“عمّاتي الثّلاث”: النّص المتعدد لأسماء معيكل (2/2)
لحسن أوزين
ثانيا التّجربة الوجوديّة والديناميات النّفسيّة للشّخصيات
لا يمكن للشّخصيات الروائيّة أن تقدّم نفسها دفعة واحدة، فتطوّر سيرورة القراءة وحده هو ما يملأ بياضها ويمنحها دلالات محدّدة، في تعاون بين اللّغويّ والنّصيّ والسّياق السّوسيوثقافيّ، من خلال تجميع دلالة أسمائها وكل محمولاتها الدّلاليّة تبعا لسماتها ومواصفاتها ووظائفها…، الّتي تميّزها عبر رحلة مسارها السّرديّ. دون إغفال أيضا التّفاعلات والعلاقات التّقابليّة الّتي تؤسّسها فيما بينها وفق جدليّة الاتّصال والانفصال، أو التّطابق والاختلاف. والرواية الأدبيّة المتميّزة هي الّتي تدرك في متنها ومبناها خاصّة أنّ الشّخصيات هي قانونها الأساس الّذي تنهض عليه كرواية لها وجودها الخاصّ كتخييل واقعي تخلقه اللّغة، ويصدق كونه واقعا تحقّقه الفنيّ والجماليّ، أي جدل النّص والقارئ. لهذا يمكن القول بأنّه لكي تكون الرواية جديرة بالقراءة عليها أن تحسن بحسّ وجهد إبداعي خلاّق الاشتغال السّردي لشخصياتها. وانطلاقا من هذا نقول إنّ رواية عمّاتي الثّلاث استثمرت بشكل رائع هذا القانون الأساس، فخلقت سيرورة تدليليّة تحتمل الكثير من التّأويلات، وتسمح بزوايا نظر متعدّدة في مقاربة الرواية. لهذا يصعب جدّا بتر الرواية وتجزيئها بشكل منهجي كشرّ لا بدّ منه في الكتابة عن أحد أبعادها الّذي جعلني مأخوذا بجوانب دون أخرى لا تقلّ أهميّة في الاستحضار الشّامل لجماليّة وفنيّة الرواية. بناء على هذا سأحاول في هذا المحور تناول التّجربة الوجوديّة للشّخصيات، والدّيناميات النّفسيّة الّتي ميّزتها.
1 – التّجربة الوجوديّة والدّيناميات النّفسيّة
بعد قراءتي للرواية ترسّخ لديّ تصوّر على أنّني أمام رواية مؤلمة جدّا في عمق معانيها حول الوجود الانسانيّ، فهي تحكي مأساة نساء في عيش حياتهنّ كفراغ وجودي في صورة قدر محتوم لسلسلة من الخيبات والفشل في تحقيق الذّات وعيش الكينونة والصّيرورة الّتي تمنح الاعتبار والقيمة الوجوديّة للإنسان. فقد ولدت دميعة/سليمة/داملا في سياق من الكراهيّة والسّلبيّة القاتمة الّتي تعيشها النّساء، الأمّ والعمّات الثّلاث، كفئة اجتماعيّة مهمّشة مقهورة إلى درجة عدم الاعتراف بإنسانيتها، هكذا ولدت رحيمة، وحكيمة، فقد كانت تخرج العمّة الرّغدة من غرفة الولادة بوجه عبوس غير مرحّب بولادة البنت، والشّيء نفسه بالنّسبة لكريمة الّتي جاءت ولادتها في ظروف نفسيّة، كانت تعيشها أمّها الباتول، مرعبة مشحونة بالأحزان والقلق الوجودي جرّاء موت صغيرها البكر فدخلت في خصام عنيف مع نفسها والآخرين دون أن تستثني الله من هذا الاحتجاج، فكيف لها أن تقبل بولادة بنت وهي المستلبة عقائديا بالثّقافة الذّكوريّة للمجتمع الأبويّ البطريكيّ كغيرها من نساء البلدة اللّواتي تشرّبن منذ الطّفولة، القانون الطّبيعي لدونيّة المرأة، مع حليب الأمّهات الممزوج بالقسوة والإهمال والحرمان العاطفيّ الكلّيّ أو الجزئيّ أحيانا. ففي مثل هذه الظّروف والسّياقات والشّروط النّفسيّة للاّشعور الثّقافيّ الاجتماعيّ الجمعيّ ولدت دميعة وهي تحتجّ على ولادتها المتعسّرة في صورة الشّر المحتوم لوهم خلاص الأمّ من حياة خالية من الثّراء الوجوديّ. دون أن ننسى أنّ دميعة فتحت عينيها كبنت غير مرغوب فيها إلى حدّ حرمانها حتّى من حليب الأم الّذي أتت عليه الأحزان الجذريّة فجفّفت ينابيعه لتجود به على أخ ذكر لم يتأخّر حضوره في سلسلة الإنجاب المتكرّر الأقرب إلى الوسواس القهريّ لحياة العبء