الشاعر الزنجي إيمي سيزير وتضامن الحركة الشعرية السريالية مع ثورة عبد الكريم الخطابي

الشاعر الزنجي إيمي سيزير وتضامن الحركة الشعرية السريالية مع ثورة عبد الكريم الخطابي

أنور المرتجي               

وما من سُلالة تملك للجمال احتكارا

ولا للفكر ولا للقوة

وهناك مكان و متسع للجميع

حيث ثمة موعد مع الانتصار

                            إيمي سيزير (من ديوان كراس من أجل العودة إلى  أرض الوطن)

 

   يجمع النقاد على أن جينيالوجيا أو “شجرة الأنساب” التي ينتمي إليها النقد ما بعد الكولونيالي، تعود إلى الإسهامات الأولى التي قدمها رواد الحركة الزنجية (الزنوجةNégritude) أمثال إيمي سيزير Aimé Césaire من المارتنيك  وليوبولد سيدار سنغور Leopold Sedar Sengor من  السنيغال، وليون كونطران داماسLéon  Contrant DAMAS من جزيرة غويانا الفرنسية، وسوف يتنامى دور هذا الاتجاه الأدبي مع /ظهور المفكر المارتنيكي الأصل فرانز فانون Franz Fanon ، وهو ما يؤكده الباحث الكامروني في النظرية ما بعد الكولونيالية أشيل مبمبي Achille Bembé الذي يعتبِر (أن اللحظة التأسيسية للدراسات ما بعد الكولونيالية والدراسات المناهضة للاستعمار Les Etudes Anticoloniales، قامت على المستوى الفكري بفضل الجهود التي بذلها عدد من المفكرين  كإيمي سيزير وفرانز فانون وكذلك ليبولد سيدار سنغور)([1])

   انضم إيمي سيزير في ريعان شبابه للحزب الشيوعي الفرنسي، وأصبح نائبا برلمانيا لمدينة  “فور دو فرانس” منذ 1945 وبقي في هذا المنصب السياسي طيلة نصف قرن،  لكنه ترك الحزب الشيوعي  لينشئ حزبه الخاص باسم حزب “التقدم المارتنيكي”، ومن أهم أهدافه محاربة الاستعمار والعنصرية، وكان من أبرز المطالبين “بالحكم الذاتي” للمارتنيك وليس باستقلالها لأنه كان يؤمن بالاستقلال التدَرجي، كما ساند الحركات الاستقلالية في دول المغرب الكبير والهند الصينية، وغادر الساحة السياسية في عام 2005 بسبب مشاكل صحية، بعدما رفض سنة  2005 استقبال نيكولا ساركوزي بصفته وزيرا للداخلية الفرنسية على خلفية إصداره  لقانون يمجد الدور “الإيجابي” للوجود الفرنسي في بلاد  ما وراء البحار، ولم يلتق به ايمي سيزير  إلا سنة 2006 بعد إجراء تعديلات على هذا القانون العنصري، وأهداه  بهذه المناسبة كتابه الفكري (خطاب عن الاستعمار Discours Sur Le Colonialisme)(1)[2].

   ألّف ايمي سيزير عددا من المسرحيات مثل “تراجيديا الملك كريستوف” 1963 و”موسم في الكونغو” سنة 1966حول مصرع الزعيم باتريس لومومبا، وفي صِنف الشِعر، هناك ديواني “الأسلحة العجيبة” و”الشمس المقطوعة العنق” وفي مجال الأبحاث نشر كتابه الرائد (“خطاب عن الاستعمار Discours sur Le Colonialisme”)، الذي كان صرخة تمرد ضد الغرب القابع على (أعلى كَوْمة من جُثث الإنسانية)، كما نشر كذلك كتاب “رسالة إلى موريس توريز” الأمين العام للحزب الشيوعي الفرنسي بعد انسحابه من الانتماء إلى صفوفه، وفي التاسع من أبريل سنة 2008، توفي إيمي سيزير وخُصصت له جنازة وطنية حاشدة، شارك فيها الرئيس نيكولا ساركوزي، الذي اعتبره رمزا لأمل كافة الشعوب المضطهَدة، وحسب الوصية التي تركها سيزير، طالب فيها بأن يُلقى برماد جُثته  في حديقة ماجوريل بمدينة مراكش المغربية.

