طوفان أسفي وفواجع الانهيار: حين يستعيد “وادي الشعبة” ذاكرة الخذلان

طوفان أسفي وفواجع الانهيار: حين يستعيد “وادي الشعبة” ذاكرة الخذلان

عبد الرحيم التوراني

 إلى الذين طواهم الماء.. والذين أحياهم الطين… إلى أسفي.. المدينة التي لم تنحنِ يوما للمحيط..

إلى أرواحها التي صعدت مع زفير “وادي الشعبة، والتي غسلها الموجُ المالحُ فصارت جزءا من أسطورة البحر الأزلي… إلى فاس.. إلى جرحها الغائر تحت أنقاض الإسمنت..

إلى الأرواح التي غافلها الانهيارُ وهي تحلم بسقفٍ آمن، فتوحدت أجسادُها بتراب الأرض التي عشقتها..

إلى الضحايا الذين صاروا ركاما في لغة الأرقام، وجبالاً من الفقد في قلوب الأمهات واليتامى...

إلى شعبٍ لا يزالُ يبحثُ عن مخرجٍ وسط الركام..  إلى الأيدي التي انتشلت الغرقى حين غابت النجدة..

إلى القلوب التي لا تزال تؤمن بأن الفجر يولد من رحم الانكسار.. وأن “كلمة الحق” هي القارب الوحيد الذي لن يغرقه طوفانُ الخذلان.

إليكم جميعا.. نكتبُ لنذكرَ القاتلَ بذنبه، ونؤنسَ الغريبَ في لحده…

         البحارُ غيرُ معنيةٍ بالفناء، هذا ليس مجرد سطر شعري، بل هو الحقيقة الجيولوجية والوجودية الكبرى التي تحكم كوكبنا…

 البحر كيان متعالٍ، لا يعترف بالحدود التي يرسمها البشر، ولا بالزمن الذي يعدّه العابرون. هو الذاكرة السائلة التي تبتلع الحضارات وتلفظها كأصداف مهشمة على الشواطئ…

 البقاءُ دائماً للموج، ذلك الإيقاع المتكرر الذي يمثل نبض الأرض الخفي، هو القوة التي لا تكلّ من قرع طبول التغيير.

في فلسفة الطوفان، لا يوجد مكان للثبات.. البقاء للإعصار الذي يعيد ترتيب الفوضى، وللطوفان الذي يكتسح الركام ليمنح الأرض فرصة الاستحمام الأول..

حتى تلك الجبال الثلجية التي تظن نفسها عصية على الزمن، تجد كينونتها الحقيقية في “الذوبان”.. فالذوبان ليس هزيمة للصلابة، بل هو تحرر للمادة وعودة للأصل المائي.

هكذا يبدأ النص الكوني.. الماء هو السيد، والسيولة هي القانون، والكل أمام زحف الموج مجرد تفاصيل مؤقتة في كتاب الوجود الشاسع. إن الطبيعة لا تظلم، بل هي تعيد استرداد حقها التاريخي حين يتطاول عليها العمران العشوائي أو التخطيط الذي يفتقر للرؤية الاستشرافية.

 لكن حين هبط هذا القانون الكوني على جغرافيا “أسفي”، لم يكن مجرد تأمل فلسفي، بل كان صدمة مالحّة بطعم الوجع المسفيوي القديم..

 أسفي، هذه الحاضرة التي نامت لقرون في حضن المحيط، وجدت نفسها فجأة في مواجهة “الطوفان العظيم”…

في ليلة غاب فيها القمر، انفتحت أبواب السماء، ولم تكن المدينة مستعدة.. لا مفر للأرض من لُجَّةِ الماء، ولا مأوى للجبال من صرخة التيار…

فكيف ببيوت الفقراء في حي كورس، وجنان شقوري، وسيدي بوالذهب، والمدينة العتيقة وغيرها من الأحياء المجاورة… حيث صار المطر عدوا يطرق الأبواب بقسوة، وصار الطوفان مرآة عاكسة لهشاشة البنية التحتية التي لم تكن سوى وعود عائمة.

 لم تكن أسفي وحيدة في جرحها، فقبلها بأيام، سجل التاريخ مأساة أخرى في قلب العاصمة العلمية فاس..

هناك، لم يكن الطوفان مائيا، بل كان “انهيارا بنيويا”، حيث هوت عمارتان على رؤوس ساكنيها، مخلفة أزيد من 22 ضحية..

 وبين ركام الإسمنت في فاس وأوحال “الشعبة” في أسفي، توحدت صرخة الموت المغربية تحت سقف واحد من الإهمال والتدبير العبثي…

إنها وحدة المأساة التي تجمع بين مدن التاريخ والجمال، وبين هشاشة الواقع الذي يفرضه سوء التدبير الحضري والرقابة المفقودة...

