الحمل المستحيل لولادة الإنسان في “خيط البندول”

الحمل المستحيل لولادة الإنسان في “خيط البندول”

 لحسن أوزين

  يثير عنوان رواية “خيط البندول” للكاتبة السورية نجاة عبد الصمد، الكثير من الأسئلة الاستفزازية في وجه القارئ الذي يتلبسه ترف القراءة. كما لو أن الرواية توقع سجل عقد القراءة مع المتلقي على أن حياة الفرد/ الإنسان، والمجتمعات ليست لعبة اعتباطية خاضعة لهوامات القدر المحتوم. التي يولدها العجز والصد المعرفي أمام عسر ما يجري من وقائع وتحولات، وما يتراكم من اجتهادات، أو فقاعات التفاهات المدمرة للذات والأخر، وللمجتمع ككل. لعبة البندول محرقة لها شروطها وظروفها الموضوعية، كما لها تشاؤمها العقلي والنقدي، وتفاؤلها الإرادي. بالإضافة الى الكثير من الديناميات الاجتماعية، والجدليات البنيوية، والعوائق والالتباسات. ومختلف أشكال الانحدار في الزمن الأقرب الى نزيف الاجهاضات المستمرة، الشبيهة بحركة الموات الأبدي، الذي يتخذ مظهر خيط قدري للعبة يتسلى بها الأطفال، كأسلوب في التنشئة الاجتماعية الثقافية. يصلح لقولبة العقول ونشر الاستسلام والانتهازية واغتنام فرصة التمتع بالحياة، من خلال اغتصاب ما تتيحه الغنيمة من خيرات الترقي الاجتماعي بعيدا عن ثقافة الضمير المهني، والوعي بالمسؤولية. انتصارا لثقافة الإنجاز، عوض القبول بثقافة الولاء كأمر واقع مقدر ومكتوب في اللوح المحفوظ الذي وقف عند تحديد مصائره خيط البندول.

كانت نداء عنيدة رافضة ترهات الأقدار المرسومة، فواصلت طريقها، رغم كل التحديات والخسارات.

” كان دربا وأكملته، وصلت أم لم تصلي. أو وصلت خاسرة مكتشفة أن الطريق الى البيت أجمل من البيت”. 301

1- حُرقة القراءة

“شكرا لوردة التي استأمنتني على حكايتها الحزينة والملهمة. وللأحبة أنور وإيناس، حملاني أمانة وازنة. وفراس رضا، استرسل وهو يروي، لنفسه أكثر مما يروي لي، ما معنى أن تكون يتيم الأب. ولصديقي مازن الملحم الذي أهداني فكرة حكاية الكورال والمثلث والخشخيشة”. 307

 كيف يمكن لقارئ رواية خيط البندول أن يتجرأ على الكتابة عن رواية أخذت ليس فقط من وقت الكاتبة، و الشيء الكثير العزيز  على النفس، بل أخذت منها، بشكل خاص، نبض قلبها الحي، والوجدان الحميمي العميق، في اعتبار آلام وعذابات الناس البسطاء، وكل الذين مسهم من جهة، الحب والعشق الجنوني لحلم ولادة الإنسان، مهما تطلب ذلك من آهات الصبر، في محرقة الانتظارات القاسية والفظيعة، والمرعبة الى حد دفع الثمن غاليا، جسدا وروحا، ومن خلال اغتصاب العمر، في الحلم  بتحقق الخصوبة، وعيش تجربة ألم عذابات صراط الحمل والولادة الجميل. وذلك على أمل احتضان ومعانقة المولود/الإنسان.

واعتبار، من جهة أخرى، اللواتي والذين سحقتهم طاحونة الموت والفقدان، و الألم والمرض والفقر والظلم والقهر والخيبات والخسارات المرعبة والرهيبة والاغتيالات…، جزءا من ذاتها، من لحمها الحي، والقضية الأساس من أجلها تعيش. وهي معنية بكل هذه المحرقة التي اشتعلت نيرانها، وعلا لهيبها، في مساراتها المهنية والحياتية. ليس فقط على مستوى الواقع الحي الخارج عن إرادتها في علاقاتها الاجتماعية، بل أيضا في بحثها الشاق عن سبل وآليات التعبير، القادرة على منحها الشكل الإبداعي لتثبيت ودعم، ذلك الحب الجميل والنبيل لكرامة الإنسان، وتصريف تلك الآلام والعذابات، وهول رعب الخيبات الثقيلة على النفس، والمدمرة للقلب ونبضه. وتجذير سؤال محنة الارتباطات الأخلاقية المبدئية والإنسانية، التي أفرزها تقاطع مسارات قدرها الذاتي والموضوعي مع مسارات، مجموع هذه الشخصيات التي امتزج فيها الواقع بالمتخيل، الحب بالكراهية، الأمل باليأس، النبل الإنساني بالحقارة البشرية القذرة، الحلم بالأوهام، الرغبة الذاتية الجارفة بإكراهات حطام الواقع الرديء…؟

