رحيل بريجيت باردو: غياب “أيقونة التمرد” التي أحبت الحيوانات واصطدمت بـ”ثقافات البشر”

رحيل بريجيت باردو: غياب “أيقونة التمرد” التي أحبت الحيوانات واصطدمت بـ”ثقافات البشر”

باريس- خاص:

         بوفاة بريجيت باردو تنطوي صفحة من أكثر صفحات القرن العشرين صخبا وإثارة للجدل. لم تكن “بي بي (BB) كما يلقبها العالم، مجرد ممثلة عابرة، بل كانت ظاهرة ثقافية أعادت صياغة مفاهيم الجمال والحرية في الخمسينيات، قبل أن تتحول في خريف عمرها إلى “محامية شرسة” للكائنات التي لا صوت لها، ومحاربة صلبة في معارك سياسية وإيديولوجية لم تعرف المهادنة.

انطلقت أسطورة باردو عام 1956 بفيلمها الشهير وخلق الله المرأة، الذي جسدت فيه روح التمرد على التقاليد الاجتماعية الصارمة، لتصبح بين ليلة وضحاها الرمز الأول للسينما الفرنسية عالمياً. لكنها في عام 1973، وبينما كانت في أوج توهجها، اتخذت قراراً صادماً باعتزال الأضواء، معلنةً أنها قدمت شبابها وجمالها للرجال، وتريد الآن منح “حكمتها” للحيوانات. استقرت في فيلتها المعزولة في “سانت تروبيه”، محاطة بمئات الحيوانات، بعيداً عن بريق السجاد الأحمر.

لم يكن دفاع باردو عن الحيوانات مجرد هواية، بل تحول إلى قضية وجودية كلفتها الكثير من شعبيتها في بعض الأوساط. أسست “مؤسسة بريجيت باردو” عام 1986، وشنت حملات ضارية ضد صيد الفقمات وفراء الحيوانات. إلا أن هذا النضال لم يقف عند حدود “الرفق بالحيوان”، بل تداخل مع قضايا الهوية والسياسة، مما جعلها وجهاً مفضلاً لتيارات اليمين المتطرف في فرنسا.

كان أحد أكثر جوانب حياة باردو إثارة للجدل هو صدامها المباشر مع المهاجرين المغاربة والمسلمين في فرنسا. فمنذ ثمانينيات القرن الماضي، شنت باردو حملات شرسة ومنتظمة ضد شعيرة ذبح الأضاحي في عيد الأضحى، معتبرة أن الذبح التقليدي “عمل وحشي وبدائي” لا ينسجم مع القيم الفرنسية الحديثة.

تجاوزت باردو حدود النقد الحقوقي لتنتقل إلى الصدام العقائدي، حيث وجهت رسائل حادة للمسؤولين طالبت فيها بمنع الذبح في المنازل وفرض “التخدير” قبل النحر، وهو ما اعتبره المسلمون مساسا صريحا بحريتهم الدينية. هذا الموقف عرضها للمحاكمة خمس مرات بتهمة “التحريض على الكراهية العرقية والدينية”، خاصة بعد تصريحاتها القاسية التي وصفت فيها الوجود الإسلامي في فرنسا بـ”الغزو” الذي يفرض عادات “بربرية” على المجتمع الفرنسي. بالنسبة لباردو، لم تكن القضية عنصرية بل “حيوانية”، لكن بالنسبة للقانون الفرنسي وللمهاجرين، كانت تلك التصريحات شرخاً كبيراً في صورتها كأيقونة إنسانية.

رحلت باردو مخلفةً وراءها إرثا معقدا من التناقضات، فهي المرأة التي ذرفت الدموع من أجل فقمة في القطب الشمالي، وهي ذاتها التي لم تتردد في استخدام لغة حادة تجاه الآخر المختلف ثقافيا. كانت شخصية “غير مهادنة”، اختارت أن تنهي حياتها وهي مخلصة لقناعاتها الخاصة، بعيدا عن “المداهنة السياسية” التي طبعت جيلها.

يُمثل غياب بريجيت باردو نهاية عصر السينما الوجودية والرموز الكبار الذين لم يكتفوا بالشاشة، بل أرادوا تشكيل الواقع بأفكارهم، حتى لو كانت تلك الأفكار سببا في عزلهم. ستظل ذكراها محفورة كمرأة فضلت صمت الطبيعة على ضجيج الشهرة، واختارت أن تكون صوتاً للحيوان، حتى لو كلفها ذلك الدخول في معارك خاسرة مع البشر.

شارك هذا الموضوع

السؤال الآن

منصة إلكترونية مستقلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!