سوريا المُعلّقة: لا فوضى عارمة… ولا ديمقراطيّة قريبة

سوريا المُعلّقة: لا فوضى عارمة… ولا ديمقراطيّة قريبة
Pas de chaos ni de démocratie en vue

نضال آل رشي

           في ضوء التوازنات الإقليميّة والدوليّة الحاليّة، تبدو سوريا بعيدة كلَّ البُعد عن الانزلاق إلى حرب أهليّة شاملة، كما أنّها ليست على موعد قريب مع نظام حكم ديمقراطي. هذا ليس نتيجة استقرار داخلي أو توافق وطني، بل بسبب جملة من الاعتبارات الجيوسياسيّة والاقتصاديّة التي تمنع تحوّلات كُبرى في المدى المنظور.

من جهة، هناك قرار دولي غير معلن، يقضي بعدم ترجيح كفّة أي طرف سوري على حساب الآخر. هذا القرار كشفت عنه ردة الفعل الباهتة إذا لم نقل شبه المعدومة، من المجتمع الدولي إزاء فظاعة ما حدث في الساحل السوري في آذار الماضي. فبات واضحاً أنَّ القوى الكبرى تُفضّل الإبقاء على الوضع القائم المعلّق بين الحرب والسلم، طالما أنّ أي تصعيد قد يعني تداعيات غير مُستحبّة، أقلُّها قد يكون موجة لجوء جديدة لا يحتملها أحد. أوروبا متخمة، تركيا على حافة الانفجار ودول الجوار تُعيد رسم أولوياتها الأمنيّة والاقتصاديّة بعيداً عن الاستحقاقات السوريّة.

الحرب تحتاج إلى تمويل، والتمويل يحتاج إلى رغبة سياسيّة، وهذه غائبة تماماً. لم تعد سوريا بنداً مُلحّاً في أجندات التمويل الإقليمي، فالدول المعنيّة تحوّلت إلى أولويّات أكثر ربحيّة وأقل تعقيداً. أمّا من يحلم بنهضة عسكريّة لفصيل هنا أو جهة هُناك، فعليه أن يجيب عن هذه الأسئلة أولاً: من سيدفع؟ ولأي غاية؟ وما الذي بإمكان الآخر تقديمُه ولا تُقدِّمهُ الإدارة الجديدة في دمشق؟

المنطقة بأكملها (وسوريا في قلبها) أصبحت جُزءاً من مشروع اقتصادي كبير، يمتد من الغاز شرق المتوسط إلى ممرات التجارة الجديدة. في مثل هذا السياق، لا أحد على استعداد للمُغامرة بخسائر اقتصاديّة استراتيجيّة مُقابل مكاسب جيواستراتيجيّة عابرة. ولهذا فإنَّ سوريا تُدار اليوم كـ “منطقة نفوذ أمريكيّة إسرائيليّة” واضحة الملامح، والخلاف لم يعد على طبيعة النظام، بل على من سيتولى إدارته بالوكالة: تركيا؟ أم دول الخليج؟ أم كليهما؟ يبدو أن قطر سيكون لها دور محوري في المستقبل في تقريب وجهات النظر والسير نحو المُستقبل.

أمّا من ينتظر نظاماً ديمقراطيّاً نابعاً من هذه البيئة، فهو حالم. ليس لأنَّ الديمقراطيّة مُستحيّلة، بل لأنّها لن تستطيع مد جذورها في مُحيط لا يزال مَحكوماً بشبكات استبداد متماسكة، ترى في الُحريّات تهديداً وجوديّاً. مع ذلك، فإنّ رفض وهم الديمقراطيّة في اللحظة الراهنة لا يعني التخلّي عن المُطالبة بها، أو عدم تهيئة المُجتمع لاستقبالها ذات يوم، بل يعني وضع المطالب في سياقها التاريخي والمعرفي السليم، وعدم الانجرار نحو مُخطّطات مُتطرّفة لن تُبقي على “بلد اسمه سوريا” ليكون ديمقراطياً أو غير ذلك.

