ماذا تبقى من اليسار في الجزائر؟
عمر بن درة
تعيش الساحة السياسية وقتاً معلقاً، فلا حق للقوى السياسية بالوجود كمنظمات وحتى كخطاب. ولكن وبمواجهة ليبرالية مافيوزية فرضتها الديكتاتورية، يتمسك الأهالي بتقاليد المساواة والعدالة المتجذرة بعيداً عن القطعيات والايديولوجيات. وفي انتظار إعادة تشكّل الحقل السياسي، لا يبقى اذاً مما هو “يسار” الا ما حفظه الشعب في أعماقه من رفض للظلم والتعسف، ومقاومة إملاءات الامبريالية في فلسطين، ورفض الاصطفاف وراء الغرب.
يفسر الانهيار المعنوي والسياسي للمعسكر “الاشتراكي”- وهو في حقيقة الأمر كتلة من الأنظمة المتصلبة وعلى رأسها الاتحاد السوفياتي السابق – إلى حد كبير تراجع تيار أيديولوجي تأسس على مُثل العدالة والمطالبة بالمساواة. في الغرب، ليست الأحزاب الشيوعية هي الوحيدة المعنية بحركة انكفاء التيارات السياسية التي ترفض – مع تفاوت في مدى صدقها – جبروت السوق، بل يشمل الأمر أيضا الأحزاب الاشتراكية – الديمقراطية والتي دائما ما تنتهي ممارستها للسلطة بالانحياز للسوق والنظام الليبرالي. يمكن ان نخلص إلى المعاينة نفسها بالنسبة لبلدان “العالم الثالث” القديم. في كل الحالات يتعلق الأمر بانهيار داخلي أكثر مما هو انتصار أيديولوجي للليبرالية المحافظة.
وهذا ما نلاحظه اليوم في الجزائر.
من الاشتراكية “الخصوصية” إلى الليبرالية البيروقراطية
أفضت أزمة صيف 1962، التي اندلعت مباشرة بعد استقلال الجزائر في الخامس من تموز/يوليو والتي واجه فيها جيش الحدود بقيادة بومدين “الحكومة الموقتة لجمهورية الجزائر” (1) وجماعات المقاومة في الداخل، إلى منع دائم للسياسة عن مجتمع مثخن بجراح وصدمات خلفها ليل استعماري فظيع. تمّ منع الأحزاب السياسية، وبقيت “جبهة التحرير الوطني” – التي أُفرغت من مضمونها وتحولت إلى جهاز بيروقراطي صرف – وحدها المكلفة بتمرير خيارات النظام. مع فرض الحزب الواحد، منح النظام العسكري – البوليسي نفسه احتكار التعبير السياسي. هكذا وبمجرد استرداد السيادة، يجري التخلي تدريجياً عن التوجهات التقدمية والاجتماعية لحرب التحرير (2) من قبل نظام بوليسي أكثر فأكثر فساداً.
حسب الخطاب الرسمي، فإن الأبعاد الاجتماعية لسياسة التنمية في سبعينات القرن الماضي تنحدر من صيغة “خصوصية” للاشتراكية تتبنى جزءاً من المسلمات الاجتماعية – الاقتصادية لمختلف تيارات الاشتراكية “العلمية”، مع رفض لا-دينية المادية الجدلية. وقد تسارعت وتيرة تحويل وجهة الاقتصاد نحو ليبرالية عشوائية من النوع “الانفتاحي”، الذي حفزه موت الرئيس بومدين سنة 1978، بسبب الانقلاب العسكري الذي وضع في 11 يناير/ كانون الثاني 1992 حداً بشكل دموي لمسار انتخابي حر غير مسبوق في تاريخ الجزائر المستقلة.