   ظهرت حركة (الزنوجة) La Négritude في مدينة باريس سنة1930، واستُعمل المصطلح لأول مرة في حوار صحفي مع الشاعر المارتينيكي إيمي سيزير، الذي استطاع بعد اتصاله المُبكر مع الكُتاب الأفرو- أمريكيين أن ينشر سنة 1935 كتابه الشعري الأول، بعنوان (كُرَّاس من أجل العودة إلى أرض الوطن (Cahier d’un Retour au Pays  Natal)1)[3] الذي كَتَب مقدمته الشاعر الكبير أندري بروتون، مؤسس المذهب السريالي، وسيُترجم الديوان إلى اللغة الانجليزية عام 1947، كما نَشَر الشاعر إيمي سيزير في هذا الديوان قصيدة طويلة بعنوان “العودة” التي تحن إلى الوطن وتقاوم المستعمِر الفرنسي، يدعو فيها الشاعر سكان “الأنديز الغربية” إلى إعادة اكتشاف جذورهم الإفريقية، يقول إيمي سيزير “زنُوجتي ليست حَجرا”، وهي مقطع شعري مقتبس من قصيدة كُراس “العودة”. لقد تبنى شعراء الزنوجة Négritude هذا المصطلح  (المشتق من كلمة  Négres بوصفه مصطلحا للتحدي) 2 [4]. أما عن نشأة و ظهور مصطلح الزنوجة فإن الشاعر ايمي سيزير يتحدث عن مناسبة ظهوره قائلا:   (“هكذا، ذات يوم، قال سيزير لصديقه سنغور، علينا أن نؤكذ زنوجتنا، ومن تم وُلِدت كلمة “زنوجة” ذات يوم، فيما يبدو قرب ساحة جامعة السربون” (3) [5]، كما يعترف إيمي سيزير في مهرجان الثقافة بمدينة “فور دو فرانس” بالدَّيْن الذي يدين به  للكُتاب الأفرو-أمريكيين المنتمين إلى مجموعة “نهضة- هارلم” (لم نكن نحن الذين  اختلقوا مفهوم الزنوجة، لقد كانت من إبداع هؤلاء الكُتاب المنتمين إلى حركة الأفرو أمريكيين أو نيغرو  Negro، أو نهضة – السود La Renaissance Black  الذين كُنا نقرأ لهم في سنوات عقد الثلاثينيات (1)[6]  لقد كانت هذه الحركة  بمثابة مؤشر على “التحرر الوجداني” كما يقول ألان نلوك (كان حي هارلم عاصمة العِرق الزنجي الجديد وهو المجتمع الزنجي التقدمي في المدينة الأمريكية، الذي يشير إلى ظهور ديمقراطية جديدة في الثقافة الأمريكية(2)3. لقد بدأت حركة الزنوجة في مدينة نيويورك عام 1919، عندما أُطلق عليها اسم حركة “الزنوجة النهضوية” وامتد نشاطها إلى باريس، وقام روادها بنشر روايات وقصائد في مجلة “العالم الأسود” التي أسسها  عام 1921 رنيه ماران الحائز على جائزة غونكور، كأول أسْوَد يحرز على هذه الجائزة  من خلال  روايته “بوطوَالة Boutuala” بهدف إبراز الإنتاج الفكري للمُلوَنين، والتف حولها الأديبان الأمريكيان لانغستون هوغز Langston Houges وكاونتي كولنِCuanté Cullen ومن أدباء المستعمرات الفرنسية المناضل ليون كونطران داماس من غويانا وليوبولد سنغور من  السنيغال وايتيان ليرمن من جزر المارتنيك.