وهل تستطيع كتابة القارئ أن تأتي دفعة واحدة على السياقات النصية للخطاب الروائي، وهو يؤسس وجوده الفني، انطلاقا من متن سردي امتد عميقا في أدغال زمن السيرورة التاريخية الاجتماعية، والسياسية الاقتصادية. من تسعينات القرن  الماضي، وصولا الى ما بعد العقد الأول من الألفية الثالثة. وعبر الأنساق الثقافية والرمزية، بما في ذلك التصورات والمعتقدات المعقولة واللامعقولة، الايمانية والخرافية، الجسدية والروحية…

دون أن ننسى السنوات والشهور والأيام والساعات واللحظات الجميلة التي اغتصبت من عمر النفس والذات، وهي تسعى راضية الى تسليط الضوء على الظلال والعتمات والهوامش التي أريد لها أن تبقى منبوذة في الهامش، معزولة منسية عابرة، كما لو أنها لم تكن يوما حاضرة في الواقع بشكل أو بآخر، أو كما لو مرت ليلا بهذه الحياة في صمت ملعون بكل اللغات.

لهذا تندفع الرواية كلها، الآن، رافضة أن تكون، بعض روافدها، هامشا، أو فضلة جرها السرد الى حبائل التاريخ الماكر. تندفع على فوهة ذاكرة القراءة، ولا تقبل أن تكون أيضا خطية، أو موزعة بين القصة الإطار والقصص الفرعية أو التضمينية التي تناسلت على صفحاتها، في نوع من التوالد الحكائي، من قصة أسامة ونداء، في ترابط شديد التركيب والتعقيد بباقي حكايات الشخصيات الأخرى، الخاصة بالأسر والعائلات والجيران والأقرباء، وأصدقاء الدراسة وزملاء العمل. بالإضافة الى حكايات أخرى لها تمفصلات مع عمق التيمة الرئيسة، الحلم بنجاح الحمل المستحيل، وولادة الإنسان. التيمة التي تتمحور حولها الرواية في بنياتها السردية، وعلى مستوى خصائصها الجمالية الدلالية والفكرية. نُلمّح هنا الى حكاية وردة ومن معها توافقا في سبيل المحبة، والحب المشدود الى أفق ولادة الإنسان، الحاضر الأكبر حلما وفكرة، وقيمة أخلاقية و عاطفية. أو من ضدها سلوكا ومسلكا، وعلاقة وارتباطا اجتماعيا …

2- الحمل المستحيل بين جنون الرغبة الذاتية، وممانعة واقع الجسد

تحاول الرواية في متنها القصصي أن تقدم لنا حيوات مجموعة من الأسر، من خلال، المسارات الذاتية لأبنائها وبناتها. كما تسلط الأضواء على نوع العلاقات الاجتماعية الزوجية، والأخوية، والصداقات المتوافقة، أو المتباينة المبادئ والأهداف وأسلوب العمل والتواصل. وهي في الغالب تنتمي الى الطبقات الفقيرة، والمتوسطة، الطامحة الى تحقيق الترقي الاجتماعي، بواسطة النجاح الدراسي. هكذا كانت أسرة أسامة وزوجته نداء، قبل زواجهما. والشيء نفسه في يخص عائلات باقي الشخصيات الأخرى. تجعل الرواية من الحياة الزوجية لأسامة ونداء النبع الأساسي الذي تدفق منه السرد الروائي، بتضافر مع موارد حكائية لباقي الشخصيات، في ترابط جدلي مع ما يبدو القصة الإطار، ودعاماتها الفرعية لكل شخصية على حدة.

ففي الجزء الأول نتعرف على الدكتور أسامة في تاريخه الشخصي العائلي، الى جانب هويته الفردية الذاتية. كإنسان خلوق طموح في مساره الدراسي، راسما أفقه المهني، ونمط حياته الوجودي. وذلك تبعا لطبيعة التنشئة الاجتماعية الثقافية والقيمية التي تربى ونشأ عليها. خاصة تأثره العميق بنوع العلاقة العاطفية التي أثمرت وجوده البشري، وأسست شخصيته، وأسلوب تفكيره، ونمط سوكه. وهي علاقة والدية مبنية على الحب الصادق، النابع من الإرادة والاستقلال الشخصي في الاختيار والتقرير. وهذا ما انعكس على شخصية أسامة وجعله يعيد إنتاج العلاقة الوالدية على مستوى الارتباط القيمي والعاطفي بنداء. حيث جسد بشكل ملموس علاقة اجتماعية قائمة على الحب والصدق العاطفي مع الذات ومع زوجته. وقد بادلته نداء الحب نفسه في انسجام فكري وأخلاقي، يعبر عن توافق مبدئي في الوعي بأهمية الأخذ والعطاء، والعمل بصدق على إسعاد الآخر الذي هو جزء من الذات، والحلم والفرح والبناء والأمل في الوصول الى الهدف، مهما كلف ذلك من تضحيات. لهذا عملت نداء المستحيل من أجل تحقيق الحمل الذي تعذر لأسباب مؤلمة عاشت محنتها، خلال عملية جراحية أدت الى مشاكل في المبيض، مما سبب لها عقما، يصعب التغلب عليه طبيا، حسب ما توصل إليه الطب الحديث والمعاصر في تطوره العلمي.

وقد حاول الزوجان معا، خاصة من طرف نداء الوصول الى تحقيق حلم الحمل، وولادة طفل من صلبهما. فعلت نداء المستحيل وتحملت مشاق السفر الى الأردن، ثم الى بيروت. يحدوها الأمل أن ينجح الحمل، رغم الموقف السلبي الذي يمارسه المجتمع وثقافته إزاء أنوع الحمل الذي تعرضه الأبحاث العلمية، من خلال المستشفيات والمصحات العامة والخاصة. لقد تحدت نداء الكثير من المحاولات الفاشلة للحمل. وعانت من ويلات النزيف الساخر من أمل نداء في الحصول على طفل. هكذا توالت المحاولات الفاشلة، فكبدتها كما هائلا من الخسارات والخيبات النفسية العميقة.

لكنها رغم هذا الألم الحافر في الأعماق الدفينة، فإنها كانت قوية بفضل تاريخها الشخصي، وهويتها الخاصة، التي تعبر عن سيرة ذاتية شكلها الحب قيمة وفكرا ومبدأ أخلاقيا ورؤية الى الذات والآخر والعالم. واضحة في أسسها كإنسانة تشربت الحب مع حليب الطفولة، في علاقتها الوالدية مع الأم، وخاصة في علاقتها مع أبيها، وباقي أفراد الأسرة. وهذا ما منحها قوة شخصية في النظر والتفكير، والتخطيط للأهداف، وفي الممارسة، في علاقاتها الاجتماعية. لم تكن تريد وتطلب في تشبتها بالحمل رغم استحالته غير الحب في علاقتها بأسامة. هذا الرجل الذي لم يكن ذكوريا ولا أبويا في وعيه وثقافته، ولا في أخلاقه وقناعاته الفكرية والإنسانية. كان مضيافا في عشقه وحبه الجنوني لنداء. الى درجة أنه في دواخله العميقة لم يكن مهووسا، ولا ممسوسا بهلوسة الإنجاب الذي يمكن أن يدمر زوجته. صحيح أنه كان يأمل ذلك من أجل فرحة زوجته، في أن يراها في قمة السعادة. لذلك تحمل هو أيضا كل المتاعب والخيبات المرعبة التي كانت تنزل بثقلها الرهيب على نداء، محطمة بصيص الأمل الذي كانت تحلم أن يتسع في حجم شمس حقيقية يطال نورها المفعم بالحياة والحب وسعادة الإنسان.

وتجربة الألم نفسها عاشتها شيرين، في بحثها النفسي والاجتماعي عن السبل الطبية العلمية الصحية، والطبية التجارية، في تحايلها الحقيقي عن بشاعة الاتجار بالبشر، في استغلال قذر لشرف مهنة الطب، والصحة والحقوق الإنسانية التي تؤسسها. هذا ما فعلته شرين في سعيها المحموم لامتلاك طفل بأي طريقة، في التحايل على الرقابة المجتمعية، هذه الرقابة التي تمتلك تصورات وأفكار شرسة ومتخلفة جدا حول مفاهيم الوالدية، والأمومة، والتبني، والعقم، والأرملة…، وهي أفكار ودلالات ورؤى جهنمية في تحقير المرأة. وتبخيس وجودها الإنساني، في تحديد كرامتها وشرفها، وقيمتها، وحصانتها الإنسانية.

