تجربتي مع الأرشيفات المحلية في كتابة ذاكرة “الجديدة”

تجربتي مع الأرشيفات المحلية في كتابة ذاكرة “الجديدة”

 الـمصطفى اجـماهري

1

   “دفاتر الجديدة” هي سلسلة كتابات تعنى بالذاكرة المحلية لمدينة الجديدة وإقليمها أطلقتها سنة 1993، وبالتالي دخلت الآن عامها الثلاثين. حفّزني وقتها على المغامرة بدخول هذا الحقل البحثي ثلاثة عوامل: أولها الخصاص الملحوظ في الدراسات التي تعنى بالمحلي، وثانيها مشاركتي في ورشة “الكتابة والجهة” المنظمة بالجديدة سنة 1993 تحت إشراف الراحل عبد الكبير الخطيبي، ومن ناحية ثالثة، تكويني في مجال الإعلام، بوصفه تكوينا منفتحا على كثير من التخصصات.

   وغني عن القول إن المكتبة المغربية تزخر ببحوث متميزة في مضمار الذاكرة المحلية كمثل أطروحة بول باسكون حول حوز مراكش،  والعربي مزين حول تافيلالت، وأحمد التوفيق حول يهود دمنات، والمختار السوسي حول سوس، ومحمد بنهلال حول كوليج آزرو، وإبراهيم كريدية حول آسفي. لكن، في المجمل، تـبقى هذه الأعمال، في غالبيتها، رهينة بالمبادرات الفردية والمجهودات الشخصية. وطبعا فهذه الكتابات التي تنطلق من المحلي من شأنها إغناء معرفتنا بالمحيط القريب في ارتباطاته بالوطني والدولي، وكذا الحفاظ على شذرات الذاكرة الجماعية من الضياع والتلاشي. وللأسف، فالوعي البحثي لدى الأفراد كما المؤسسات مازال ضعيفا، والكثير من الباحثين المغاربة يتحاشون خوض غمار هذا النوع من الدراسات لاعتبارها من القضايا المتعبة.  

2

   بالنسبة لتجربتي الشخصية، فقد دفعني اتصالي بالراحلين عبد الكبير الخطيبي والمؤرخ “البيضاوي” المعروف غي مارتيني، لأتساءل معهما عن كيف نجعل الكتابة وسيلة لإفادة القارئ والمجموعة ككل ؟ وكيف نعمل بمنطق الأولويات في مجتمع أصبح نافرا من الكتاب ؟ وأستحضر هنا قولة للكاتب الفرنسي، إيريك فوتورينو، المدير السابق لجريدة لوموند،(من أب مغربي يهودي)، في حواره مع مجلة “ماريان” الباريسية : “هناك كتب يجب علينا كتابتها”.

   هكذا دفعني الإحساس بواجب الكتابة إلى تبني مشروع “دفاتر الجديدة”، مع التوضيح بأن هذه المنشورات لا تأخذ دائما شكل مؤلفات مطبوعة بل كذلك دراسات ومقالات أنشرها في الصحف والمجلات وبعض المواقع الإلكترونية، تصب كلها في ذات المنحى. كما أنها ليست دائما تاريخا، بالمفهوم الحصري للكلمة، بل قد تكون أدبا (مثلا زيارة أنطوان دو سانت إيكزوبيري لبولعوان)، أو تحقيقا (البحث عن تذكار الطيار المفقود بشاطئ الولجة)، أو استطلاعا (المعمار الأوربي في بادية دكالة)، أو توثيقا (شهادات نساء الجديدة إبان الحماية)، أو نبشا في الأرشيف (القنصليات الأجنبية بالجديدة).

   ومن حسن حظي أن مشروعي هذا لقي دعما صادقا بالتشجيع والنصح أو بالتأطير من ثلة من المثقفين المرموقين مثل عبد الكبير الخطيبي، وغي مارتيني، ونلسيا دولانوي، وفؤاد العروي، وغريغوري لازاريف، ومحمد الناجي، ومصطفى الكثيري، وفاطمة المرنيسي، وغيثة الخياط، ومحمد جبريل، وبوبكر بوهادي. كما لقي العمل تنويهات مختلفة من باحثين معروفين مثل عبد الله حمودي، وجامع بيضا، ومحمد كنبيب، وعبد الفتاح الزين، ومحمد نور الدين أفاية، ودال إيكلمان، ومن الناشر عبد القادر الرتناني.

3

   يعتمد العمل الذي أقوم به من حيث جمع المادة واستقاء المعلومات والمعطيات على مصادر مختلفة مكتوبة وشفوية وكذا على الزيارة الميدانية وتوظيف الأرشيفات إدارية وخاصة.