 لم تكن الكارثة في أسفي مجرد صور عابرة للانتشار الرقمي، بل كانت أرقاما تنزف دما وحرقة في عيون الأسر.. فقد اجتاحت السيول الجارفة نحو 70 منزلًا ومحلًا تجاريًا، محولةً كدّ السنين إلى حطام تذروه المياه…

جرفت السيول في طريقها نحو 20 سيارة، وكأنها قطع من الورق في مهب ريح عاتية.. لكن الفقد الأكبر كان في الأرواح، حيث أسفرت الفاجعة عن أزيد من 37 قتيلاً وأكثر من 40 جريحا، (وفق القصاصات الرسمية)، وقالوا حينها إنه لا يزال البحث جاريا في الأوحال وتحت الركام عن مفقودين غيبهم هدير الوادي...

 وفي قلب هذه الفاجعة، خرج رئيس الحكومة رجل الأعمال عزيز أخنوش، خلال الجلسة الشهرية المخصصة لأسئلة السياسة العامة في البرلمان، ليختزل المأساة في لغة الأرقام التقنية، مشيرا إلى أن المدينة سجلت 27 ميليمترًا من الأمطار في فترة وجيزة، ومقدماً “خالص التعازي” لأسر الضحايا…

يا لها من كلماتٌ بروتوكولية باردة لا تضمد جرحا ولا تعيد ميتا…!! بل إنها تذكر المغاربة بصورة قديمة من عام 2022، حين ترك عزيز أخنوش الشمال يحترق بنيران الغابات، وذهب إلى أكادير لحضور مهرجان موسيقي، فطرده الجمهور بصرخات الاحتجاج التي لا زال صداها يتردد في كل أزمة...

 تمرد الذاكرة المائية المسلوبة

وسط هذا المشهد التراجيدي، برز “وادي الشعبة” كبطل تراجيدي استعاد ذاكرته الجريحة فجأة..

 لسنوات طويلة، توهم المخططون والمسؤولون أنهم لجموا هذا الوحش المائي بكتل الإسمنت والقنوات الضيقة.. لكن الوادي، ككل الأرواح المتمردة، لا ينسى مجراه الأول…

 انفجر الوادي صرخةً في وجه الفساد والتلاعب بمجاريه الطبيعية، محولاً الأزقة إلى أنهار هادرة، والحكايات اليومية إلى كوابيس، والخرائط الضيقة إلى حطام لا قيمة له أمام جبروت الطبيعة المستردة.

 هذه الفاجعة فجرت نقاشا حادا على المستوى الوطني، حيث انقسم النشطاء والمتابعون إلى تيارين يعكسان حجم الصدمة.. تيارٌ يرى في الأمر انعكاسا لتغيرات مناخية عالمية جامحة لا قِبَل للبشر بها… بينما يحمل تيارٌ آخر المسؤولية الكاملة للعامل البشري وسوء التدبير.

كما ضجت مواقع التواصل الاجتماعي بالمناداة بضرورة تفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، مشددين على أن الاستعداد المسبق هو الخيط الرفيع والفاصل بين القضاء والقدر وبين الكوارث الناتجة عن التقصير البشري الفادح.. فالموت في أسفي لم يكن قدرا لا يرد، بل كان نتيجة حتمية لإهمال طال أمده وتراكمت أخطاؤه...

 ليس الطوفان نهاية لأسفي، بل هو العودة الضرورية والقدرية لرحم “الطين الأول”.. إن ما شهده هذا الحدث يمثل تجسيدا حيًّا لقوة المجتمع المدني الفطري، حيث هبّت الساكنة بعفوية لتملأ الفراغ الذي تركه غياب المؤسسات.. ومدينة الخزف تدرك جيدا كيمياء التحول، فكما يختلط الطين بالماء ليتحول تحت نار الفرن إلى تحفة فنية، اختلطت دماء ودموع الساكنة بمياه “الشعبة” الغادرة، لتصهر معدن المدينة وتصقله من جديد.

 لقد ابتلع البحر في مدّه الجارف كل ما بناه الفناء من زيف ومشاريع وهمية وبنى تحتية هشة، كانت مجرد حبر على ورق، ليكشف الطوفان تلك الهشاشة العارية ويعيد رسم ملامح الحقيقة كما هي بلا تجميل.. ومن قعر هذا الألم ينهض الفجر، ومن ركام الطمي الثقيل ستشرق أسفي من جديد، ستولد الجدران أنقى، لا لأنها طُليت بألوان جديدة، بل لأنها عُمّدت بماء الحقيقة المُرّة.. ستزهر الأواني أبهى، لأنها جُبلت من طين الوجع الجماعي ومن صمود اليد الواحدة…

 إنها “الهندسة الاجتماعية” الأصيلة التي تُخلق في صميم الأزمات، حيث يدرك الشعب أن بقاءه رهين بقوته الذاتية، لا بوعود السلطة التي تتبخر مع أول قطرة مطر.

