تحقيق: أموال مودعي المصارف اللبنانية رهينة الفساد
– بيروت ــــ نجوى صالح
استطاع القطاع المصرفي في لبنان الصمود طويلا، بدءا من الحرب الأهلية ومرحلة البناء وما بعدها، إلى أن انهار الجبل فجأة بعد انتفاضة الشعب اللبناني في العام 2019، ففي السابق حققت المصارف أرباحا خيالية نتيجة الخطط المصرفية لاستقطاب أموال المودعين وإغرائهم بالفوائد العالية، إلا أن الهندسات المالية لمصرف لبنان المنسقة مع السلطة السياسية، فشلت في إخفاء حقيقة أن البلد على شفير الإفلاس، وأن تهريب أموال الكبار للخارج لينجوا من تبعات الانهيار الاقتصادي والمالي، تسبب في تحميل الانهيار للطبقات الشعبية الفقيرة في لبنان، حيث قامت المصارف بحجز أموال المودعين واقتطاعها تدريجيّا، وبالمعنى الشعبي سرقتها.
إذا، وحسب المثل الشعبي “ذاب الثلج وبان المرج”، ولم يتأخر المودعون في تنظيم تحركات في الشارع، تأسست عدة هيئات تهتم بقضيتهم ومحامين شاركوا في انتفاضة الشعب اللبناني ضد السلطة فتطوعوا للعمل على تحصيل أموال الفقراء الذين زادت أعدادهم مع تفاقم الأزمة الاقتصادية ــ المعيشية وبعضها مفتعل بفعل تحكم العصابات بسوق الصرف وإلهاء الناس بلقمة العيش حتى لا يعودوا لساحات الثورة ويكملوا معركتهم لإسقاط رموز السلطة المحكومة بتنفيذ أوامر حزب الله المسيطر بسلاحه على البلد ويعمل على إعلاء مصالح إيران والنظام السوري على حساب مصالح اللبنانيين.
“رابطة المودعين” واحدة من تلك الهيئات التي نظمت تظاهرات وأقامت لقاءات لتعريف المودعين بحقوقهم، ورفعت دعاوى لاسترداد الأموال المنهوبة التي هربها أصحاب الحظوة، وهي تساعد المودعين قانونيا لاسترداد أموالهم عبر رفع دعاوى وغيرها، وتعمل على أن يكون المودعين قوة ضاغطة على المصارف، وتطالب بتنظيم استخدام السيولة المتبقية في النظام المالي. ويوجب قانون العقوبات اللبناني ملاحقة من أساء الأمانة، أي المصارف، وإنزال أشد العقوبات بهم وإلزامهم برد مدخرات المودعين، مع العطل والضرر والفوائد القانونية، وإن لم يقم القضاء اللبناني بدوره هنا، فحسب الخبراء، القضاء الدولي موجود، وقد تم اللجوء إليه في رفع دعاوى طالت حاكم مصرف لبنان.
غانم: الحل بخطة “لازار“
برأي الباحث الاقتصادي وعضو رابطة المودعين نزار غانم، أن “السياسة التي اتبعت من البنك المركزي والحكومات التي مرت في السنوات الاخيرة، سياسة غير قانونية، ظاهرها التعطيل والفوضى، وباطنها الاقتصاص من الودائع الصغيرة بشكل غير قانوني”. مشيرا إلى “حلول ممكنة عبر الرجوع إلى خطة لازار، التي تعترف بالخسائر، وتقيمها عبر تدقيق مالي شامل، ومن ثم تسييل أصول أصحاب المصارف ومجالس الإدارة، ووضع خطة إصلاحية إنقاذية مما يتيح المجال للاستدانة من صندوق النقد الدولي لتعود الثقة بالقطاع المصرفي، وبالتالي تتيح إعادة العمل بالاقتصاد الوطني وضخ السيولة لإعادة أموال المودعين“. ويشدد على أن تشريع أسعار مختلفة لصرف الدولار، “أمر غير قانوني. يخالف قانون النقد والتسليف، سياسة التلاعب بأسعار الصرف محاولة لتحميل الفئات الأضعف على حساب النافذين، كلفة الأزمة. وبالحقيقة هي “هيركات” غير معلن، حيث يخسر المودعون حوالي 70 % من قيمة ودائعهم عبر تجارة الشيكات وتعدد أسعار الصرف وهذه السياسة تنقذ المصارف“.
تعمل الرابطة مع فريق ضخم من المحامين، ويشرح غانم: “رفعنا دعاوى ضد المصارف واخبارات لدى النيابة العامة، وقمنا بسلسلة حملات قضائية في سويسرا والولايات المتحدة. وعملنا على تنظيم المودعين في شتى المصارف للضغط في الشارع والطرق القانونية لاسترجاع الودائع، وإقرار خطة اقتصادية تحمينا وتحمي ودائعنا. كما قمنا بتضييق الخناق على السياسيين. فنجحنا بوقف صرف قرض البنك الدولي بالليرة اللبنانية، كما عملنا مع جهات قضائية وسياسية خارجية للضغط الدبلوماسي على المسؤولين اللبنانيين والمصارف والشبكات الاقتصادية والتجارية المرتبطة بهم عالميا. موقفنا واضح: إذا لم نحصل على ودائعنا، لن يستطيع أصحاب المصارف، ولا الطبقة السياسية التصرف بأموالهم في الخارج“.
ويعطي أمثلة عن دول استطاعت تجاوز الأزمة المالية، مثل قبرص واليونان، فيذكر أنه “تم اعتماد خطة شبيهة بــ “لازار”، وهي سياسة متبعة عالميا ومعروفة في حالة حصول أزمة مالية مرتبطة بالدين السيادي. يتم أولا حصر الخسائر ومن ثم التفاوض حول الاقتصاص من الدين العام. تحرير الموازنة العامة وتحميل الخسائر بالتدريج للذين ربحوا أكثر من غيرهم، بالإضافة لحماية مدخرات الأضعف. لبنان حقيقة عنوة عن كل البلدان بهذا الإطار، يعتمد سياسة متوحشة، هدفها حماية النافذين والأغنياء على حساب عامة الناس“.
كنج: تحاصص وفساد وزبائينية
أما الباحث الاقتصادي فادي كنج، فيجد أن أسباب الأزمة الاقتصادية والمالية التي يعيشها لبنان، لها شق اقتصادي لجهة طريقة هيكلة الاقتصاد اللبناني، التي تمت على أساس ريعي لم يتم فيها أي توازن للقطاعات، أي الزراعي والصناعي والخدمات، فهذه السياسة قامت على أساس دعم القطاع المالي والسياحة، في الوقت الذي لا يمكن فيه للقطاع السياحي أن يكون ركنا أساسيا بالاقتصاد نتيجة الجغرافيا السياسية للبنان، الحدود مع إسرائيل وأزمات المنطقة بسوريا والعراق وغيرها المؤثرة في لبنان، لذلك كان هذا القطاع معرض للاهتزاز، وهناك الشق المالي، فالأزمات في القطاع المالي ناتجة عن النظام الريعي بامتياز، بمعنى الذهاب نحو الاستدانة وتعويم المصارف اللبنانية مما تسبب بعدم التوازن، وجزء من الأزمة الاقتصادية يعود إلى الشق السياسي، فلبنان مبني على توازانات سياسية متأثرة بتوزانات المنطقة الدولية، وأي اهتزاز للتوازن السياسي لهذا النظام يوصل إلى أفق مسدود في السياسة، وبالتالي إلى أفق مسدود بالاقتصاد، ونتيجة التحاصص والزبائنية والفساد، كانت الاستدانة الحل الوحيد للتوازن المالي في البلد“. ويوضح أن “أموال المودعين ذهبت لتغطية عجز الدولة المالي وتمت سرقتها، واستخدمت لتمويل جزء من السلع المدعومة ورواتب موظفي الدولة، وقد سدت أمام الدولة اللبنانية كل أبواب الدعم الخارجي، سواء كان من دول عربية، لا سيما دول الخليج، أو دول أوروبية ومعها الولايات المتحدة الأميركية. واليوم رفع الدعم عن معظم المواد الاستهلاكية، بدءا بالمحروقات وصولا إلى الدواء وحتى خبز الناس اليومي“.
وبرأيه أن “المواطن اللبناني لن يتمكن في المدى القريب من الحصول على أمواله التي أودعها في البنوك اللبنانية، فلبنان دولة فاشلة اقتصاديا فيها انسداد افق سياسي على صعيد الداخلي، نتيجة انسداد الأفق بالتوازن الإقليمي، وفي الوقت نفسه هناك عدم ثقة شعبية بالطبقة السياسية الموجودة، مع كل محاولات تعويمها. ومع هذا الانسداد السياسي وعدم وجود توافق إقليمي دولي ستستمر الأزمة السياسية وبالتالي الاقتصادية، فلا استرجاع لأموال المودعين، إلا عبر تدفق مالي يأتي من دول الخليج أو من الغرب، وهذا أمر غير موجود“.
ويشير إلى عدم وجود “خطة أو رؤية واضحة، من إدارة الدولة اللبنانية أو من المصرف المركزي الذي تعددت تعاميمه وقراراته من دون أن تشكل حلا، الخطة كانت الهندسات المالية، وتهريب الأموال للخارج، مما أوصلنا إلى هذا الوضع، والخطة الوحيدة التي يمكن للشعب اللبناني استخدامها باتجاه استعادة أمواله هي الضغط الشعبي باتجاه إسقاط هذه المنظومة واستعادة الأموال المنهوبة والمهربة إلى الخارج وغير ذلك ستستمر خطة سرقة أموال المودعين كأمر واقع، وفي هذه الحالة الناس لن تستعيد أموالها بل جزء منها، وهذا أمر واقع وظاهر في عملية سعر صرف الدولار ما بين السعر الرسمي الذي هو 1520، وسعر المنصة 8000 وسعر السوق السوداء الذي وصل إلى أكثر من 33 الف ليرة “.
نعمة: على المصارف رد الودائع دون اقتطاع
قانونيا، يوضح المحامي عدنان نعمة أن “المودعين وضعوا أموالهم في المصارف مقابل فوائد، وفق عقود بين الطرفين، أي أن الفوائد من حق المودعين، وقد أغرتهم المصارف بها لتحصل على أموالهم بفوائد عالية، حتى وصلنا إلى مرحلة صار من الصعب على المودع أخذ وديعته، مع أن هذا من حقه قانونيا، فالوديعة هي عبارة عن أمانة يضعها المودع لدى المصرف حتى يشغلها ويعطيه عليها فوائد، لا لكي يقوم المصرف بتديين الدولة من ودائعه، فسواء دينها المصرف للدولة أو لأحد آخر، مسؤولية المودع بل المصرف، بصفته المهنية التي يجب أن تضمن المحافظة على حقوق المودعين وأموالهم، وهو إن لم يحافظ عليها، يتحمل مسؤولية إساءة الأمانة، فحق المودع أخذ أمواله كما وضعها في البنك بنفس العملة، ولا يحق للمصرف التوقف عن دفع هذه الفوائد، وبالمقابل وعليه رد الوديعة لأصحابها“.
ويؤكد أنه رغم الصورة القاتمة الموجودة حاليا، “إلا أنه يجب أن يكون هناك أمل لدى المودعين باستحصال أموالهم، ولكن يجب الكفاح من أجل ذلك، وهناك طرق عديدة منها تقديم دعاوى ضد المصارف، مع أن الأموال التي يعطوها تخف قيمتها باتباع سياسة “اللولار”، أي قبض ودائع الدولار بالليرة اللبنانية حسب سعر مصرف لبنان على المنصة، والسؤال هل في المستقبل يمكن تحصيل الودائع، وهل سنحصل عليها بالقيمة نفسها عند إيداعها؟ هنا تقع المشكلة الصعبة، فنحن لا دولة لدينا، ولا قضاء يأخذ لنا حقنا، والكل يعرف أن القضاء ليس صارما مع المصارف وأحيانا متخاذل، هنالك بعض القضاة يشهد لهم، حجزوا عقارات لمصارف وألزموهم بتحويل أموال، ولكن هذا جزء صغير من حالات عديدة“.
ويشدد على أن “المبدأ الأساسي هو أن أموال المودعين يجب أن ترجع للمودعين، سواء نقصت قيمتها او بقدرها، رغم ان المصارف ارتاحوا في قرار مصرف لبنان الدفع للمودعين بالدولار على اساس 8000 ليرة، وهذا ما اراح كتير من المصارف القلقة”، متوقعا أن لا يستطيع المودع أخذ أمواله إلا مقتطع منها، ولافتا إلى أن “هناك أشخاص قادرين ولهم علاقات بالمصارف ومصادر القرار المؤثرة يستطيعون سحب ودائعهم بالدولار، وأشخاص سحبوا شيك دولار يقوم ببيعه، ثم يستلمون “فريش ماني”، وهناك أشخاص مودعين صغار لا يستطيعون السحب، يعني هناك استنسابية وزبائنية واضحة“.
ويقول: “إننا نستقبل شكاوى المودعين عبر الخط الساخن، وتقدم لهم استشارات قانونية مجانية لكيفية التعاطي مع المصارف لتحصيل حقوقهم، ومعظم الاستشارات التي تصلنا تكون حول دفع القروض، أو رد وديعة، أو الدولار الطالبي (المخصص للطلاب اللبنانيين بالخارج). وأي موضوع نجد فيه استغلالا من قبل المصرف للمودعين، حتى لا يتم هضم حقهم المودعين والمقترضين، ونرد بشكل قانوني على الحالات، وهمنا منع المصرف من التعدي على حق المودعين، ونقيم دعاوى عرض وإيداع، وهناك فريق من المحامين موجود للمساعدة، وقد رفعوا مئات الدعاوى حتى الآن لدى القضاء المستعجل“. ولم يفت نعمة انتقاد هيئة الرقابة على المصارف، “التي لا تقوم بدورها المفترض في محاسبة المصارف على التدابير غير القانونية التي تتخذها“.
ويبقى السؤال هل طارت ايداعات اللبنانيين لا سيما الفقراء والمتقاعدين والذين تم إفقارهم أم من الممكن إنقاذ ما يمكن إنقاذه للعيش بأمان قضوا عمرا من التعب والعمل لتوفيره في آخرتهم؟