   ولعل أكبر تحد يعترض الباحث، بعد تحدي التمويل، لهو المتعلق بانعدام الأرشيف المحلي وعسر الحصول على الوثائق الرسمية والمعلومات من المرافق الإدارية. فقد حاولت شخصيا، في أوقات سابقة، الاطلاع مثلا على أرشيف بلدية الجديدة، وأرشيف الغرفة التجارية والصناعية، وأرشيف ثانوية ابن خلدون، وأرشيف المستشفى الإقليمي القديم، لكن كل هذه المحاولات باءت بالفشل. ويعود السبب، في الواقع، إلى غياب أرشيف منظم ومهيكل يمكن الاستفادة منه. وفي رأيي المتواضع، فالتراث الوثائقي لهذه المدينة والعائد لفترة الحماية وبداية الاستقلال، رغم غناه، يكاد يكون منعدما وربما ليس هناك أمل كبير على المدى المنظور لإنقاذ ما هو موجود.

   أما بالنسبة للأرشيفات الخاصة التي استعنت بها في بعض أعمالي فتبقى محدودة من حيث كمية الوثائق، وغالبا ما كانت في ملكية أجانب من  قدماء المدينة، اعتادوا الحفاظ على أرشيفاتهم العائلية. وللتذكير، فقد كانت مدينة الجديدة، من بين المدن القليلة في المغرب التي احتضنت الأرشيفات العائلية في نهاية الحماية وبداية الاستقلال. لكن هذه الأرشيفات اختفت، بشكل تدريجي بمرور الزمن، وذلك بوفاة أصحابها ثم بعد هجرة أحفادهم إلى خارج المغرب. وقد سبق للمؤرخ المعروف جان لوي مييج مؤلف كتاب “المغرب وأوربا” أن زار الجديدة في الخمسينيات من القرن الماضي، واطلع على مجموعة من الأرشيفات المحلية العائلية، ذكرها بالتفصيل وهي أرشيف عائلة برودو (استقرت بالجديدة عام 1856 قادمة من مارسيليا)، وأرشيف عائلة باليسترينو (استقرت بالجديدة عام 1861 قادمة من جبل طارق)، وأرشيف عائلة فرنسيس جاكيتي وأرشيف عائلة الزناتي اليهودية المغربية.

4                     

   لقد كان المرحوم العلامة محمد المنوني أول من اقترح، حين زيارته للجديدة في أبريل 1981  للمساهمة في المهرجان الثقافي لدكالة، وضع مشروع لكتابة تاريخ دكالة وإنشاء خزانة للمطبوعات المتعلقة بالمنطقة. لكن نداءه لم يجد آذانا صاغية. وفي 2001 اقترح فرع اتحاد كتاب المغرب بالجديدة على المجلس البلدي مشروع شراكة لخلق وحدة وثائقية تحت اسم “ذاكرة الجديدة” تختص بحفظ مختلف الوثائق المتعلقة بالمدينة. لكن هذا الاقتراح ظل حبيس الأدراج. وفي فبراير 2003 نظم نفس الفرع ورشة تفكير في الموضوع تحت شعار “من أجل إنقاذ الرصيد الوثائقي لمدينة الجديدة” شارك فيها ممثلون عن مختلف المصالح الإدارية المحلية والإقليمية. وجاء في تقرير الورشة أن “إقليم الجديدة غني بتراثه الثقافي لكنه يعاني من فراغ توثيقي”.

5         

   من خلال تجربتي البحثية تمكنت من جمع رصيد وثائقي يهم مجال اشتغالي وهو مدينة الجديدة، وقد قمت بتسليمه إلى مؤسسة أرشيف المغرب بالرباط يوم الخميس 21 يوليوز 2022 لوضعه رهن إشارة الباحثين وحمايته من الضياع. ويشتمل هذا الأرشيف على مراسلات إدارية، ونسخا من الأرشيف القنصلي لبعض الدول الأجنبية، وقصاصات صحفية، ورسائل من شخصيات علمية، وجرائد صدرت بمدينة الجديدة، وشهادات مخطوطة ومجموعة صور بالأسود والأبيض وأقراص مدمجة. كما يوجد من بين الوثائق كناشان يعودان للقرن التاسع عشر خاصين بالمراسلات المخطوطة للقنصل جوزيف دو ماريا المقيم وقتها بالجديدة.

________

 

 

 نص المداخلة المقدمة في المائدة المستديرة “أي دور للأرشيفات المحلية في كتابة ذاكرة المدن ؟” المنظمة بمؤسسة أرشيف المغرب بالرباط يوم الجمعة 3 مارس 2023 بمشاركة الأساتذة: جامع بيضا (مدير أرشيف المغرب)، الحبيب الدايم ربي (كاتب وباحث في مجال سيدي بنور)، أحمد لعيوني (باحث في تاريخ ابن أحمد)، عبد اللطيف عوام (باحث في تاريخ آزمور) وعمر لخضر (كاتب وباحث في تاريخ الصويرة).

شارك الموضوع

المصطفى اجماهري

كاتب وناشر مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *