الحراك الاجتماعي.. آلية مدنية لتنبيه أولي الأمر

الحراك الاجتماعي.. آلية مدنية لتنبيه أولي الأمر

مصطفى المتوكل الساحلي

           الحراك الاجتماعي آلية مدنية لتنشيط انتباه أولي الأمر، لعلهم يعقلون ويعملون. عرف المغرب منذ قرون حركات دفاعية، ومقاومة، وجهادية، وسياسية، وإصلاحية في المجال الديني، في مواجهة قوى أوروبية تسعى للهيمنة والاحتلال الغاشم. وعرفت سنوات ما بعد الاستقلال حركات مطلبية، واحتجاجية، وتصادمية، مؤطرة سياسياً بشكل مباشر أو غير مباشر من زعماء وقياديين وطنيين، ومن سياسيين ونشطاء محليين بتراب المغرب، سواء في العالم القروي أو بالمدن أو بالمعامل.

كما شهد تدافعاً ترافعياً، سياسياً ونضالياً، بين قوى سياسية معارضة والمؤسسات الحاكمة بالدولة، في علاقة بموضوعات الإصلاح الدستوري، والسياسي، والإداري، والتشريعي، والاقتصادي، والاجتماعي، والبناء الديمقراطي، والعدالة التنموية؛ حيث وصلت ردود الأفعال الرسمية إلى ما عُرف بـ “سنوات الجمر والرصاص” والقمع والاعتقال والهجرة السياسية للمعارضين.

وبتأملنا في أدبيات الحركة الوطنية المغربية (حزب الاستقلال، والاتحاد الوطني للقوات الشعبية/ الاتحاد الاشتراكي، وأحزاب ومنظمات يسارية تقدمية، والمركزيات النقابية المغربية العريقة)، سنجد تشخيصاً وتحليلاً سوسيولوجياً واقتصادياً، وتقييماً نقدياً للسياسات العمومية التي كانت نتائجها -وستكون- سبباً رئيسياً في حدوث الحراك السياسي للأحزاب والنقابات والتكتلات والتنسيقيات، والحراك المجتمعي المحلي الترابي؛ بقواعد نضال إما استنكارية، أو مطلبية تلقائية لدفع باطل أو ظلم أو تهميش، أو لرفض المسؤولين استقبال المشتكين، أو عدم الرد حتى على رسائلهم وعرائضهم.

ولن نذكر في هذا المقال جرداً تفصيلياً لأنواع الحراك النضالي أو الاحتجاجي الوطني والمجالي المحلي بالوطن، كما لا يمكن تجاهل حراك “مغاربة العالم”: حراك الستينات، الثمانينات، التسعينات، حراك آيت باعمران وسيدي إفني 2005، حراك خريبكة، حراك 20 فبراير 2011، حراك الريف 2016، حراك الشغيلة التعليمية، حراك قطاع الصحة.. إلخ. إضافة إلى الحراك الاحتجاجي بالأطلس الصغير والمتوسط والكبير للمطالبة برفع التهميش والعزلة وتقريب الخدمات والحق في التنمية الترابية، وبالدفاع عن الأرض في علاقة بالغابات والمنتزهات، ولتوفير البنيات والخدمات الاجتماعية، وحراك المتضررين من آثار ونتائج الرعي الجائر، وحراك ساكنة الجبال للدفاع عن حقهم في الأرض والتنمية والثروة. ثم حراك لأسباب غير متوقعة مثل أضرار زلزال 08 شتنبر 2023 وأوضاعهم الاجتماعية والخدماتية والمعيشية، ومدى جدية وجودة تنفيذ برامج إعادة بناء ظروف عيش وحياة تراعي مجالات العمل والأنشطة الاقتصادية والمنتوجات المحلية، بأفق إرساء تنمية مستدامة ضامنة لتدبير وتنزيل العدالة المجالية.

كما عرف المغرب في 27 شتنبر 2025 حراكاً اجتماعياً أطلق عليه “جيل Z”، أثار نقاشاً تباينت خلفياته ومرجعياته؛ في علاقة بالمتظاهرين الفعليين الذين أعلنوا سلميتهم وحددوا مطالبهم في ثلاثة محاور (الصحة والتعليم والشغل)، وفي علاقة بالذين مارسوا العنف والتخريب بالفضاءات العمومية والخاصة والمؤسسات، وفي علاقة بالمتلاعبين والمفسدين الذين يكونون دائماً انتهازيين ويتسببون في إفشال الحلول بتحريف النضالات وإلباسها لبوس التآمر والتشكيك وأحياناً “الخيانة“.