أمّا الطامحون بعودة دمشق إلى دورها الشمولي في إدارة البلاد، فعليهم أن يدركوا أنَّ زمن المركزيّات انتهى. ما يجري اليوم ليس مشروعاً لإهداء الدولة لطرف معيّن، بل لإعادة إنتاجها بطريقة محسوبة تتمثل في نموذج لا مركزي مرن يُراعي التوازنات المحليّة والمصالح الإقليميّة في آنٍ معاً. لا يمكن بعد الآن، تجاهُل أنَّ سوريا لم تعد كياناً سياسيّاً موحّداً. نحن أمام خارطة مُتشظّية تُدار بمراكز متعدّدة الوظائف، مما يجعل اللامركزية أمراً واقعاً لا مُجرّد طرح تفاوضي. وكل من يُراهن على عودة شاملة للمركز، يُراهن على ماضٍ ولّى إلى غير رجعة. 

شروط الخروج من الفوضى الحاليّة

     من المُهم الاقتناع بأنّ الانتقال إلى مرحلة أكثر استقراراً لا يُمر عبر أحلام الطُهر الثوري التي يبكي عليها البعض، ولا عبر الأفيون الأفغاني الذي يتعاطاه البعض الآخر، بل عبر قبول صعب ومؤلم بِمُسلّمات الواقع الجديد، وأبرزها:

  • القبول بحتميّة أنَّ سوريا الجديدة ستكون لا مركزيّة. ليس خياراً، بل ضرورة لوقف النزيف المُجتمعي والسياسي.
  • اقتلاع الفصائل والقيادات المُتطرفة المُتغلغلة في أجهزة الدولة، والتي لا تحمل أي رؤيا تغييريّة أو تشارُكيّة أو حتّى سلطويّة.
  • القبول بسوريا لا ديمقراطية (حتى إشعار آخر) أمر ممكن لابل ومُستحب إقليميّاً ودوليّاً، لكن القبول بسوريا لا ديمقراطيّة إسلاميّة مُتشددة، أمر مرفوض تماماً من كل الجِهات.
  • إطلاق عمليّة عدالة انتقاليّة جادّة، وليس على غرار جلسات الحوار الوطني الذي تم مسخُه بطريقة تُثير السُخرية.
  • الديمقراطيّة شيء، والإجرام شيء آخر. العالم قد يغضّ النظر عن غياب التعدديّة، لكنّهُ لن يغُضّ النظر عن القتل الممنهج في الشوارع أو عن الإفلات من العقاب طويلاً.

إنَّ السيناريو الأكثر ترجيحاً في حال رفض هذه المُسلّمات هو الانزلاق التدريجي نحو نمط من “الصوملة الناعمة”، حيثُ تبقى المناطق خارج السيطرة المركزيّة تُديرها سُلطات محليّة هجينة، تُديرها مصالح وولاءات داخلية وخارجيّة مؤقتة، دون انفجار شامل ولكن دون دولة أيضاً. هذا الشكل من الانهيار الهادئ قد يبدو أقل خطورةً حاليّاً، لكنّه أكثر تدميراً على المدى الطويل.

ختاماً، إنّ أحداث الساحل وأشرفيّة صحنايا (على رمزيّتها) لن تكون الأخيرة، وليست سوى محطّات في مسار طويل من الاختناقات الأمنيّة والاجتماعيّة، لكنّها لا تُنذر بانفجار شامل. الفوضى ستستمر، ولكن تحت سقفٍ مضبوط.

وكُلّما أسرعت الإدارة المؤقّتة في دمشق والقيادات المحليّة في الأطراف، بالاعتراف بالمُسلّمات سالفة الذكر وتبنّيها بواقعيّة، كُلّما انتقلنا أسرع إلى حالة من الاستقرار، حتّى وإن لم تكن مثاليّة أو مُرضية. إنّ التسليم بهذه الوقائع لا يعني التنازل عن الحقوق أو المبادئ، بل يعني تجنُّب الانزلاق إلى سيناريوهات أكثر خطورةً. أمّا الإصرار على إنكارها أو تأجيل مواجهتها، فقد يفتح الباب أمام حرب أهليّة جديدة وفوضى شاملة، في عالم يُدار اليوم بلا رؤية سياسيّة استراتيجيّة واضحة. وعندها، لن يبقى شيء للرِهان عليه، لا مركز ولا مُحيط.

Visited 85 times, 27 visit(s) today
شارك هذا الموضوع

نضال آل رشي

كاتب وباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!