وإزاء عدوانية ثقافة الرقيب الاجتماعي تلجأ المرأة الى التستر والسرية في كل خطواتها من أجل الحمل. وقد تلجأ الى الطرق الغيبية والخرافية، رغم ثقافتها العلمية والحداثية، كما فعلت نداء. أو الى السبل غير الشرعية، بمسوغات وذرائع كثيرة، كما حدث مع فريد، كسلعة للمقايضة. أو الى  الوسائط التجارية كما فعلت شيرين.

لكن تميزت نداء في جنون رغبتها الذاتية لتحقيق الحمل المستحيل، بنوع من الحب الصادق، الذي يتجاوز الفهم الضيق لنزعة التملك والاستحواذ، الى التعبير النفسي والعاطفي والاجتماعي عن العطاء والسعي الخلاق الى تجسيد الهبة أو الهدية بالمعنى السوسيولوجي والانثروبولوجي( مارسيل موس)، في سبيل الحب الذي انبثق وأينع شعورا وعاطفة وفكرا في داخلها، وفي شكل  العلاقة التي جمعتها بأسامة. وهذه الأبعاد الجميلة والنبيلة هي ما افتقدته شيرين وفوزي…

لم تكن نداء تطلب غير الحب الإنساني في حياتها كمشروع وجودي.”  تمشي وتكبر صبية تتوق الى أي حب، تطمح الى أن يرضى العالم كله عنها، ألا يؤذيها أحد فيما تكره، أن تنتزع من الجميع صكوك اعتراف بأنها طيبة، وصكوك براءة بأنها لا تنوي الشر لأحد، وصكوك تعهد من أسامة أنه لن يتركها ويغيب، أن يحبها كما أحبته، أن يكثف تعابير الحب كأبطال الكتب”.  36 و37

وبهذا المعنى( سنعود إليه بتفصيل)  الذي طرح نفسه على الفرضيات التأويلية يمكننا الحديث عن الأبعاد الرمزية لإستراتيجية الكتابة. في سعيها لتوسيع آمال معاني السرد الروائي لإنتاج أبعاد دلالية أكثر عمقا لمعنى ولادة الشكل الإبداعي في التعبير عن هواجس وأحلام ورؤى وأفكار الروائي. سواء عن وعي، أو لاوعي، كان فيها لمنطق الكتابة وآليات اشتغالها الدور الحاسم في إنتاج المعنى ومنح الإبداع الروائي شكلا ومضمونا دون آخر.

3- جدلية الحب والألم

“لا أحتاج وسيطا يسلمني الى الرجل الذي اخترت. سأعطي يدي لأخي طارق فقط لأنني أحبه”. 37

 والجميل في هذا الجزء العلاقات الأسرية المفعمة بالتعاطف والحب، والشيء نفسه بين أسامة وأصدقائه، ونداء وصديقاتها. لا يستطيع القارئ أن يتجاهل العمق القيمي العاطفي الأسري. وبين الأصدقاء والصديقات، الى درجة يثير هذا التمثيل لدى القارئ الشك والسؤال، حول مدى صدق  وواقعية هذه القيم النبيلة، والدلالات الصحية الإيجابية التي تحايث العلاقات الاجتماعية بين هذه الشخصيات. وهي قيم اجتماعية ثقافية مسختها التحولات السوسيولوجية التي مست مجتمعاتنا، وجعلتها تغرق في النفعية المصلحية، والأنانية الضيقة التي تتحكم فيها سطوة المال وعبوديته اللاإنسانية.