الخالية من دلالة الوجود ذاته. فتلقّفتها- دميعة- العمّات الثّلاث وهنّ في حالة استسلام للقدر، كمن أفلت كيانه ومصيره منه في تجارب وجوديّة مؤلمة مفعمة بالعذاب المروّع لكلّ واحدة منهنّ وهي تحت وقع وطأة عذاب ألم الفشل والخيبة في تحقيق الذّات وعيش النّماء الوجوديّ، حيث لا شيء يتراكم ويتفاقم في أعماقهنّ سوى الهزيمة والخيبة والمرارة في عيش اليومي كلحظة معذّبة بلا تاريخ ولا مشروع صناعة المصير، لأنّهنّ تعرضنّ لنوع من فشل مشروع الوجود الانسانيّ وما نتج عنه من إحساس بالظّلم والمرارة واختناق الوجود بسبب الشّعور بعقدة الذّنب والتّأثيم وما يرافقها من أحاسيس ونبض حزين يعمّق جراحات إدانة الذّات على فشلها. وهذا ما نلمسه في تجربة رحيمة الّتي ترافقها الأحزان ولحن الفجيعة في العتابا الّتي تصاحبها باستمرار. وأيضا حكيمة الّتي تستسلم لنزوة الموت في دواخلها العميقة، كما تلفّ نفسها بالسّواد القاتل لحيويّة نشاط الإنسان، والمدمّر لأمل طاقاته في الانطلاق والانفتاح على الحياة، خاصّة حين تجدّد الطّبيعة وجودها في فصل الرّبيع وهي تعلن ولادة الخلق من جديد. ويكتمل سياق الولادة الأسود الّذي جاءت فيه دميعة إلى الدّنيا حين نتعرّف الألم العميق لحزن لا يكفّ عن صناعة نوع من الاحتراق الدّاخليّ لما تخبّئه الفرحة والحيويّة والبهجة والمرح الفنّي والجمالي عند العمّة كريمة.
في سيرورة هذه التّجارب المؤلمة لأربع نساء: من الوالدة جيهان كما تحبّ أن تسمّيها دميعة ولدت الطّفلة كشرّ حامل للخلاص في صورة موت رحيم بالنّسبة لوالدتها كقبول مشروط في الاعتراف بحقّ الجنين في الوجود. ومن ثلاث عمّات أو بالأحرى ثلاث أمّهات هنّ في حالة من التّصدع في صورة ذواتهنّ والوفاق معها، وفي أشكال مختلفة من الاكتئاب الصّريح كما تعبّر عنه أحزان رحيمة وممارساتها الطقوسيّة للعتابا، أو في السّواد المتلبس لنزوة الموت عند العمّة حكيمة تحت ضغط عبء عقدة الذّنب، وتخلّي الأبناء عنها كحرمان يشبه الهجر والنّبذ النّفسيّ العاطفيّ. أو صورة الاكتئاب الدّفين المضمر في نفسيّة العمّة كريمة جرّاء عقدة العقم وما نتج عنها من عذابات حمل وهمي، بالإضافة إلى فقدانها لقيمة الحبّ في شخص زوجها المتوفّى. إنّه اكتئاب يتهدّد الذّات في أيّة لحظة، بحيث يتمكّن الجزء المكبوت منها من التّحكم في زمام الذّات وتوجيهها بشكل عبودي قهري في ممارسات وتصوّرات ومعتقدات ليست أكثر من هروب بديل يحمل وهم العزاء والسّلوى، وهذا ما عاشته العمّات الثّلاث بشكل متفاوت في الوضوح والشّدة والحدّة. فكيف أمكن لهذه المعطيات والسّياقات أن تكون حضنا دافئا منميا لذات الطّفلة والعمّات، أم أنّ هذا الحضن لم يكن سوى إرث ثقيل أعاق نموها ونماءها النّفسيّ والعاطفيّ الاجتماعيّ، كعبء وجدت نفسها مرغمة في تنشئتها الاجتماعيّة على حمله وتحمله والتّعايش معه؟
أ) دميعة/ سليمة/ داملا
”ما خطّطت والدتي لإنجابي، فلديها كفاية من البنين والبنات ضاقت ذرعا بهم …ثار جنونها، وسعت بين الأطباء تطلب إجهاض الجنين، رفضت توسّلاتها، فالحمل متقدّم والجنين في شهره الرّابع، رجعت أمّي بخيبة أمل، وأرغمت على الإتيان بي إلى هذا العالم…فلم أصرخ فرحة حينما جئت إلى الدّنيا، بل انهمرت دموعي، كأنّني أحتجّ على ولادتي” 1
يمكن القول بأنّ الرّاوية اخترقت باب الحياة/السّرد المحظور من خلال هذه المقاطع الثّريّة والمكثّفة في خصائصها المعنويّة والدّلاليّة، والمتخمة بشحنات مأساويّة لا تخلو من صراع عاطفي قويّ شكل أرضيّة، أو رحما لتوالد السّرد الرّوائيّ.