   تمثل الحركة الشعرية السريالية تجربة أدبية وثقافية وفنية كان لها دور فاعل في الآداب الأوروبية، ومن أهم المبادئ التي كانت تدعو إليها، هناك مطلب  المساواة الشاملة بين جميع البشر، وأول موقف سياسي اتخذته الحركة السريالية خارج الثورة الأدبية، هو البيان التضامني مع ثورة الأمير عبد الكريم الخطابي في المغرب، الذي وَقَّعه ووزعه كبار المثقفين الفرنسيين ضد  الاستعمار الفرنسي والاحتلال الإسباني للريف المغربي، لأن هذه الحرب العدوانية من قِبل الدولتين الاستعماريتين (إسبانيا – فرنسا ) صارت تحظى بحيز كبير من الاهتمام في الحياة السياسية الفرنسية آنذاك، وسيكون لها الأثر الحاسم على المواقف التضامنية التي سيصدرها (مجموعة من المثقفين السرياليين أمثال أندري بروتون لوي أراغون بول إيلوار ورايموند كينو(1[7]، كما ساندت الحركة السريالية فيما بعد، كافة الحركات التحررية التي كانت تطالب بالاستقلال عن فرنسا في عهد حكومة فيشي، ولهذا انضم إليها كبار المبدعين والرسامين في أوروبا ومن خارجها، الذين تفاعلوا وأُعجِبوا بانفتاحها المتسامح على الحقوق المشروعة للشعوب المُستعمَرة والمُستضعَفة والثقافة الإفريقية والفن الفِطري والأقنعة والفلكلور والرسوم التقليدية الإفريقية، والنظرة المختلفة المسكونة بالدهشة والغرابة التي انتشرت في الفنون الغربية، وخاصة مع الرسامين الكبار أمثال بيكاسو وبراك وماتيس وكوكتو الذين استلهموا “الأقنعة الإفريقية” والأجواء الطبيعية في كثير من لوحاتهم ورسوماتهم. وتعتبر الإضافة الكبرى لإيمي سيزير إزاء الحركة السريالية الأدبية، أنها  تتمثل في إضفاء البعد الزنوجي عليها، وابتداع ما سُمِي (السريالية السوداء، Surréalisme Nègre، ولقد عبر إيمي سيزير عن ذكرى لقائه مع الحركة السريالية، قائلا: (بدأت أقرأ بعض الكتابات السريالية وأنصت لما يقوله أندري بروتون، وأناجي نفسي، قائلا “إنني أمارس النظرية السريالية دون أن أدرك ذلك،” ثم بعد ذلك، قلت مع نفسي، عليك أن تفتش وأن تفتش كثيرا، لابد أنك ستجد شيئا، ستجد فيها الإنسان الأصيل” (2 )[8].

   سيلتقي ايمي سيزير وأندري بروتون سنة 1941 بعد أن قرأ هذا الأخير، قصيدة “كراسة العودة إلى أرض الوطن ” وأُعجِب بها. لقد وجد إيمي سيزير في الحركة السريالية إبطالا لاستلاب واغتراب العقول، إنها نوع من الثورة الشعرية الصغيرة التي تعتمد في تشكلها على استعمال المواد الأولية الموجودة سلفا ، ولهذا يستطيع الشاعر باعتماده على المذهب الشعري السريالي أن يجد لنفسه نوعا من “الاستقلال” داخل مملكة الخيال والكتابة.

   في مقال بعنوان “نحن والسريالية” حددت سوزان سيزير (زوجة الشاعر) معنى  السريالية وهي تفتح  طرق اللاوعي وتتيح للإنسان الأنتيلي إمكانية التحرر من استلابه الثقافي، “سريالتنا” تقدم له خبز أعماقه الخبيئة  المطهرة بلهِب النار، نار الُلحْمات المزجية والحماقات الكولونيالية”، بالإضافة للبصمة السريالية في أعمال الشاعر سيزير، تحضر كذلك، نصوص غائبة في شعره لشعراء مختلفين مثل بودلير وملارميه،  لقد فَتَنَهم إيمي سيزير بموسيقية شعره ونبراته الغامضة المبهمة التي تعتمد تشقيق اللغة والبحث عن المفردات النادرة، مع تأثير صداقة رامبو الذي كان يكره أوروبا ويحلم بإفريقيا السوداء الثائرة، إن ما تمثله الحركة السريالية بالنسبة للشاعر إيمي سيزير، يعود الفضل إليه، في الإبقاء على نصاعة الحرية التي تغدي وترعى جيشا كثيفا من اللاءات، وهي الماكينة التي تشتغل في آن واحد، كأداة عصيان ضد الغرب الأبيض وأداة محو ضد اقتلاع المجتمع المارتينيكي، لقد تحولت الحركة السريالية بالنسبة لإيمي سيزير إلى سلاح أدبي ضد النظام الاستعماري. عندما امتزجت الكتابة السريالية بالشعر الزنجي الإفريقي.