أظهرت الدورة الأولى من هذه الانتخابات التي كانت تكرس واقعاً سياسياً تعددياً تقدم “جبهة الإنقاذ الإسلامي”، وهو حزب بملامح وهوية غير ثابتة، حصل على ترخيص قبل سنتين من تاريخ اجراء الانتخابات. توليفة هشة من حساسيات مختلفة وأحياناً متضادة تنتسب لمختلف اتجاهات “الإسلام السياسي”. كانت جبهة الإنقاذ الإسلامي تدار من قبل مجلس شورى من أبرز وجوهه علي بلحاج الداعية ذي الشعبية الكبيرة، وعباس مدني أحد الأعيان الذي كان قد شارك في حركة التحرير الوطني. الحزبان الآخران اللذان حققا نتائج هامة في الانتخابات (لكنها ضعيفة مقارنة بالموجة الإسلامية) هما “جبهة التحرير الوطني” التاريخية – الحزب الواحد السابق الذين كان يرأسه حينذاك عبد الحميد مهري المؤيد للإصلاح، و”جبهة القوى الاشتراكية” برئاسة حسين آيت أحمد أحد وجوه الثورة البارزين والمعارض الصلب للنظام التسلطي الذي أرساه الجيش غداة الاستقلال في تموز/ يوليو 1962. ينسب كلا الحزبين نفسه للاشتراكية، الاشتراكية “الخصوصية” التاريخية، المعدلة قليلاً أو كثيراً بالنسبة لجبهة التحرير الوطني، والاشتراكية الديمقراطية “ذات الوجهة الإنسانية” (العزيزة على قلب آيت أحمد) بالنسبة لجبهة القوى الاشتراكية.
1989-1991: الفسحة الديمقراطية
تأسست “الاشتراكية الجزائرية” بشكل كبير على تأميم قطاعات اقتصادية واسعة. وكانت إدارة التجارة الخارجية بآليات بيروقراطية والاستيلاء عليها بحكم الأمر الواقع من قبل قيادات الشرطة السياسية والجيش – حتى قبل وفاة هواري بومدين سنة 1978 – تمثّل عقبة أمام أي تنمية، نظراً لأن هذا الأمر عمق ارتباط البلاد بصادرات المحروقات وواردات السلعة المعدة للاستهلاك، مثل المنتجات الغذائية. هذا التنظيم البيروقراطي مسؤول بشكل كبير عن أزمة الديون وتدهور الظروف الاقتصادية العامة للبلاد.
حاول كوادر من مؤسسة رئاسة الجمهورية التعامل مع هذا التطور عبر صياغة برنامج إصلاحات تقوم على انفتاح مزدوج نحو اقتصاد السوق من جهة – مع المحافظة على قطاع عمومي متطور في سنوات 1970 – ونحو دولة القانون والحريات العامة من جهة أخرى. هذا الانفتاح الذي حرّك عدداً كبيراً من المهنيين والخبراء من كل القطاعات، هو قبل كل شيء عمل مجموعة من الكوادر – أطلِقت عليها تسمية عامة هي “المصلحون” – كانوا مجتمعين حول الوزير الأول (رئيس الوزراء) مولود حمروش. كان هؤلاء الكوادر (المتأثرين بوزير الاقتصاد غازي حيدوسي (3)، والمدعومين من قبل بعض قيادات جبهة التحرير الوطني وعلى رأسهم عبد الحميد مهري) مقتنعون بضرورة الخروج من النظام التسلطي وكذلك التخلي عن طريقة إدارة الاقتصاد غير الفعّال والقائم على ريع البترول والغاز. بعد تعيينه وزيراً أولاً من قبل الرئيس شاذلي بن جديد في أيلول/ سبتمبر 1989، طبق مولود حمروش وحكومته، لفترة قصيرة لم تتجاوز 18 شهرا (إلى حدود حزيران/ يونيو 1991)، برنامج إصلاحات سياسية يقوم على إرساء دولة القانون، خصوصاً من زاوية الحريات العامة والاقتصادية، عبر انهاء الاحتكار ومأسسة القواعد المشتركة للسوق.
كانت الديون الخارجية، التي تمتص خدمتها الجزء الأكبر من الإيرادات الخارجية للبلاد، العقبة الأساسية في تلك الفترة. تمثلت الأولوية الاستراتيجية في الحفاظ على السيادة الوطنية عبر تجنب الخضوع للبرامج الموغلة في الليبرالية التي يضعها صندوق النقد الدولي والدائنين الذين يسيطرون على الجزء الأكبر من دين خارجي يقلص بشكل كبير هامش المناورة. كانت معضلة الإصلاحيين تتمثل في إرادة المحافظة أكثر ما يمكن على الطابع الاجتماعي (طب مجاني وتعليم جماهيري) لدولة سليلة حرب التحرير، والدفاع عن القطاع العمومي، وفي الوقت نفسه تسريع تحولها الديمقراطي والانفتاح على القطاع الخاص في محاولة لإنعاش الاقتصاد بشكل فعال.
وصف حسين آيت أحمد تلك الحركة وتلك الفترة “بالانفتاح الديمقراطي عنوةً” (4). خلال فترة الحريات غير المسبوقة هذه – التعبير والتجمع والتظاهر بالأخص – ولدت الصحف “المستقلة” وتأسست أحزاب جديدة أو أصبحت تنشط في العلن. نذكر هنا بالأخص “جبهة الإنقاذ الإسلامي” و”جبهة القوى الاشتراكية”، وهناك أيضاً (لكنه أقل أهمية بكثير) “حزب الطليعة الاشتراكية” (5)، وريث الحزب الشيوعي الجزائري، القريب من الاتحاد السوفياتي، والذي كان يتأرجح خلال فترة نشاطه غير المرخص الطويلة ما بين “المساندة الناقدة” والاصطفاف الكامل وراء توجهات النظام. أظهرت الوقائع طيلة الاحداث الدرامية التي شهدتها سنوات 1990 أن هذا الحزب كان مخترقاً بشكل واسع من قبل الشرطة السياسية. كما ظهرت للعلن بعض التشكيلات الماركسية الصغيرة الأخرى والتي كانت تنسب نفسها للأممية الرابعة أو التروتسكية بصفة عامة.
لكن سرعان ما أثار عمل الحكومة “الإصلاحية” معارضة متنفذين من داخل النظام تقلصت سلطتهم وأصبح احتكارهم إدارة الريع موضع مساءلة. كان هؤلاء الأفراد الذين يحتلون مواقع رفيعة في الجيش والشرطة السياسية حماة نظام متكوِّن من جماعات مصالح تنشط خاصة في مجال استيراد السلع الغذائية والصفقات الخارجية، وأول المنتفعين منه. أغلق انقلاب يناير 1992، وسط طور من العنف غير المسبوق، انفتاحاً سياسياً بدأ غداة أحداث تشرين الأول/ اكتوبر 1988 عندما تداخلت أزمة النظام الداخلية مع غضب شعبي حاد جداً.
حداثة مزيفة وديكتاتورية
في بداية التسعينات من القرن العشرين، خرج “حزب الطليعة الاشتراكية” المتكون أساساً من مناضلين ينتمون للطبقة الوسطى أغلبهم فرنكوفونيون من أبناء المدن، منهكاً من العمل السري. وأفقد الموقف “المساند الناقد” للنظام الحزب الكثير من مصداقيته لدى الكوادر والشعب. وهذا في سياق يتسم بتقاليد مترسخة من التوجس من الشيوعيين. وفي الواقع أثّرت القطيعة منذ 1939 مع الحزب الشيوعي الفرنسي، الذي اعتبر نيوكولونيالياً، بشكل كبير في تشكيل الخطاب السياسي للاستقلاليين الجزائريين (6). على المستوى الخارجي، أثار غزو الجيش الأحمر لأفغانستان في 1979 غضب الرأي العام الجزائري الذي كان خلال السنة نفسها يراقب باندهاش واعجاب إطاحة الثورة الإسلامية الإيرانية بنظام الشاه. ثم جاء سقوط كلٍ من جدار برلين سنة 1989 ولاحقا الاتحاد السوفياتي، لينزع كل قابلية للفهم عن خطاب قديم. علاوة على أن الأغلبية الساحقة من الجزائريين تجرعت “الاشتراكية” البوليسية التي أرساها بومدين ولم تكن مستعدة لإضفاء مصداقية على أطروحات منتهية الصلاحية. وفي أواخر الثمانينات أظهر السياق الدولي – المتحول سريعاً وبقسوة – صعوبات حياة يومية شاقة تتسم بمختلف أشكال النقص في مختلف الحاجيات، والتعسف الدائم، والتباهي الوقح بالثراء من قبل الجزء الأكثر فساداً في نخب السلطة. كان السخط الشعبي يسقي بشكل متواصل أرض “الإسلام السياسي” الذي لم يتوقف نموه وتصلب عوده طيلة ذلك العقد.