ما كان لهذا الاسم الثّلاثي: دميعة، سليمة، داملا في داله ومدلولاته، وفي مواصفاته ووظائفه وأفعاله الإنجازيّة: أن يكون غير مسارات سرديّة مؤلمة ومحفوفة بالمحطّات والمواقف الصّعبة والعذابات الرّهيبة وفق سيرورة حياتيّة ما كان للفرحة أن تكتمل فيها، حيث سرعان ما تتوالد المآسي والأحزان والخيبات بقدر ما تتوالد روايات العمّات كتجارب مرعبة للفشل الوجوديّ في تحقيق ذواتهنّ في أن يكنّ ويصرنّ كما يحلمنّ ويطمحن ويرغبن في أقلّ التّوقعات مثلا أن تكون العمّة رحيمة أمّا لأطفال لا يرحلون بسرعة كومض البرق، أو أن تحظى العمّة كريمة بفرحة الإنجاب حتّى تكتمل سعادة الحبّ العاطفيّ الزوجيّ، بعيدا عن عذابات حمل وهمي تقسو فيه الرّقابة المجتمعيّة بسخريّة لاذعة لا ترحم عمق الإنسان وهو يتمزّق ويتشظى في مرجل الزّمن، أو أن تتخطّى العمّة حكيمة عقدة الذّنب والتّأثيم في تجربة رباط زوجي أساسه الحبّ والعاطفة الصّادقة، بعيدا عن اللاّتواصل والاختناقات المولّدة للتّباعد والكراهيّة. ”لم يكتف جدي بتخصيص العليّة لعمّتي رحيمة، بل خصّها بقطعة أرض، وخصّ عمّتي كريمة وحكيمة بالأمر نفسه بعد أن عصفت بهما صروف الدّهر لم تكن نهايتهنّ متشابهة، ولا أمزجتهنّ متقاربة، لكنّ النّتيجة كانت واحدة فقد فتحت عيوني عليهنّ وهنّ كبيرات ووحيدات ومهجورات وبلا أزواج أو أبناء” 2.
وأيضا كما كانت تتوالد في عليّة العمّة رحيمة حكايات كانت تؤرق الطّفلة على إيقاع الخوف، وعذابات الكوابيس المرعبة الّتي تطاردها باستمرار، وهي تجعل حياتها محرقة لوأد اللّحظات الجميلة، حكايات مفزعة وفيها الكثير من الرّعب المؤلم والمخاوف الخرافيّة الّتي تعيق نماء الذّات وانفتاحها على الوجود بما يؤسّس لنوع من الاستقلاليّة في التّفكير والفعل والرّؤية والقدرة على صناعة المصير. بالإضافة إلى روايات، حياة العمّات/الأمّهات، تحفر في النّفس الصّمائم الأوليّة غير المتكيفة الّتي كانت تشكّل الوجدان والعقل والقناعات، وتشتغل كموجّه إرشادي في توجيه الطّفلة ثمّ الشّابة في الزّمان والمكان من حلب إلى إسطنبول، وفي الحكم على الذّات وتقويمها، وفي تحديد مفهوم الأنا والآخر والعالم، وفي تصنيف التّصرفات والنّاس، وتأويل كلّ التّفاعلات والعلاقات الاجتماعيّة الّتي تجد دميعة نفسها منخرطة فيها بشكل أو بآخر.
هكذا كانت حياة دميعة منذ ولادتها كطفلة غير مرغوب فيها، جاءت من سلالة عسر الحداد، والرّفض لحقّ الوجود والحياة، وسرعان ما غيّبها مولود ذكر في بحر الإهمال والنّسيان “حلّ مولود ذكر في بيتنا، تدفق صدر أمّي بالحليب، فأغدقت عليه بعد أن شحّت به عليّ، وانصرفت إليه، فوجدتني أتقلّب بين أحضان ثلاث معمّرات أغرقنني بالحنان، لم أكن أعرف أيهنّ أمّي، كبرت وأنا أنادي كلّ واحدة منهنّ بأمّي. إنّهنّ عمّاتي الثّلاث.” 3. فكانت حياتها سلسلة من الرجّات والفواجع، متواصلة بالبكاء والخوف والكوابيس، في ظلّ ثقافة تسلّط ذكوري يتجاهل وجودها ناهيك عن تقدير ميولها الدراسيّة. إنّه تسلّط ذكوري تشرّبته الأمّ إلى حدّ الاستيلاب وهي تتنكّر بسخريّة فظيعة من حقّ طفلتها في الوجود أوّلا، وفي التّعلم والاشباع العاطفيّ في سيرورة عيش الكينونة والصّيرورة ثانيا.
“اغرورقت عينا عمّتي حكيمة، وانهمرت دموع عمّتي كريمة، وهما تودّعانني فيما لم تكترث والدتي بأمري وسخرت قائلة: فضوها سيرة، شو يعني رايحة على السّفر برلك”. 4. إلاّ أنّ شجرة العمّات الثّلاث الّتي كانت تمرح تحتها وتحتمي بها وتستمتع بظلالها الوارفة سرعان ما تساقطت أوراقها وهي تعلن رعب خريف الحياة وهي في مقتبل العمر بحلب تتابع دراستها. حيث توالت عليها المحن بموت عمّتها حكيمة، ثمّ رحيمة الّتي لم يتأخّر رحيلها كثيرا، وسرعان ما ودّعتها عمّتها كريمة قبل الأوان، فاسودّت الدّنيا في عينيها. لذلك عاشت لحظة تخرّجها بحزن فادح، وحيدة ضائعة في ويلات الفقدان، ”أبكي بحرقة شديدة، لا أحد يقدّر حجم ألمي، وخسارتي بفقدهنّ”. 5.
ولعلّ حياتها في إسطنبول شاهدة على التّأثير الكبير الّذي مارسته روايات العمّات لتجاربهنّ المؤلمة كمسارات فاشلة مشحونة بالمرارة والحزن والخيبة، بالإضافة إلى شحنة مرعبة من التّصورات والمعتقدات والممارسات والتّأويلات المتباينة في تحليل الأزمات والتّجارب الوجوديّة الّتي عاشتها كلّ عمّة على حدة. دون أن ننسى ما يطبع ذلك غالبا من خرافات وغيبيات رهيبة تحدّ من النّضج العاطفيّ والمعرفيّ العقليّ، وتعيق التّفاعل الاجتماعي العفوي والتّلقائي بعيدا عن سطوة التّصورات والمعتقدات الغريبة الأطوار لثلاث عمّات معمّرات. وهذا ما جعل القوى المستعارة من التّنشئة الاجتماعيّة تقف عاجزة في مساعدة دميعة في محناتها الصّعبة ومواقفها الحاسمة، وفي تكوين حريّتها واستقلال إرادتها، وتأسيس حريّة اختياراتها، ممّا جعلها تشعر بوطأة عبء إرث العمّات الّذي حال دون توازنها النّفسيّ والاجتماعيّ. وزاد التّدمير الهمجي لبلدتها تلّ الورد وتهجير ساكنتها إلى الحدود التّركيّة من جرحها العميق في توالي الخيبات والفواجع، ولكأنّ ليس من حقّها أن تعيش اكتمال الفرحة في منح دلالة إيجابيّة لوجودها ذاته. ” أسمع صديقاتي يرددّن داملا تبكي من الفرح، لكنّني كنت أبكي عمّاتي اللاّئي غبن يوم تخرجي، وأهلي الّذين غابوا عن يوم مناقشتي وحصولي على الماجستير، أفراحي لا تكتمل والغصّة العالقة في سقف الحلق لا شيء يزيلها”. 6
لقد حفرت عميقا في نفسيّة دميعة ولا شعورها الثّقافي الاجتماعي سياقات الخيبة والخسارة والفشل الوجودي الذّريع للعمّات الثّلاث، وما ميّز ذلك على مستوى التّنشئة الاجتماعيّة لها من تصوّرات ومعتقدات كبناء للشّخصيّة وتكوين ذهني، ساهمت فيه أيضا حكايات الجنّ والضّبع والموت…، ممّا حرمها من التّحرر من أسر روايات عمّاتها المرعبة، ومن ثقل العجز المعرفيّ العقليّ الّذي يجد تبرير آليات دوافعه الخرافيّة والغيبيّة، في التّصورات والمعتقدات، الّتي جعلت أرواح عمّاتها تسكنها أينما حلّت وارتحلت.” فوجئت بهنّ حاضرات ينبعثنّ من لا وعيي بقوّة، حالما أنظر إلى نفسي في مرآتي الكبيرة حتّى صرت أخلط بين وعيي ولا وعيي فلم أعد أعلم أهنّ أحياء أم أموات؟ لم تكن واحدتهنّ تشبه الأخرى في شيء لكلّ واحدة قصّتها الفريدة لكنّ مصائرهنّ كانت متشابكة.”7 هكذا وجدت نفسها مورّطة من حيث لا تدري في سياقات خيبات العمّات إلى درجة لم تستطع بناء مركز ضبطها الدّاخلي الّذي يؤسّس حريّتها واستقلالها الذّاتي في بناء هويّتها الذّاتيّة في الوجود والانتماء والفعل والنّماء، وفي صناعة المصير. فقد كان عليها أن تكون مجرّد مرآة تنحرف داخلها مواصفات وخصائص أمزجة عمّاتها بتصوّراتهنّ وطقوسهنّ المختلفة، إلى حدّ السّقوط في فخّ التّماهي، ممّا حال دون بروز فرديتها وتفرّدها في عيش مشروعها الوجوديّ.” تمرّست على التّأقلم مع أمزجة عمّاتي وطقوسهنّ المختلفة فعشت تفاصيل حياة كلّ واحدة منهنّ كما تحياها وبرعت في التّماهي معها”. 8. لذلك لم يكن غريبا عنها أن تحمل كلّ هذا الإرث الثّقيل وهي تجوب شوارع إسطنبول وغاباتها المظلمة، دون أن تقوى على التّخلّص من أسر المصائر المرعبة للتّجربة الوجوديّة للعمّات، ولا من لعنة الحكايات الّتي هيكلت وصاغت وفق قوالب نمطيّة، البنى النّفسيّة العميقة، وعقلها وطريقة تفكيرها، وحدّدت نظرتها للحياة والذّات والآخرين والعالم، في التّفاعلات والعلاقات، وفي وضع المعنى والدّلالات الوجوديّة.