   على مستوى التعبير الإبداعي، استطاع الثلاثي الذي أرسى دعائم الزنوجة (سيزير- سنغور- دلماس) أن يحقق نوعا من الانشقاق والقطيعة مع مدارات المنظومة الاستعمارية، في هذا السياق تَجدُر الإشارة، إلى أن الحركة الزنجية استطاعت أن تستقطِب حولها أبرز الأسماء الثقافية في باريس، وكان من أشهرهم فيلسوف فرنسا جان بول سارتر، الذي كَتب مقدمة مرجعية  للمختارات الشعرية الفرنسية التي أعدها الشاعر الزنجي ليوبولد سيدار سنغور، محددا خصائص  مذهب الزنوجة، من خلال ما سماه “الاحتفال الشعري” المتمثل في امتلاك الزنجي لخاصية (عاطفة المكابدة والمعاناة(1)[9]، التي يعيشها الشاعر الأسوَد في علاقته مع جسده ورؤية الآخرين له، وفي تركيزه على البحث عن هويته الضائعة، والرغبة في العودة إلى الوطن الأصلي، والنزول إلى سرداب الجحيم المتألق بالروح الزنجية، والإيمان الذاتي برونق اللغة الزنجية ،كما أن سارتر أشاد بالطابع المثير للجدل لهذه الحركة الشعرية الزنجية، التي كان لها دور فاعل في إشعال الحَرَاك الثقافي في فرنسا.  إن مفهوم “الروح الزنجية” كقِيَم وعواطف مستمدة من التراث الكاريبي الذي يعود إلى القرنين التاسع عشر والعشرين، لكن “الروح الزِنجية” التي انبثقت أولا، بصورة أشد تحديدا من رحِم الحركة الوطنية المحلية في  المستعمَرة السابقة هايتي، ففي هذه الجزيرة بالذات، وُلِد لأول مرة ضمير الزنجي الذي يعيش في معترك وخِضم عالم أبيض، على ان الحركة الأدبية المقترنة بالروح الزنجية، لم يكتمل تشكلها وتكوينها  قبل عقد الثلاثينيات من القرن الماضي، ولم يتم ذلك، مكانيا وجغرافيا في جزر الكاريبي الموطن الأصلي للروح الزنجية، بل تحَقَق  في باريس تحديدا ، وفي قلب عاصمة  إمبراطورية الاستعمار الفرنسي.

_____________________________

[1]  )  Achille  Mbembe ( qu’est  ce   que La Pensée  Postcoloniale) Esprit-2006-p12

2)  Aimé Cesaire (Discours sur le Colnialisme.Suivi Discours sur la Negritude) ed.Presence Africaine 1955-2004

1(1Aimé  Césaire  (Cahier d’un Retour au Pays Natal) éd. Présence Africaine, Montréal … P37—1990

2نايجل سي غابسون (فانونو المخيلة مابعد الكولونيالية ) ترجمة عابد أبو هيدب المركز العربي 2013—ص125

32)) Conversation Avec Aimé Cesaire( de PatricK Luis Aetea – 2007  

 

1)) Conversation Avec Aimé Cesaire( de PatricK Luis Aetea – 2007  

2) بيتر بروكر ( الحداثة ومابعد الحداثة) ترجمة عبد الوهاب علوب ،منشورات المجمع الثقافي ص171-1993

 (1Hassan Benhakeia (L’Histoire oubliée des Surréalistes et la Guerre de Rif) http://www.Tawiza.net/Tawiza97//benhakeia منقول عن الموقع

2)Patric Luis Artea(Conversation Avec Aime Cesaire )p15-2007  

<

p style=”text-align: justify;”>1)David Diop « Presence Africaine »  Joubert —1986-p78

شارك الموضوع

السؤال الآن

منصة إلكترونية مستقلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *