في مأوى الشباب نهاراً، ويكتشف الشوارع مساءً، كأنه يؤجل الرحيل خوفاً من المجهول القادم.

لكن الطريق كان ينادي. من جديد، رفع إبهامه، فحمله رجل فرنسي من أصل مارتينيكي إلى ميو. كانت الرحلة قصيرة، لكن الحديث طويل: عن الجزر، والموسيقى، والبحر الذي لا يُنسى. في ميو، تلك المدينة الصغيرة على ضفة نهر لوتارن، ومع السائق المارتينيكي، يكتشف وجهاً آخر لفرنسا: الضحك العالي، الموسيقى، الحنين للبحر البعيد. الشمس الحارقة. يدرك أن الهوية ليست مكاناً، بل ذاكرة محمولة.

هناك، التقى شباناً أخذوه إلى حظيرة نائية في منطقة لارزاك. قرية منسية. يرى الريف العاري، الأراضي القاحلة، والحظائر المعزولة. قطعان الغنم بنواقيسها تبحث عن كلأ يابس. الفلاحون يجمعون المحاصيل. أما الليل فهو مختلف: صمت عميق، نجوم كثيفة. يسمع أغاني بلا لغة واضحة، ضحكات حرة، ويشعر لأول مرة أن الزمن توقف. سهروا، غنّوا، رقصوا حول نارٍ صغيرة تجمع الغرباء، كأنهم يحتفلون بالحياة نفسها. في تلك الليلة، شعر الحسين أنه ينتمي إلى العالم كله، لا إلى مكان واحد.

وفي الصباح، عاد إلى الطريق، لم يقف أكثر من ربع ساعة حتى توقفت سيارة رونو تنطلق منها موسيقى صاخبة، يقودها شاب، وإلى جانبه صديقته، يتوجهان إلى مونبولي. بلغ المدينة وجدها  أكثر صخباً، وأكثر حرية. التجول في مونبوليي يكون أطول نفسياً. التعب يظهر، والانتظار يصبح امتحاناً حقيقياً. يرى شباناً يرمقونه بريبة، وشرطة تمر دون اكتراث. لكنه يلتقي أيضاً بوجوه منفتحة، بأيدٍ تمتد دون سؤال.

 التقى جماعة من الهيبي بساحة لاكوميدي، تلك الساحة التي  تحيط بها المباني العتيقة، وإلى جانبها دار الأوبرا. شباب شعورهم طويلة وأحلامهم أطول. استضافهم طالب إلى قضاء الليل بالحي الجامعي. وفي الطريق من وسط المدينة إلى الحي، عند منعطفٍ مظلم، اصطدمت السيارة التي تقلهم، من نوع سيمكا 1000 بحائط إحدى الفيلات، حين كان السائق يقلد سرعة سيارات الرالي .! صوت قوي، صمت مفاجئ، ثم ضحك متعال. السيارة تضررت، لكنهم خرجوا سالمين. كان منتصف الليل، والمدينة نائمة.

قضوا الليل في الشقة الجامعية، يتبادلون القصص كأن الحادث لم يكن سوى تفصيل عابر. وفي الغد، حين عادوا لتفقد السيارة، اكتشفوا أن بعض أجزائها قد سُرقت. تبادلوا نظرات صامتة، ثم انفجروا ضاحكين. لم يكن لديهم ما يخسرونه.

خلال رحلته بالأوتوستوب، لم يكن الحسين ينتقل فقط من مدينة إلى أخرى، بل كان يعبر حالاتٍ نفسية ومشاهد إنسانية متناقضة، كأن الطريق نفسها كانت تربيه ببطء.

في مأوى الشباب، يلتقي بأشخاص يشبهون مرايا متنقلة : ألماني هارب من خدمة عسكرية، إيطالية تبحث عن نفسها، فرنسي ملّ من العمل. يتقاسمون الخبز، الخرائط، والقصص، ثم يفترقون دون وداع حقيقي.

في المدينة، يواجه مفارقة الحرية:  ضجيج، موسيقى، أفكار ثائرة، لكن أيضاً هشاشة الحياة. حادث السيارة في الليل، ثم سرقة أجزائها في الصباح، يجعلان الحسين يفهم أن المغامرة ليست رومانسية دائماً، بل خليط من الخطر والضحك والنجاة.

كانت رحلة مليئة بالمفاجآت، تقودها R4 و2CV، وتكتبها الصدفة. وحين واصل الحسين طريقه نحو إسبانيا، أدرك أن المتعة لا تكمن في الوصول، بل في تلك الليالي التي تبدو عابرة، لكنها تبقى، إلى الأبد، مضيئة في الذاكرة.

وخلال كل هذا، يحدث له الأهم:
يتغير. يتعلم أن الانتظار مدرسة، وأن الطريق لا تكافئ المستعجلين، بل أولئك الذين يعرفون كيف ينظرون، وكيف يصغون، وكيف يقبلون المجهول بابتسامة خفيفة.

شارك هذا الموضوع

أحمد لعيوني

مؤرخ منطقة امزاب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!