تعود الرواية الى الأطر الاجتماعية والثقافية التقليدية، بخصائصها النوعية الإنسانية، التي تعكس الروابط الصادقة، في قوة الحب والتعاون والتآزر والتفاعل الخلاق الداعم للفرد والجماعة. بنوع من الحنين المثالي يجد القارئ نفسه مورط في لعنة التذكر، والتحسر على الأيام الجميلة. التي يمكن لقارئ آخر كان بعيدا عن هذه الأجواء والارتباطات الاجتماعية، أن تثير لديه الكثير من الانفعالات المحفوفة بالأسئلة حول الحد الفاصل بين الواقع والمتخيل، غير مصدق أن مجتمعاتنا التقليدية كانت تسودها مثل هذه القيم الإيجابية، رغم ما يكتنفها من آلام وتضحيات ونكران للذات من أجل الأخرين. هذا ما نلمسه في العلاقة بين أسامة وإخوته وأصدقائه. وأيضا بالنسبة لنداء في علاقتها مع أفراد أسرتها، وقد جسد طارق تلك القيم التقليدية رغم شحنتها الأبوية في التنشئة على القيم الجندرية الثقافية والاجتماعية الذكورية. فهي لا تخلو من الحب وكل أواصر المحبة ، والوعي بحجم المسؤولية التي تجعل الطفل رجلا (الرجولة)، انسجاما مع ثقافة القهر الأبوي. ومن جهة أخرى تلك الأبوية كانت فيها ممرات آمنة للإرادة الحرة، والاستقلال الفردي في التحكم في زمام المصير. وهذا ما جسدته شخصيات الرواية في تقرير مصيرها. وشق طريقها الخاص في الحياة متحدية الروابط التي تقف في وجه الاستقلال الذاتي في اختيار نمط الحياة. أقصد هنا كل من أسامة، فريد، فريدة، شهلا، يوسف، مجيد، بنفسج، مريومة….

وفي هذا السياق من النبل العاطفي لقيمة الحب، تمتلك شخصية فريدة مكانة خاصة في سيرورة القراءة. لكونها جمعت في هويتها الفردية كل معاني الحب والتسامح والرضى والتواصل اللاعنفي في علاقاتها مع صديقاتها”. وفي أول الثانوية استولت كاميليا على مكان فريدة في المقعد قرب نداء، وغدت للبنيتين أحاديث عن العلوم والألوان والكتب والغد البراق في  الجامعة. ولم تجفل فريدة ولم تتذمر. ظلت ابتسامة السماح قرينة وجهها”.44  

 وهكذا كانت كذلك سخية في علاقتها بأخيها فريد الذي قاسمها الحب نفسه. “فريدة تدعو الله أن ينال أخوها الدرجة الأولى، أن يتفوق على نفسها وعليها، هي التي لم تفلح في أن تكون الأولى ولا الخامسة، لعل أباهما يرضى بهذه الدرجة عن فريد. تعتقد أن أخاها أذكى منها وأنه شديد الوسامة. على الأقل لا يحمل فوق عينه اليسرى جفنا كسولا، وهي لا تغار من ذكائه ولا من سلامة خلقته… عادت والدتها بالقماشة من عند الخياطة الأمهر في زعفران ثوبا تتباهى  به أية بنت عدا فريدة، فالتباهي ليس من طبعها، كما أن فرحتها ناقصة لأن أباها لم يشتر لفريد حتى اليوم بدلة رياضية لائقة. وفريد هو الذي ينال أعلى العلامات في المدرسة لاهي، وهو الذي يحرز الأهداف كلاعب هجوم في فريقه، وناديه مصنف ضمن أندية الدرجة الأولى. وهو الذي يساعد أباه في شغل المتجر والبستان لا هي”. 52 و53

وكان فريد يبادلها الحب بصمت ممزوج بالألم، ألم عدواني وشرس، ينهشه لحمه الحي، ويمزق دواخله العاطفية العميقة بعد أن تعرف حقيقة كونه مجرد أخ بالتبني لفريدة. فكبت هذه الواقعة، الرهيبة في دواخله، التي فجرت في نفسه حرقة الأسئلة المولدة لعذابات لا نهائية. أسئلة كونه طفل متخلى عنه، وتمت مقايضته ببستان من عائلته الفقيرة للتاجر الغني فوزي الذي عانى طويلا من انتظارات جودو الحمل المستحيل الذي تحقق بولادة فريدة، بعد تبني فريد.

 وقد جسدت أيضا فريدة معاني الحب النابع من حرية الإرادة والاستقلال الشخصي في الاختيار، من خلال علاقتها بصلاح الذي اختارته زوجا، ضاربة عرض الحائط بالثقافة الذكورية التي تمنع المرأة من ممارسة حياتها بحرية وصدق، متحررة من الوصاية الأبوية.