 جدار الصمم الحكومي

إن الحقيقة التي كشفها طوفان أسفي وانهيارات المباني بمدينة فاس تتجاوز مجرد سوء في التخطيط العمراني، لتصل إلى عمق الفلسفة السياسية التي تنهجها الحكومة الحالية.. نحن أمام تحالف ثلاثي (الأحرار، الاستقلال، والبام) يبدو في وادٍ والشعب في وادٍ آخر.. إن استمرار النهج اللاشعبي، الذي يتجاهل الأمان اليومي للمواطن، هو الذي أدى إلى هذه الكوارث.

 حينما يقف رئيس الحكومة، أخنوش، ليتحدث عن 27 ميليمترا، فإنه يمارس نوعا من الاستصغار للمأساة الإنسانية.. وكأن الموت يُقاس بحجم التساقطات وليس بحجم التقصير…

 إن المسؤولية السياسية تقتضي أن يكون الاستعداد للمناخ جزءا من استراتيجية وطنية لحماية الأرواح، وليس مجرد مادة للتبرير البرلماني بعد فوات الأوان…

 المواطن المغربي اليوم يشعر بأنه يواجه الطبيعة والبيروقراطية والفساد واللامبالاة بمفرده، دون مظلة تحميه أو نجدة تسعفه في الوقت المناسب.

 لا يمكن فصل فاجعة أسفي عن المناخ العام الذي تعيشه البلاد، حيث تنتشر قصص “عصابات الفراقشية” التي تنهب أرزاق الفلاحين الصغار، وصولاً إلى الفضائح الأخلاقية التي تضرب قطاعات حساسة كالإعلام والصحافة.. إن الفيديو المسرب للجنة الأخلاقيات بقطاع الصحافة، وما تضمنه من كشف للوجوه المفضوحة التي تتاجر بالكلمة والمواقف، هو طوفان آخر من القذارة الأخلاقية التي تغمر الفضاء العام.

إن فساد “النخبة” المزعومة، وابتزاز المؤسسات، والسياسات التي تخدم كبار الرأسماليين على حساب الفقراء، هي التي جعلت الوديان تفيض على البيوت المتهالكة، وهي التي جعلت العمارات تنهار في فاس. فالميزانيات التي كان يجب أن تذهب لتقوية البنى التحتية، غالباً ما تضيع في مسالك المحسوبية وتضارب المصالح، ليبقى المواطن هو “كبش الفداء” في كل ليلة مطر أو هزة أرضية أو انهيار بنيوي.

 هل ثمة بصيص أمل؟

وجاء في الأخبار إنهم كانوا لا يزالون يبحثون عن ضحايا آخرين تحت ركام العمارتين بفاس، وعن غرقى آخرين في فيضان أسفي..

 لكن الحقيقة المُرّة التي يدركها كل مغربي هي أن الجدير بالبحث والإنقاذ اليوم هو شعبٌ بأكمله… شعبٌ يقف في طابور الانتظار الطويل، يترقب من ينقذه من حكومة أخنوش التي تبدو منفصلة عن وجدان الشعب، ومن ينقذ الشعب من سطوة “عصابات الفراقشية” التي تنهب كدحه، ومن النخب المفضوحة التي تبيع ضميرها في سوق المزايدات.

 من يهمس للقدر بـ”كلمة صغيرة”  (un petit mot) وينقذ شعبا يغرق في السياسة اللاشعبية لحكومة “الأحرار” والتحالف الهجين؟

 هل ثمة بصيص أمل في نجاة قريبة؟ أم أن على المغاربة أن يحبسوا أنفاسهم انتظارا لفواجع وكوارث أعظم؟

إن التاريخ يعلمنا أن الطبيعة حين تغضب، فإنها تكشف عورة المستبد والمهمل على حد سواء…

 وما حدث في أسفي وفاس ليس مجرد “حادث عرضي”، بل هو إنذار أخير لنظام تدبيري أثبت فشله في حماية الحق الأول والأسمى: الحق في الحياة.

إن البقاء في هذه الأرض سيكون دائماً للشعب الصامد، للساكنة التي انتشلت بعضها البعض من الطين، وللأيدي التي لا تزال تؤمن بأن كلمة الحق وحدها كفيلة بتجريف كل قذارات السياسة والفساد…

 إننا لا ننتظر من حكومة أخنوش أن تنقذنا، بل ننتظر لحظة المحاسبة التاريخية التي ستعيد لكل ذي حق حقه، وتجعل من “وادي الشعبة” درسا لا يُنسى في كرامة المواطن وقدسية روحه. فالبحر باقٍ.. والوادي استعاد مجراه.. والشعب المغربي سيبقى دائما هو “البذرة” التي لا تغرق أبدا مهما اشتدت العواصف وتكاثرت الخيانات.

شارك هذا الموضوع

عبد الرحيم التوراني

صحفي وكاتب مغربي، رئيس تحرير موقع السؤال الآن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!