وإذا أضفنا إلى هذا كلّه المقدار الهائل من ألم العذاب القابع في جوفها جرّاء سطوة الفقدان لعمّاتها الثّلاث في سياقات مروعة دون أن يشعر الآخرون من أهلها بحجم الخسارة الّتي كانت تعيشها كلّما رحلت واحدة من عمّاتها. وازداد ألمها عندما لاحظت فرحة والدتها برحيل عمّتها كريمة. هكذا حملت دميعة /داملا في أعماقها حيوات عمّات في تجاربهنّ الوجوديّة المؤلمة، بالإضافة إلى دلالات الفقدان الّتي تكتوي بنارها في حزن خريف لا ينتهي، وجاءت مأساة بلدها الّذي دمّر عن آخره، كالضّربة القاصمة في الإجهاز على حلم فرحتها في أن تكون واقعا حيّا ملموسا. ”غياب عمّاتي اختصر السّنة عندي كلّها إلى خريف دائم، لا شتاء بعده ولا ربيع، ولا صيف، أصفر كلّ شيء في نظري وبهتت الألوان وازداد الأمر سوءا بعد أن غربت عنّي بلادي وصرت غريبة في بلاد أخرى، أسمع وأشاهد دمار تلّ الورد أرى كلّ شيء فيها يذبل ويتساقط ويموت مثل أوراق الخريف”9 .
هكذا اسودّت الدّنيا في عينها، ولم يكن إرث عمّاتها قادرا على أن يكون منارة مضيئة، أو يشكّل مخرجا إزاء هذا الانسداد الرّهيب الّذي تواجهه، بل ورّطها هذا الإرث في تجاذبات وجدانيّة متناقضة في اللّحظة نفسها، وفي اضطرابات واختلالات نفسيّة خطيرة هي أقرب إلى الهذيان وعصاب الوسواس القهريّ في تصرّفاتها وسلوكاتها المسكونة بتأويلات خرافيّة رسّبها الإرث الثّقيل السّوسيوثقافي لعمّاتها الثّلاث، وزاد من ضغط وطأته الصّمائم الأوليّة غير المتكيفة لتنشئتها الاجتماعيّة في مجتمع بطريكي لا يعترف بإنسانيّة المرأة.” رحت أحصي ميراث عمّاتي، الميراث الّذي أضحكني وأبكاني، دفأني وعراني، أماتني وأحياني، الميراث الّذي اعتقدت أنّه بقي هناك في تلّ الورد، في عليّة عمّتي رحيمة، ودكّان عمّتي كريمة وبيتها، وفي بيت عمّتي حكيمة، وإذا به أحمله على كاهلي، وفي أعماقي في إسطنبول، الميراث الّذي حماني حينما كنت صغيرة، وعوّضني عن كلّ ما افتقدته، لكنّه كبّل حياتي، فلم أعد قادرة على أن أحيا خارجه، كنت مثل يرقة تنسج الخيوط حولها، وحينما اكتملت الشّرنقة، وأردت أن أطير خارجها مثل الفراشة، قتلني ميراث عمّاتي ولم يسمح لي بالخروج”. 10
ب ) العمّة رحيمة:” ليكن اسمها رحيمة، عسى أن يجعلها الله بنا رحيمة”. 11
لم تكن العمّة رحيمة في دلالاتها كدالّ لتخيب رغبة اعتقاد الأبّ عبد الهادي الباشا الملقّب بالحجيّ. وهي البنت البيضاء البشرة، والجميلة “بقامتها المديدة، وشعرها الكستنائي وصباها الفاتر” 12، الّتي لم يرحّب بولادتها البناء الثّقافي الاجتماعي القابع في نفسيّة ونظرة العمّة الرّغدة، حيث خيّب مجيئ رحيمة إلى الدّنيا توقّعاتها وانتظاراتها لمولود ذكر. لكن غمرها الحجي بعطفه وحنانه وهي ترافقه من البيت إلى المسجد لتحظى بنعمة القراءة والكتابة وحسن المعاملة والتّقدير. لكنّها كانت تكبت في أعماقها أحزان وعذابات سرّ بكاء أمّها الزّهرة الّتي تعرّضت للإهمال والنّسيان، وصارت مجرّد خادمة مهملة لا يلتفت إليها أحد، لكونها أنجبت أنثى بيضة العقر، وهي ترى ما أفلحت فيه البتول الزّوجة الثّانية للحجيّ، حيث ملأت البيت الكبير بالبنين والبنات. وعبر سنوات العمر كانت العمّة رحيمة تراكم، في ثنايا الذّاكرة المجروحة، وبين أخاديد البنى النّفسيّة المكلومة، الخيبة والمرارة والأحزان الحافرة في القلب بحديد الاقصاء والتّهميش لأمّها، وبنار الإهمال الّذي يشي بالدونيّة والنّقص والتّبخيس للوجود الذّاتي لأمّها. ”حكت لي عمّتي رحيمة وعبرة البكاء تخنقها مرارا، كيف كانت تراها تسير في أرض الدّار مقوّسة الظّهر، ومع ذلك تساعد في إعداد الطّعام…توفيت جدّتي الزّهرة فحزنت عليها عمّتي رحيمة حزنا شديدا بينما لم يهتم البقيّة بموتها، فقد صارت مسنّة وهدها المرض وانتظر الأهل موتها باستثناء عمّتي رحيمة”. 