  تحملت هذه الشخصيات كلها: أسامة، نداء، فريدة، فريد، صلاح، وردة، بنفسج…، الكثير من الآلام في سبيل الحب الذي آمنت به وانتصرت لقيمه. وهذا ما كلفها تضحيات ومعاناة مرهقة للذات والنفس، الى حد اغتصاب العمر في زحمة المضي في الطريق اللانهائي، بصبر وعناد إنساني جميل ومفرح رغم قسوة الظروف النفسية والاجتماعية.  وإكراهات الجسد الممانع الذي كان شرسا في وجه نعمة الفرح  التي كانت مجرد قوس قزح جذاب وساحر بجماله الأخاذ، في هروبه المستمر، كنجمة خادعة ومخادعة في ظلمة الليل البهيم.

” قومي نداء، لا زال في الحياة متسع، لم تخنك بعد مثلما خانت فريدة. دوسي على بقع الدم وسيري، التفتي خلفك لا ندما، بل كفارة، تدربا على عدم النسيان، أنك لو عاد الزمن وخيرك، فسوف تسلكين ذات الدرب، إنما بنكهة أخرى. سيري أنت التي في آخر الهويان تفتحت روحك هبة واحدة، إنه الحب، هنا، أمامك، حولك، بين يديك، فيك، الحب الذي، منذ لحظته الأولى، منح حياتك معناها”. 302

4- الوجه الآخر البشع لتحولات المجتمع التقليدي

وفي الجزء الثاني والثالث من الرواية نتعرف على ما يقبع تحت ذلك الوجه الجميل والايجابي من الحب والعواطف الجياشة الصادقة، التي ملأت صفحات الجزء الأول رغم ما احتضنته من آلام وعذابات، بالتوازي مع التشبيك العاطفي الأخوي حبا وصداقة مع الآخرين. وفي قصة وردة ما يعري بشاعة وجه البؤس القيمي والأخلاقي، الاجتماعي والثقافي. حيث يستغل الانسان أبشع استغلال أقرب الناس إليه. زوجته، أبناؤه وأصدقائه…

والأخطر هو عندما يتنكر الأبناء لأية صلة دموية وإنسانية أخلاقية تجاه الآباء، ومن هم في حكم الاعتبار من ذوي القربى. في ظل هذا المستنقع ولدت وتربت وعاشت وردة وردة جميلة في المزبلة. إننا أمام المقولات المادية التاريخية حيث الجديد يتشكل داخل أحشاء تعفن السائد المنحط. بيوغرافية وردة امتزجت فيها جدليات الحب والكراهية، الأمل واليأس، الاعتراف والتقدير بالاحتقار والقهر.

كما أن هذين الجزأين سمحا بفهم المؤشرات النصية والدلالية التي وردة في سياقات الجزء الأول، محايثة لتكون وتطور سيرورات الحب والصداقة وجميع العلاقات الاجتماعية. سواء بالخراب الأخلاقي والقيمي والفكري الذي طال الطبقة الوسطى، أطباء ومثقفين. إنها الطبقة التي ترجى أسامة من فعلها ووجودها التغيير النوعي، عوض التحولات البائسة التي زعزعت النظام القيمي الاجتماعي التقليدي. “ليت أبي لم يمت. كانت أمي مدبرة بيتنا، وأبي صمام أمان. سير أبي بيتنا هادئا مستقرا، مثل بيوت الموظفين، المعلمين، بيوت الطبقة الوسطى، حاملة التوازن في المجتمع وبيضة قبانه. من هذه البيوت جاءت ذخيرة أفضل الكوادر في جيلنا”. 286

ومن خلال الحقيقة المدفونة في جوف فريد، والتي كتمها عن الجميع بما في ذلك فريدة التي أحبته بأخوة عارمة معتقدها أنه أخوها الشقيق. لكن في أسئلتها السابقة ما يؤكد رعب الآلام التي عاشها فريد تحت سقف والدين تنكرا له كابن، خاصة فوزي الذي كان يرى فيه مجرد بستان هدر في لحظة طيش طغيان الرغبة في الحصول على طفل مهما كان المصدر والأسلوب، في مزاد سري للمقايضة بالبشر.

هذا الوجه البشع الذي لم تتضح صورته هو ما تكفلت الرواية لفهم مقصد مؤشراته التي ومضت دلاليا لمن يحسن القراءة، ومطاردة خبث العلامات. هذا هو السياق الذي تفهم فيه أسئلة فريدة.”  تظن أن مجيئها الى الدنيا سلب من فريد كل امتياز، بل خرب عليه حياته، فالدلال من أبيها كان يجب أن يذهب ألى فريد لا إليها.”53 لكن فريد لم يكن ليضمر الشر لأخته فريدة رغم إدراكه للسر الذي قلب حياته رأسا على عقب. وحفزه رفض فوزي زواج فريدة من أخيه الشقيق صلاح، على مغادرة البيت نهائيا دون تعرف كل هذه الأطراف الحقيقة المطموسة بين أسرة فريدة وأسرة صلاح. “فريد يرى هذا الغبن ولا يغار هو الاخر من امتيازات فريدة، ولا يفهم الشعور الذي يدفعه ليعتني بهذه الأخت كأنها واحته الوحيدة”. 54

5- خيبات حطام التراكم، والحمل المستحيل لولادة الإنسان

“لا أوطان هنا لنبنيها يا أبي، قلت له. قيادنا مربوط الى حفنة ضباط خاوين وأفظاظ، يتسابقون الى إعدام الإنسان فينا”. 13

 ما أشرنا إليه سابقا بالرمزية التي تكفلت بها استراتيجية الكتابة، تبعا لمنطقها وآليات اشتغالها، بوعي أو بلا وعي الكاتبة الصريحة، وليس الضمنية فقط. هو أن الظروف والشروط الموضوعية التي وقفت كأقدار رهيبة في وجه الرغبة الذاتية، وضد تفاؤل الإرادة على المضي في الطريق. وتحصيل المحاولات كتراكم يفتح أفق التحول النوعي لولادة الإنسان. هو ما حاولت الشخصيات تحقيقه والصمود في سبيل الوصول إليه، مع الاستعداد الجسدي والنفسي والعاطفي والمعرفي والأخلاقي على دفع ثمنه، دون القبول بلعبة الصدف، والاعتباطية القدرية والعطاءات المشبوهة والمجانية، الغريبة عن الكفاح والجهد والاعتماد على الذات في الفعل والإنجاز. إن الحمل المستحيل هو قرين النهضة المزعومة المجهضة، التي حفل بها تراثنا الزائف، في الوقت الذي لا يمكننا الحديث أصلا عن حصول الحمل. فالأمر يتعلق بحمل وهمي أو تحايلي (كما فعلت شيرين) انسجاما مع الطب التجاري للمزاد السري لبيع البشر.

لهذا نعتقد أنها الأفق المستحيل لولادة الإنسان في مجتمعاتنا، هو من بين العوالم والإمكانات التأويلية التي تنتجها جمالية التلقي، خلال تفاعلنا مع النص الروائي. وما ساعدنا على هذا الفهم والتأويل هو مفهوم الزمن الذي يؤطر أجزاء الرواية ويتخللها أفقيا وعموديا. فالجزء الثالث الحامل لعنوان 2010  حمال أوجه وله ارتباطات سميائية عبر الايحاءات الساكنة في طيات وشقوق النص الروائي.

فمحاولات نداء، كصوت عذبته سيرورة تراكم الفشل. إنها المحاولات التي باءت بالفشل الذريع، وكان التراكم في الخبرة والتجربة، مجرد كم هائل من الخيبات والخسارات التي طالت الحياة بأوسع المعاني التي أشار إليها أسامة في قراءته لمسار الآلام والعذابات التي ولدتها التجربة في نكوصها وفشلها المستمر.” وكنت تمرين عابرة على ذكرى حمل أقام ثلاثة شهور في جوفك، ولم يشعرك في يوم منها أنه سيكتمل ويهب نفسه إليك، ولم تنصاعي. مضيت تقاتلين، قتالا من أجل القتال لا قتالا يودي الى هدف، تخشين إن أو قفته ألا يبقى لديك ما تقاتلين من أجله، ولا تمنحين نفسك حق الإنسان على نفسه، أن يستسلم للضعف ولو مرة.

وكنت ترغبين أن تكوني محبوبة ولم تتعلمي كيف تحبين نفسك يما يكفي.

ولم تصغي الى نداء حبيبك: (كفى، هذه ليست رغبتي، هذه محرقة. لو خيرت بينك وبين طفل يكلف هذا العناء لاخترتك أنت) 300

<

p style=”text-align: justify;”>نجاة عبد الصمد- خيط البندول (الناشر هاشيت أنطوان، ط1- س2022)

شارك الموضوع

لحسن أوزين

كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *