احتفالية بلا ضفاف واحتفاليون بلا حدود (4)

احتفالية بلا ضفاف واحتفاليون بلا حدود (4)
د. عبد الكريم برشيد
 
 
المسرح حفل واحتفال، هكذا علمونا
   
ورد هذا الحوار في مدخل مسرحية (ابن الرومي في مدن الصفيح) والتي هي احتفال مسرحي تتداخل فيه الأزمان، ويتحاور فيه عالم الأجساد الحية مع عوالم الظلال المتحركة، ومن طبيعة الاحتفال، وهو في درجة العلم والفكر والفن، هو أنه مسرح، وأنه فعل للتمسرح، وذلك في عالم هو أساسا مسرح مفتوح، على الأرض والسماء. وعلى الناس والحجارة.
   ومن بين كل مسارح العالم اليوم، هناك مسرح يسمى المسرح الاحتفالي، أو المسرح الطقوسي، أو المسرح الأنتربولوجي، وهو الأقدم بين كل مسارح العالم، لأنه مسرح الإنسان، وهو في درجة الإنسانية، في جوهرها وحقيقتها وهو مسرح الحياة، وهي حيوية متدفقة بالحالات والخيالات والمقامات الصادقة والشفافة، وهو مسرح المدينة أيضا، وهي في درجة التمدن الحضاري، أي وهي علاقات بين الناس، قبل أن تكون علاقات بين الإسمنت والحديد والحجارة.
والاحتفالي، في هذا المسرح الاحتفالي، يبدأ دائما من الأصل المتمدد، ومن الأساس المؤسس، ومن الجديد المتجدد، ومن نبع الوجود والحياة، وهو في مسرح حياته وفي حياة مسرحه (ينطلق من نقطة أساسية، وهي أن الإنسان كائن احتفالي بطبعه، أي انه قبل أن يكتشف الكلام، فقد اكتشف الحفل، اكتشفه ليعبر عن حاجياته وأحاسيسه الداخلية، فالحفل ضرورة حتمية، ويبقى بعد هذا أن نتساءل، كيف نطور هذا الفعل/ الاحتفال لنجعله في خدمة ما هو حقيقي وإنساني وحيوي؟ ذلك ما تحاول أن تجيب عنه الكتابات الاحتفالية، سواء في البيانات أو ي الكتابات المختلفة).
   هذا الكلام ليس وليد اليوم، ولقد ورد في أقدم كتاب أصرته الاحتفالية، وهو بعنوان (حدود الكائن والممكن في المسرح الاحتفالي)، والذي صدر بمدينة الدار البيضاء سنة 1985 عن منشورات “دار الثقافة”.
   ولهذه الاحتفالية اليوم، في خرائط الوجود والمسرح والحياة، حدان اثنان متحاوران متكاملان، حد الكائن وحد الممكن، وإذا كان الكائن حاضرا وقريبا ومعروفا، فإن الممكن يظل غائبا وبعيدا ومجهولا حتى إشعار آخر، ويظل مفتوحا في وجه كل المستجدات والتحولات والتقلبات والتغيرات والمنعطفات والمفاجآت المثيرة والمدهشة، والتي قد تأتي، أو لا تأتي، وأيضا، في وجه الراحلين والباحثين والعاشقين والصوفيين والحالمين بعالم أجمل، وبمسرح ينبغي أن يكون أكمل، وبمدينة احتفالية قد تكون في يوم من الأيام أفضل، وتكون أكثر بهاء، وأكثر حياة وحيوية ،وأكثر إنسانية ومدنية.
   وبحكم أن هذه الاحتفالية متحركة، في نفوس وعقول وأرواح الاحتفاليين أولا، وأنها غير ثابتة ولا نهائية ولا مكتملة، فقد حمل (بيان سيدي قاسم للاحتفالية المتجددة) الشعار التالي: (احتفالية بلا ضفاف واحتفاليون بلا حدود).
   ولو كانت لهذه الاحتفالية ضفاف ثابتة وقارة، لانتهت عندها، ولو كان للاحتفاليين حدود لوقفوا عندها، وهذا ما يفسر أن يبقى الاحتفالي والاحتفالية في قلب الحدث دائما، وأن يكونا من صناع هذا الحدث في التاريخ، لأن الاحتفالية حياة وحيوية وحرية، وهي فعل وفاعلية في التاريخ الحي، بالإضافة إلى أنها طاقات حيوية متجددة في الأرواح والنفوس الحية المتجددة.
   ولأن الاحتفالي فاعل ثقافي وجمالي في التاريخ، فقد كان دائما مشروع حياة ومشروع وجود ومشروع نظام فكري ومسرحي لا يمكن أن يكتمل، وكانت احتفاليته هي تلك الممكنات التي تصل إلى حدود المحال، مع العلم، أن المحال ليس احتفاليا، ولا الاحتفال يمكن أن يكون محالا في يوم من الأيام.
   وخلال كل هذه الأعمار التي عاشتها الاحتفالية، على امتداد عقود طويلة جدا، لم يكن العقل الاحتفالي جامدا، ولم يكن الوجدان الاحتفالي متوقفا، ولم يكن الخيال الاحتفالي منكمشا ولا منكفئا على نفسه، ولقد كانت هذه الاحتفالية دائما في الطليعة وفي الواجهة، تتلقى الصدمات، ولا تبدع إلا الصدمات والرجات والهزات الفكرية والجمالية، ولقد كان العنوان الأساسي في ألواح هذه الاحتفالية هو التحدي والتصدي والتجاوز، وهو القبض على الكائن، للوصول إلى الممكن، والذي ينبغي أن يكون له وجود في هذا الوجود، ولقد كانت العناوين الأخرى الأبرز في المشروع الاحتفالي هي الجديد والتجديد والتجدد، وكان هدفها الإقناع الفكري والإمتاع الوجداني، وكان أقصى ما تطمح إليه، هو أن تحرر الإنسان المدني بالمسرح الحر، وأن تحرر هذا المسرح ـ مسرحنا ـ بالإنسان الاحتفالي الحر، ومثل هذا الطموح، في اتساعه وغناه، لا يمكن أن يتحقق في يوم ولا في عام ولا حتى في مائة عام في كتاب (حدود الكائن والممكن في المسرح الاحتفالي) والذي صدر سنة 1985، يمكن أن نقرأ (قد يقال إن الاحتفالية هي بالأساس جماعة .. جماعة تبحث عن مسرحها، ولكن الحقيقة غير هذا، فالاحتفالية في جوهرها شعب وأمة، أمة تبحث عن فكرها وهويتها وحقيقتها) ص 15.
   مما يدل على أن الأصل في هذه الاحتفالية هو أنها بحث باحثين وحلم حالمين، وذلك وجود حقيقي في عالم حقيقي، وإنني اليوم أستغرب، تماما كما استغربت بالأمس، أن تكون حياة الناس في بلدي احتفالات متتابعة، من المهد إلى اللحد، ومع ذلك لا يعرفون معنى ومغزى هذه الاحتفالية، مع أنها ملتصقة بجلدهم، وأنها وجوههم التي قد تخفيها الأقنعة، ولكنها لا يمكن أن تلغيها.
   وفي هذا العالم السوريالي والغرائبي، قد يرعبني الصمت أحيانا، لأنه يذكرني بصمت القبور وصمت الموتى، ويستفزني أن لا ينطق كل الناس، مع قدرتهم على الكلام، وقدرتهم العجيبة على اللغو وعلى الثرثرة وعلى النميمة في المجالس المغلقة، هناك شريحة كبيرة من حملة الشواهد الكبرى، والتي لا تعرف، من جميع كل اللغات إلا لغة واحدة، والتي هي لغة الخشب، وإنني أدعو كل من له القدرة على التفكير أن يفكر، وان يخرج من صمته، وأن يتحرر من خوفه، وأن ينطق نفس لغة الناس الأحياء في هذا العالم الحي، والتي هي بالضرورة لغة الاحتفال والاحتفالية، وهي لغة العقل ولغة الإنسان ولغة المدينة ولغة الحياة ولغة الحقيقية ولغة الجمال ولغة الكمال ولغة العصر ولغة الأحرار في المجتمع الحر، وفي الزمن الحر، وأعتقد أنه من حق أي واحد أن يتساءل، سرا أو علانية، وأن يقول أمام نفسه أو أمام كل الناس:
ــ ما معنى أن يفكر هذا الاحتفالي وحده، وأن يكون تفكيره لحساب الناس، وأن لا يجد من يفكر معه، ولا من يحاوره، بنفس اللغة العقلة العالمة، أن يكون شعار كثير من علماء الصمت هو الشعر التالي (كم حاجة قضيناها بالسكوت عنها)؟
هذا المفكر ـ الكاتب الاحتفالي، هو الذي نجده في (الرحلة البرشيدية) في دور ساعي البريد، والذي يحمل للناس الفرح والبهجة، وهذا ما يمكن أن نسمعه في المحاورة المتكلمة والناطقة التالية:
( ــ تصور أنني جئت إلى بيتك، وطرقت الباب، وابتسمت في وجهك ابتسامة صادقة، وأعطيتك رسالة معطرة، وكان في الرسالة ما يفرحك أنت، وما يفرح أهلك، وما قد يفرح المدينة كلها، فماذا تفعل يا صاحبي؟
ــ ماذا أفعل؟ أقل ما يمكن أن أفعله هو أن أشكرك، وأن أقبلك، وأن أدعو الله أن يحفظك ويرعاك، وأن يجعل الجنة مثواك، وأن أتخذك صديقا ورفيقا ..
ــ يا سبحان الله.. هل رأيت تلك الدار التي هناك؟
ــ أية دار؟
ــ تلك التي عليها علم أحمر..
ــ نعم . رأيتها ..
ــ أصحابها أتيتهم بكل الخيرات، ولكنهم لم يفعلوا شيئا من كل هذا الذي قلت أنت ..
ــ وماذا فعلوا يا صاحبي؟
ــ لقد أتيتهم بالبيانات، وبالأسفار، وبالكتابات العالمة، وبالإبداعات، وبالدعوة إلى المحبة، وبالدعوة إلى التلاقي، ومع ذلك أغلقوا في وجهي الباب، وسلطوا علي كلابهم التي عضتني، ونهشت لحمي .. أنظر.. هذه عضة كلب مستورد، وهذه عضة كلب وطني ..
ــ حقا، ما أصعب أن تكون نبيا في أمة الجاحدين والكافرين، وما أتعس أن تكون ساعيا للبريد في حارة اللئام..
ــ هناك أخطاء في هذه الدنيا يا صاحبي..
ــ نعم، فيها أخطاء كثيرة، لا يعدها العد ولا يحدها أي حد..
ــ وفيها أعطاب وأمراض وفوضى، وهناك أشياء مغلوطة في هذه الأوراق المسودة بالحبر،
أشياء غير سليمة ولا مستقيمة، فما معنى أن يكتب الكاتبون وأن لا يقرأ القارئون؟
ـ آه.. ذلك هو العبث بعينه يا صاحبي..).
   هذه الاحتفالية العالمة والعاقلة والرصينة والمتزنة والمتوازنة نفسيا ووجدانيا، والعاشقة للإنسان ولحرية الإنسان، والمنحازة للقيم الكونية، تجد من يختلف معها؟
   يختلفون مع الاحتفالية، ويرتفعون بهذا (الاختلاف) المتوهم إلى أعلى درجاته الممكنة، مع أنه ـ إطلاقا ـ لا موضوع له، ولا معنى له، ولا مبرر له أيضا، وهو في درجة من درجاته مجرد سوء فهم، أو سوء تفاهم، وقد يكون في حالات كثيرة شرودا فكريا، كما قد يكون مجرد خروج عن الموضوع وعن السياق، وهم في الضفة الأخرى، يفترضون ـ خطأ ـ أن هذه الاحتفالية هي تجربة مسرحية وكفى، في حين أنها تجربة وجود قبل كل شيء، وهي أكبر من أن تكون إبداع جماعة من الناس، جماعة سمت نفسها ذات زمن، باسم جماعة المسرح الاحتفالي، ومارست المسرح تحت مظلة الاحتفالية، والتي هي فلسفة قائمة على التعييد الحضاري في الفضاء الحضاري
   وما لا يعرفه بعض الذين يخاصمون بعض أسماء الاحتفاليين، هو أن الأصل في شجرة هذه الاحتفالية، هو أنها أكبر وأخطر وأوسع وأعمق وأبقى وأغنى وأعلى من كل العاملين فيها، وهي بهذا ليست أشخاصا من الناس، ولكنها منظومة أفكار أبدعتها عبقرية الإنسان، في مكان احتفالي، وفي أزمنة احتفالية، وفي مدن احتفالية، وفي سياقات احتفالية، وفي علاقات إنسانية احتفالية، وفي شروط ذاتية وموضوعية احتفالية، وفي شبكة علاقات إنسانية احتفالية.
   وهذه الاحتفالية، في مسرح الحياة وفي حياة المسرح، هي أكبر من مجرد مسرحية من المسرحيات، وهي أخطر من أن تكونن مجرد تقنية خاصة في الإبداع المسرحي، وهي سؤال أولا، سؤال بحجم الوجود وبعمق الحياة، وبنفس درجة الغرابة الموجودة في الأشياء، وهي منظومة أسئلة ثانيا، تتقاطع فيها الأسئلة وتتحاور وتتكامل بنظام وانتظام، وهي نظام حياة ثالثا، نظام يسعى لإعادة ترتيب الأفكار والأشياء والحالات والعلاقات في فضاء هذا العالم، وهي سفر معرفي نحو الممكن والمحال رابعا، وهي عشق صوفي للجمال، في كل أبعاده الكونية، الظاهرة والخفية، والمحدودة واللانهائية خامسا، وانطلاقا من ذلك السؤال المؤسس، تأسست في الاحتفالية معرفة، أو فقط درجة من درجات المعرفة، وتأسس فيها تفكير سمته الأساسية الوضوح والجرأة والثبات على الحق والحرية والمسؤولية والشك المنهجي والمخاطرة العلمية والجمالية،، فالكاتب الاحتفالي يكتب، وهو مدرك لمعنى الكتابة، ولجلال ورهبة وقدسية الكتابة، يعرف ماذا يكتب، ولماذا يكتب، ولمن يكتب، ويسعى دائما لأن يعرف كيف يكتب أحسن، ليكون في كتابته أكثر إقناعا وأكثر إمتاعا وأكثر قربا من الحق والحقيقة
Visited 7 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

د. عبد الكريم برشيد

كاتب مغربي