13. ورغم ما حظيت به من علاقات المودّة والدّفء العاطفيّ من قبل إخوتها وأخواتها، وكانت علاقتها بالعمّتين حكيمة وكريمة مميّزة وفيها الكثير من الودّ والمحبّة والتّعاون والتّآزر الأّخوي، فإنها كانت تقمّع في دواخلها نوعا من الاحتقار والقهر لم يكن يجد طريقه للوجود، لكن كان يحضر في أشكال التّعبير الّتي تتلبّس نمط حياتها في المعيش اليومي، في الغناء والطّقوس، والسّلوكيات…،” إحساسها بأنّ أمّها عاشت مظلومة ظلّ يرافقها إذ اعتقدت أنّ إهمالا طالها فلم تعرض على الأطباء ما حال دون إنجاب أشقاء لها”. 14. وربّما نتيجة هذه التّراكمات كان لها موقف سلبي من الزّواج، مع العلم أنّها باهرة الجمال، ومع ذلك ظلّت ترفض كلّ طلبات الزّواج إلى أن تقدّم بها العمر قليلا. لكنّ تجربتها الزّوجيّة لم تخلّف في أعماقها النّفسيّة سوى الخيبة والمرارة وعصاب الفشل والقهر الوجودي، وهي ترى كيف كان أطفالها الصّغار في عمر انبثاق الزّهور يخطفهم الموت الفجائي في غفلة منها. وإزاء عجزها عن فهم ما يحدث استنجدت بالتّفكير الغيبي الخرافي الّذي أطّرته التّصورات والمعتقدات السّائدة في الاعتقاد في السّحر والشّعوذة والجنّ والشّياطين…
وفي غياب حاضنة حبّ عاطفي لرباط زوجي متفهّم ومتفاعل مع محنتها، استسلمت لحزن شديد، انعكس بشكل فظيع على إدانة الذّات وإهمالها لكلّ ما له صلة بالحياة، فلفّت نفسها برداء نزوة الموت في الموالد وهي تصدح بأبيات العتابا.” كان آخر ما ركنت إليه من أسباب الموت أن قرناء أبنائها من الجنّ هم الّذين كانوا يخنقونهم وهم نيام، فلكلّ إنسان قرين…اختارت الطّلاق وعادت إلى البيت تجرّ ذيول الخيبة والألم”. 15. وبسبب الفواجع الّتي عاشتها في تجربتها الوجوديّة دون سند أو دعم نفسي، أو كتفا تتكئ عليه لعبور المحنة بسلام، كان من الطّبيعي أن تغرق في حالة من السّوداويّة والحزن، موزّعة بين الدّروشة ”بصوتها الشّجي ودموعها تغسل وجهها”.16. وتحمّلت الكثير من المتاعب وهي تساعد أختها حكيمة في تربية أبنائها بعد أن توفّي زوجها. ولم يكن لتنهار بشكل سريع إلاّ بعد رحيل أختها حكيمة، حيث تأثّرت بموتها بشكل انعكس سلبيا على قلبها المثخن بالجراح، فنالت منها الأحزان ما تبقّى من تصلبها في الوقوف صامدة في وجه المحن.
وبناء على هذه التّجربة الوجوديّة المؤلمة الّتي فتحت دميعة عينيها عليها، وتعرّفت عليها بروايات مختلفة من قبل العمّة كريمة أو العمّة حكيمة، تأسّست علاقتها بعمّتها رحيمة كأمّ قبل أن تكون عمّة، وأغدقت عليها الكثير من المحبّة والحنان دون أن تبخل عليها بشيء، لكن دميعة امتصّت بشكل أو بآخر الكثير من الأحزان والمواجع والآلام الدّفينة. دون أن ننسى كيف تفاعلت دميعة مع عمّتها في السّنوات الأخيرة قبل وفاتها، حين غرقت في حالة نفسيّة صعبة ممزّقة بين الحرص على الحياة وتهيّب الموت. وخرج جزء ذاتها القاتم الأسود المكبوت من تجربتها الوجوديّة ليفرض ديناميات نفسيّة مرهقة ومؤلمة حيث” استعادت عمّتي رحيمة سيرتها وسيرة أبنائها الّذين خطفهم الموت، وعاد صوتها ليصدح بالعتابا، وبدأت صحّتها تتراجع بعد أن عافت نفسها الطّعام والشّراب، ما خلا لقيمات يقمن صلبها، وغاصت بين الأدعية والصّلوات، وحينما تفطنّ لوجودي كانت تحكي لي عن الأموات، وما يتعرّض له الميّت بعد أن يوارى الثّرى”. 17
ج) العمة كريمة
وجدت نفسها منذ الولادة غير مرغوب فيها، لأن أمها كانت تنتظر صبيا. وهذا ما جعل حياتها عرضة للإهمال والنبذ، والانفصال السيكولوجي. لكن لم تضمر الشر والحقد لأمها التي لفظتها وأهملت وجودها الإنساني، بدعوى أنها أنثى وليست ذكرا. هكذا كانت الأم تحت وطأة نيران القيم الأبوية الذكورية التي جعلتها تتنكر كليا للصبية، تهمل مولودتها كريمة. وكانت بالفعل دالا رائعا لكل الايحاءات الجميلة والكريمة، والنابضة بالخير والعشق والحب. فعاشت تجربة حب جميل مع زوجها، مفعمة بالفرح والتفاؤل. لكن استحالة الإنجاب سبب لها الكثير من المشاكل النفسية، النابعة من الكهوف المظلمة لنظرة المجتمع وثقافته التمييزية في منح القيمة الإنسانية للمرأة الولود. ومع ذلك لم تتخل عن شخصيتها المرحة النشيطة والمتفائلة. لكن عندما توفي زوجها عانت الكثير من العزلة والغربة والوحدة النفسية. فظلت تتنفس أملا، وفرحة، من رصيد الذكريات العطرة التي جمعتها بزوجها، وهي تعامل دميعة كجزء منها، باعتبارها طفلتها الحقيقية. “أنا الآن لست نادمة على شيء، عشت حياتي مع المرحوم بسعادة، عرفت الحب وعرفت الأمومة، فقد عوضني الله بك”. 195