بسبب انفصاله عن الواقع وخلافاته الداخلية المدمِّرة، عرف حزب الطليعة الاشتراكية، على الرغم من تاريخه الطويل، فشلاً في انتخابات 1991، كالذي عرفته أحزاب “المخبر” (مثل “التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية” الحداثي العلماني) التي صنعتها جهات استخباراتية داخلية، ولكنها تحظى بدعم خارجي نشيط جدا، خاصة من قبل حلقات قريبة من الحزب الاشتراكي الفرنسي.
لم تفقد هذه المعاينة شيئا من راهنيتها: المجتمع الجزائري غير مستعد للانخراط في الحداثات الزائفة التي تروج لها برجوازية صغيرة منْبَتة بشكل مفتعل.
العسكر والاستئصاليون والأوليغارشيون
تزامن حل “حزب الطليعة الاشتراكية”، الحزب الرئيسي الذي ينتسب للماركسية (7)، سنة 1993، مع بداية الحرب التي أطلقها الجيش لوقف التمرد. سرعان ما التحق هذا الاتجاه “الشيوعي” المعادي جذريا للدين (8) بالأقلية الأكثر تطرفاً في دعمها للجنرالات: “الاستئصاليون” سيئي السمعة الداعمين لفكرة حرب شاملة ضد الإسلاميين وتصفيتهم جذرياً بكل الوسائل (تعذيب معمَّم، اختفاءات قسرية ومجازر جماعية..). وجدت الحرب “ضد الأهالي” (9) في هذه الأوساط فاعليها الأكثر التزاماً ومروجي دعايتها – خصوصاً في أوروبا – الأكثر حماساً.
استنفرت الحرب المشبوهة – لكن بالغة الدموية – ضد مواطنين “لم يحْسِنوا الانتخاب” عدداً من المناضلين الذين بدوا علاوة على ذلك غير قلقين كثيراً من التخلي التدريجي عن المكتسبات الاجتماعية والتعمق المتسارع لأشكال التفاوت بين المواطنين. في الواقع، لم تُثر التوجهات الليبرالية التي كان طابعها المافيوزي ظاهراً للعيان – خاصة منذ توقيع اتفاق الاستعداد الائتماني مع صندوق النقد الدولي سنة 1994 – أي ردود فعل تقريباً من قبل الأحزاب والشخصيات “التقدمية” (10)، على الرغم من أن هذا الاتفاق شكل ضربة قاصمة للقطاع العام الذي سيتم تفكيك وبيع جزء كبير منه وسط تعتيم كامل.
شهدت تلك الفترة تحولاً مباغتاً لعدد من الشخصيات العامة الذين كانوا ماركسيين في السابق، ليصبحوا رجال أعمال انتهازيين لا حدود لشهيتهم… ترافق تطبيق اتفاقية الاستعداد الائتماني مع إخضاع عنيف للمشرفين الذين رفضوا تصفية القطاع العمومي وأوامر الشرطة السياسية. مثلاً وخلال سنتي 1994 و1995، سجن أكثر من 4000 كادر بتبريرات مختلفة. وتوفي البعض منهم في السجن جراء التعذيب.
مثَّلت الحرب ضد المدنيين وانتهاكات حقوق الإنسان المعممة غطاء فعالاً للتغيير في وجهة الاقتصاد. إنتهت هذه الفترة العنيفة جداً، والتي بلغت ذروتها بالمجازر الجماعية التي نفذتها “فرق موت” مرتبطة بالشرطة السرية العسكرية، بتعيين عبد العزيز بوتفليقة رئيسا للجمهورية في 1999.
السنوات الأولى من القرن الحالي جلبت حظاً مضاعفاً للنظام. حوَّلت هجمات 11 أيلول/ سبتمبر 2001 وجهة السياسات الغربية تماماً في إتجاه “صراع الحضارات”. تحصّل الجنرالات الانقلابيون على جائزة كبرى لم يكونوا يأملون بها. فقد كفَّ تدريجياً اهتمام منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان بالجزائر وأصبح النظام مقبولاً. وبما ان الأخبار السعيدة لا تأتي فرادى، فقد دخلت أسعار البترول مرحلة من الارتفاع ستدوم أكثر مع عشر سنوات، مما مكّن البلد الذي يعد 40 مليون ساكناً من تحصيل أكثر من 800 مليار دولار عائدات تصدير المحروقات خلال الفترة الممتدة من 2003 إلى 2013. بلغ الفساد في أعلى قمة الأجهزة العسكرية – الأمنية مستويات غير مسبوقة، وغَيّر هيكلة السلطة في الجزائر. تشكلت طبقة من الوسطاء المرتبطين بمجموعات نافذة في رئاسة الجمهورية وقيادة الجيش بفضل قدرتها اللامتناهية على نهب واحتكار الثروات الوطنية. أصبح لرجال الأعمال هؤلاء دوراً كبيراً في مراكز القرار (11). بناء على كل هذا، فإن الجزائر تحكم اليوم موضوعياً – قرارات السياسة الاقتصادية هي أبرز دليل على ذلك – من قبل أوليغارشيا في انسجام مع الجيش والشرطة السياسية (12).
المقاومات الشعبية لليبرالية المافيوزية
إزاء هذه التطورات الاجتماعية – السياسية التي تحدث جهاراً ولكن دون ردود فعل سياسية ذات قيمة، هل يمكن أن نؤكد ان التيارات الحاملة لأفكار العدالة والتقدم لم تعد موجودة في الجزائر؟ صحيح ان كل تعبير مخالف للتوجهات التي تطبق منذ 1994 هو مستحيل تقريباً، وأن المجتمع بأكمله يعيش في ظل نظام قمعي تخلى عن المواطنين.. وقد اظهر انتشار وباء الكوليرا في منطقة وسط الجزائر أواخر آب/ أغسطس 2018 مدى تهاون نظام عاجز لا سياسة له غير تكميم الأفواه. النقاش إذاً ممنوع، والتعبير حُصِرَ في الهوامش الزبائنية لنظام خلق فراغاً سياسياً يوازي انهياره الأخلاقي وإفلاسه الاقتصادي والاجتماعي.
تعيش الساحة السياسية اذاً وقتاً معلقاً حيث لا حق للقوى السياسية التي تَعبر عن المجتمع في الوجود كهياكل ومنظمات وحتى كخطاب. إختفى المناصرون الصاخبون لفكرة استئصال الإسلاميين من المشهد الإعلامي، فقد كان غباء اطروحاتهم يزداد وضوحاً كلما تدهور وضع النظام. انقطعت تدريجياً صلة البرجوازية الصغيرة الفرنكوفونية – التي ينحدر منها الجزء الأكبر من الناشطين اليساريين – ببقية المجتمع. لم تعد المظاهرات المتفرقة التي تحاول إطلاقها منظمات تأتي من هذا الوسط تستنفر الجماهير. مع ذلك، فإنه من الجلي ان أفكار التقدم والعدالة لم تختفِ من الحقل الاجتماعي حتى وان كان الذين طالما جسدوها فقدوا كل قدرة على الاقناع والتأثير.