وفي هذا السياق، لا يمكن أن نتجاهل الشعارات المنظمة والمنسقة في أغاني وأناشيد شبابية احتجاجية حماسية، توصيفية لأوضاع اقتصادية واجتماعية لا ترضيهم، تحمل شحنات من الغضب واليأس، وحاملة لموضوعات سياسية وحقوقية. وبتفحص لمواقع التواصل الاجتماعي، سنجد احتجاجات وتظلمات وانتقادات للسياسات العمومية ولمواقف القوى المدنية، وكأننا في منتدى إعلامي مفتوح يتحول إلى آلية لتأطير وتنظيم الاحتجاجات وتحريكها في عدة مناطق؛ حيث أصبح لهذا الفضاء جماهير وأتباع وأنصار من كل تراب الوطن ووصولاً لشعوب العالم، كما تترصده المؤسسات الأمنية والاجتماعية والسياسية بمقاربات أمنية استباقية، أو للركوب الشعبوي السياسوي الانتخابوي الذي يفسد عبثياً الوعي الإيجابي السليم.

ومن الأسئلة التي يجب أن تطرحها مؤسسات الدولة والقوى الحية على نفسها، لتنتج أجوبة وحلولاً ديمقراطية حقوقية تنموية عادلة:

  • لماذا القمع والتصعيد وعدم معالجة المشاكل التي تسببت فيها السياسات الحكومية ومواقفها واستفزازاتها للعامة؟
  • لماذا الالتزام بحلول جزئية وتقديم الوعود الكبرى؟ ولماذا يتعذر ولا يكتمل الوفاء بتنفيذها وتنزيلها؟
  • لماذا مواقف وتصريحات بعض المسؤولين مستفزة، وتحقيرية، واستعلائية، وتنمرية؟
  • لماذا ينصب البعض نفسه ممثلاً ومتحدثاً وكاتباً باسم المؤسسات أو بعض الأحزاب بأقلام “إعلامية” وتدوينات متواطئة بمواقع التواصل الاجتماعية، تتسبب في تأجيج الغضب والعنف لتقوية الاحتجاج وتعقيد الأزمة، من أجل إفشال الإصلاحات الضرورية، وترفع من آثارها السلبية التي تكرس منسوب عدم الثقة في المؤسسات الحكومية؟

إن كل إضراب واحتجاج وحراك، سواء كان مؤطراً نقابياً وحقوقياً أو كان تلقائياً، غايته هي:

  1. أن يقدم مشاكله ومعاناته وأسباب ذلك، ويبسط مطالبه ومقترحات الحلول الناجعة.
  2. أن يُسمع الطرف المعني ويثير انتباه الحكومة ككل (أو قطاع منها)، والمسؤولين الإداريين الترابيين، أو الجماعات الترابية.. إلخ.
  3. أن يتم تنوير الرأي العام والأحزاب والمنظمات الحقوقية بالوضعية وأسباب الحراك الاحتجاجي والمطلبي، بعد أن لم تتجاوب الجهات المعنية مع الشكايات والمطالب للتدخل والإنصاف وتنفيذ الوعود والالتزامات.

إن عدم قيام الحكومات بمسؤولياتها الكاملة تجاه برامجها ووعودها، وترك الاحتجاجات مستمرة وتجاهلها دون فتح مشاورات وحوار يعالج الإشكالات والمطالب المطروحة (أو بعضاً منها)، يعتبر عند الناس موقفاً استفزازياً وتبخيسياً للمحتجين، وعدم إنصاف للمظلومين والمهمشين؛ مما يدفع الأمور للتعقيد والانفلات، وينتج انزلاقات سياسية وحقوقية واجتماعية، ويتسبب في اعتقالات وأحكام تحدث آثاراً وأضراراً على بعض الأسر، ويمتد الضرر المعنوي إلى كل المتضررين الذين هم في حاجة ملحة للدعم والإنصاف.

إن كل هذه الأحداث والإشارات من المجتمع والجماعات التي تحتج وتتظاهر بشكل منظم وسلمي، وبوضوح وموضوعية في المطالب، تفرض بشكل قطعي على المؤسسات أن تتجاوب وتتفاعل بشكل عملي إيجابي يعالج قضايا الناس لإصلاح أحوالهم ومعيشتهم ومجالات تواجدهم. لهذا، لا يصح ولا يجوز الركون إلى تجاوز الأحداث بطي الملفات لتصبح في حكم “شبه المعلقة”، باعتماد معالجات لا ترفع أزمة ولا تحقق إصلاحاً مجزياً، أو بتسويف وتعويم الوعود لتمتد لعقود في إطار مخططات تعتمد على “السير بسرعتين”، كما سجلت ذلك مؤسسات الدولة والقوى الحية.

لنتساءل كشعب، من جهة، بصدق وموضوعية بشأن أوضاعنا وضرورات المرحلة والمستقبل، ولنسأل الحكومة تجاه الأحوال والأزمات الاقتصادية والاجتماعية والتفاوت الطبقي المدمر للتوازنات والحقوق وقيم الأنسنة. ولتسأل الحكومة -بمؤسساتها- نفسها: ما الذي تحقق فعلياً من الوعود والالتزامات والبرامج المتعددة الأسماء التي أعلنت عنها رسمياً في ظل الاحتجاجات والحراك الذي عرفه المغرب، على سبيل القياس، خلال الولاية الحالية في علاقتها بالتي سبقتها؟

شارك هذا الموضوع

مصطفى المتوكل الساحلي

ناشط سياسي ونقابي مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!