صحيح أنها كانت تحتفي بنفسها، وتخلق السعادة من أعماقها. وتحاول بجدية ألا تستسلم لليأس والحزن والحقد والكراهية. إلا أن شراسة النظرة الاجتماعية الثقافية تجاه المرأة عموما، وغير الولود خصوصا، جعلتها تعاني بألم عميق الى حد الوقوع ضحية تهيؤات نفسية وذهنية رهيبة. مما أفقدها توازنها النفسي والشخصي، بمرارة مكبوتة في الأعماق. ” لمحت في عينيها حزنا دفينا كانت تداري دموعها، لم أعرف ما الذي كان يؤلمها في هذه اللحظة أكثر، شوقها لوسيم وذكرياتها معه أم قسوة الناس من حولها؟”. 198
وساءت حالتها الصحية والنفسية بعد وفاة أختيها رحيمة وحكيمة. وعاشت نوعا من الانكفاء على الذات في عزلة قاتلة. فجأة رحل كل دلك الشغف بالحياة وفرحة الحب، لتفسح المجال لسطوة الألم النفسي العميق، بأنها وحيدة، هشة، أمام قسوة الحياة التي لم تترك لها كتفا تتكئ عليها غي مواجهة الوحدة والغربة. كما لو كانت منبوذة ، متروكة لوقائع الأيام تفعل بها ما تريد، غارقة في تخيلات وتصورات كان لها فيها نصيب من المرارة والألم والمعاناة.
“حزنت عمتي كريمة على وفاة عمتاي حكيمة، و رحيمة، فقد فقدت جناحيها. وقبلهما بزمن كانت قد فقدت جدي الحجي وجدتي الباتول وزوجها وسيم. تكاثرت عليها المصائب فصارت تميل الى العزلة، وعدم مخالطة الناس”. 202
أمام هذه المحن التي عاشتها، لم تتأخر كثيرا عن مغادرة حياة شبعت من فرحها وقسوتها، الى حد الرغبة في الالتحاق بعالم الملكوت. “كنت في عالم الملكوت فأنزلتموني الى عالمكم البائس ليتكم تركتموني هائمة في عالم الحي الذي لا يموت”. 206
د ) العمة حكيمة
رغم ما تميزت به العمة حكيمة من جدية ونشاط وحكمة في النظر والتفكير، فإن تجربتها الوجودية مؤلمة جدا. فقد قمعت في جوفها الحي الحب والعواطف الإنسانية، التي يمكن أن تيسر سبل التواصل والتفاعل الخلاق مع زوجها. كان للقهر النفسي والاجتماعي دور كبير في صياغة نمط حياتها الوجودي. الشيء الذي شكل في أعماقها ديناميات نفسية رهيبة في التجنب والنفور من زوجها الذي لا ذنب له في الحقد والعداء الداخلي، تجاه قهر المجتمع الذكوري، الذي ترسب في نفسيتها. فعاشت حياة مفعمة بالسواد الداخلي والخارجي. حيث تؤثث بيتها، وجميع فضاءات محيطها باللون الأسود. “كل ربيع تجدد عمتي حكيمة حزنها، وتصبغ ملابسها بالسواد”. 131. لأنها كانت غارقة في عقدة الذنب والتأثيم، بسبب موقفها العاطفي من زوجها، وبشكل خاص، بسبب اعتقادها أنها السبب في موته. “لقد تسببت عمتك بموت زوجها وشعورها بالإثم يكاد يقتها”. 143. لقد دفعته الى الموت في النفق المظلم دون شفقة ولا رحمة. “حزنت حزنا جليلا، جميع من حولها ظن أن حزنها الكبير بسبب حبها العميق له، ووحدي كنت أعلم أنها كانت تشعر بالذنب تجاهه وعذاب الضمير لأنها لم تره يوما أبيض في حياته معها، وكانت مقصرة في واجباتها الزوجية نحوه وراحت تجلد نفسها بالحزن المبالغ فيه”. 140
وتزداد مرارة عذابات تجربتها الوجودية، ليست فقط في المعاناة التي تجرعتها بعد وفاة زوجها، بل أيضا من خلال الهجر النفسي والاجتماعي والإنساني الذي عاشته، من طرف أبنائها الذين رمتهم الى المنفى خوفا عليهم من السلطة الغاشمة التي هددتهم بالاعتقالات. “كانت عمتي حكيمة تنام وتصحو على حلم عودة أبنائها الى دارها وأمل عودتهم إليها بيد أنهم لم يعودوا”. 106. إلا في صورة فكرية وأخلاقية متناقضة كليا مع النسق الثقافي والقيمي الذي عرفته البلدة. تنكروا لكل تضحيات الأم وخوفها عليهم من شراسة التسلط الاستبدادي.