وكما هو عليه الأمر بالنسبة لحركة الهجرة غير القانونية لكن الجماعية نحو أوروبا، فإن تعبيرات الشباب المناهضة للنظام في مباريات كرة القدم تظهر جلياً إحباط “المعذبون في الأرض” الجدد تحت حكم الديكتاتورية الجزائرية. في الوقت الذي يخاطر فيه شبان وشابات جزائريون بحياتهم عند عبورهم للمتوسط، تتشكل برجوازية كومبرادورية عديمة الثقافة ومنتهِكة للقانون بشكل كبير، في انسجام تام مع مراكز السلطة، كما يمكننا ملاحظة ذلك من خلال قضية ترويج كوكايين (13) صادمة وقعت مؤخراً وتورطت فيها قيادات من الشرطة والجيش.
التعميق الرهيب للفوارق بين الطبقات وتكميم التعبير السياسي يساهمان في تغذية غضب شرائح اجتماعية واسعة جداً تُركت لمصيرها. لا تملك البرجوازية العسكرية، وواجهاتها المدنية العقيمة والرديئة، غير العنف وتخدير الغضب الشعبي عبر دعم السلع. لكن هذه السياسة تقترب من نهايتها، فتناقص الريع لم يعد يسمح بالتساهل في إعادة توزيع الثروة بطريقة زبائنية كما كان عليه الأمر في العقد الفائت.
في مواجهة ليبرالية مافيوزية فرضتها الديكتاتورية، يتمسك الأهالي بتقاليد المساواة والعدالة المتجذرة بعيداً عن القطعيات والايديولوجيات. في انتظار إعادة تشكل الحقل السياسي الذي لا مفر منه، لا يبقي اذاً “من اليسار” الا ما حفظه الشعب في أعماقه من رفض للظلم والتعسف ومقاومة لإملاءات الامبريالية في فلسطين ورفض الاصطفاف وراء الغرب.
(17- 11- 2018) – ترجمه من الفرنسية: محمد رامي عبد المولى
____________________________
1- الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية.
2- مثل ما وردت في النصوص الأساسية للثورة الجزائرية: “نداء 1 نوفمبر 1954 ” ومؤتمر الصومام” (20 آب/أغسطس 1956)
3- كتاب “الجزائر، التحرير المنقوص” لغازي حيدوسي، صادر بالفرنسية عن دار La Découverte، باريس، 1995، 302 صفحة.
4- للاطلاع أكثر على النشاط السياسي لحسين آيت أحمد بعد انقلاب يناير 1992 يمكن قراءة مساهمة سمير غزلاوي. 5- توقف نشاط حزب الثورة الاشتراكية – الذي أسسه محمد بوضياف – بالكامل تقريبا في أواخر الثمانينات من القرن العشرين
6- انظر جان-بيار فرنان “الحزب الشيوعي الفرنسي والمسألة الجزائرية”، مقال نشر بالفرنسية في مجلة Voies nouvelles ، 1959. 7- راجع مقال عبد العزيز سعودي.
8- موقف يمثل جزء كبير من مناضلي حزب الطليعة الاشتراكية.
9- راجع مقال سليمة ملاّح وفرنسوا جاز “الحرب القذرة في الجزائر : مسؤولون ومذنبون”، نشر في جريدة لوموند الفرنسية بتاريخ 16 أيار 2005.
10- مع وجود استثناءات تستحق الذكر كم هو الحال مثلاً بالنسبة للصادق هجرس الأمين العام السابق لحزب الطليعة الاشتراكية
11- راجع مقال عمر بن درة “جزائر الأوليغارشيين : تحالف الحربات وخزائن المال”، نشر بالفرنسية في موقع Algeria-Watch في كانون الأول 2014
12- يمكن التدليل على مدى قوة سلطة القرار التي تتمتع بها هذه البرجوازية العسكرية – الكمبرادورية الجديدة مثلا بالظروف التي أحاطت بإقالة احد رؤساء الوزراء خلال صيف 2017.
13- https://www.middleeasteye.net/fr/reportages/en-alg-rie-l-t-des-intrigues-commenc-1157796851
“السفير العربي” ومؤسسة روزا لكسمبورغ.