وفي كل المواقف المؤلمة الصعبة التي عاشتها العمة حكيمة، كانت تجد الجميع بجانبها، خاصة العمتين رحيمة وكريمة. “حينما فجعت عمتي حكيمة بوفاة زوجها مخلفا لها ثلاثة أبناء صغار. سارعت عمتاي رحيمة وكريمة لمساندتها، فأسهمتا معها في تربية الأيتام، وأغدقتا عليهم من فيض حنانهما وكأنهما تعوضان بهم عن حالهما”. 105
هكذا كانت كل واحدة من هن حضنا وكتفا للأخرى في مواجهة ظروف الحياة الصعبة. وفي هذا التضامن والتعاون الأخوي يتم تصريف الكثير من التوترات والضغوطات النفسية والاجتماعية. لذلك لم تغب أجواء الفرح والحكايات الساحرة، المعبرة عن الإرث البشع والثقيل للمجتمع الأبوي بقيمه الذكورية، المشحونة بالعسف والقهر والاحتقار الذي يمرغ النساء في وحل الحياة العطن.
وكم كانت مؤلمة الأيام الأخيرة للعمة حكيمة، السخية بالأعمال الخيرية تجاه الأيتام والعجزة في حلب. المرأة النظيفة و الأنيقة والصموتة التي يتعذر سبر أغوار نفسها، تعذبت كثيرا من قسوة قدرها المشؤوم. كما تأثر الجميع لحالها، لذلك بادروا لخدمتها، خاصة أختيها رحيمة وكريمة. “لم يستطع أحد منا حبس دموعه وهو يرى ما آلت إليه حالة عمتي حكيمة، الموسومة بالنظافة والطهارة، وبأداء الصلاة على وقتها، وكيف صارت جثة هامدة تفوح منها رائحة القروح والمعقمات والأدوية، بعد أن كانت رائحتها تفوح بالمسك والعنبر وبخور العود الفاخر”. 163
مرعبة جدا التجربة الوجودية للعمات الثلاث، كما أشرنا سابقا الى بعض وجوهها البارزة. ورغم القليل من الاختلاف بينهن، فإن الديناميات النفسية الموشومة بالقهر والآلام الرهيبة كانت متشابهة كثيرا. فالقيم الثقافية الاجتماعية التقليدية للمجتمع الأبوي، في ظل التسلط الطغياني للديكتاتورية الحاكمة، قمعت وقهرت النساء بشكل مضاعف، الى حد أنهن قمن بإبداع أشكال من التعاطف والتعاون والتضامن لتذليل الصعوبات والأزمات التي كانت تحاصرهن وتضيق عليهن منابع الحياة. سجينات قوالب نمطية ذكورية في الزواج والإنجاب والأمومة والتضحية ونكران الذات…
ومن خلال هذا تلقي أسماء معيكل الضوء على قضايا النساء، التي نادرا ما ينتبه المجتمع الذكوري الى قسوتها وشراستها المروعة في قهرهن. والقذف بهن في الزوايا النفسية المؤلمة لاجترار مآسي العزل والدونية والإهمال واللامبالاة، كما عبرت عن ذلك أيضا التجربة الوجودية لكل من الزهرة والباتول و الرغدة…
هكذا تتّضح لنا الصّورة، ونتعرّف السّياقات المرعبة والمؤلمة الّتي أشرنا إليها سابقا كحضن إنساني عاطفي اجتماعي، متصدّع في تجربته الوجوديّة، وممزّق إلى درجة التّشظي في دينامياته النّفسيّة، حضن تلقّف طفلة غير مرغوب فيها. فكان لهذه المسارات السّرديّة لروايات العمّات في تجربتهنّ الوجوديّة، وللحكايات التّي احتضنتها عليّة العمّة رحيمة، دور كبير في تشكيل الرؤى والأفكار، و الأفق الوجوديّ لنمط الحياة، والمصير الّذي عاشته دميعة/داملا.
* أسماء معيكل: عماتي الثلاث (المؤسسة العربية للدراسات والنشر الطبعة الأولى 2020 )