من سيمون دو بوفوار إلى نيلسون أليغرين: مغارات باريس

من سيمون دو بوفوار إلى نيلسون أليغرين: مغارات باريس

  ترجمة : سعيد بوخليط

 

   [الجمعة  20 يونيو 1947

  حبيبي،

بدوري، أحيا قليلا بين ثنايا طمأنينة التمساح(1)،حينما أنظر  إلى رحابة العالم الخارجي حولي، غير أنه يثير اشمئزازي.

غادرتُ البارحة عشِّي الأخضر صوب باريس، هكذا تركتُ غرفتي ذات اللون الوردي الشبيه بمادة تلوين معجون الأسنان، نحو إحدى المغارات الأنيقة التي يحتشد داخلها في الوقت الحاضر شباب كي يرقصوا ويشربوا.

لقد أخبرتكَ عبر فقرات رسالة سابقة ،عن مثل هذه الأجواء التي تحتضنها إحدى المغارات، في حين يشير كلامي حاليا إلى مغارة أخرى يشملها الحي الذي أقطنه.  

تعلق الأمر خلال السنة الماضية،بنادي خاص يرتاده المنحدرون من جزر الأنتيل، بينما يلتقي داخل هذا الفضاء، كل مساء، جماعة مثقفي حي سان جيرمان دي بري.

عند حلول الساعة الحادية عشر ليلا، نطرق باب مقهى يلفه ارتياب كبير، تفتح لنا امرأة ذات شعر فاحم، ننزل صوب مغارة مخصَّصَة للأكثر تأنُّقا: بساط، كراسي مريحة لونها أحمر داكن، حانة، بيانو، أسطوانات. يتدافع نحو الوجهة المقصودة، أفراد من شرائح متنوعة، يخبط الجميع بكيفية غامضة، جميعهم مثقفين يرفعون إعلانات، بكيفية عدائية، تكشف عن نوعية عشيرتهم: شعارات متعارضة.

عاينتُ ضمن الحضور ميشلين بريسلي، الممثلة الفرنسية  الرائعة التي لعبت دورا في فيلم شيطان الجسد، حدثتكَ سابقا عن مضمونه، كما نجدها أيضا راهنا ضمن طاقم فيلم حول سارتر.

جاء كذلك إلى المغارة مع رفيقته، بطل فيلم الأرض المفتوحة، أقصد تحديدا الممثل الايطالي مارسيلو باجليرو، وكذا شخصيتان أعرف هويتهما، تنتميان بدورهما إلى عالم السينما.

لم يلوِّح هؤلاء بلافتة معينة، مقارنة مع الآخرين الذين صنفوا هوية تكتلهم وأخبروا الباقي بكونهم وجوديين (كنت ضمنهم)، شيوعيين، فاشيين.

ضمن إطار هذا السياق، حضر شخص غريب قذر للغاية، مخبول، وفظيع، كاد أن يعدم رميا بالرصاص بعد تحرير فرنسا. انخرط في رقص مع امرأة مسِنَّة، ثملة، وبشعة : اصطحبه عديد من العملاء والفاشيين، بالتالي أضحت الأجواء متوترة جدا.

خلال نهاية الأمسية،صدح الفاشيون جهارا بتأمل مقزِّز حول اليهود، أثاره أحد الشيوعيين: ”ما المشكلة بخصوص اليهود؟”، ثم تدخل بعض الوجوديين مقترحين على الشيوعيين توطيد تحالف مؤقت كي ينهالوا ضربا على الفاشيين.

رفض الشيوعيون اقتراح التيار الوجودي، فاندلع بينهما نقاش حاد. حينها أخذت جل مكونات التيارين في التلويح عدوانيا صوب الأعلى، بالشعار المعبِّر عن قناعاتهم الفكرية.

اضطر الشيوعيون إلى مغادرة المكان، بسبب غضب الوجوديين، إبان ذلك تقدم أحدهم نحو شخص فاشي كي يطأ على قدميه، فاحتج الأخير صارخا في وجه الفاعل: ”لقد حطمت قدمي”، ثم شرعا يتخاصمان.

انقسم الجمع إلى فريقين، باستثناء ثلاثة أو أربعة أشخاص ظلوا جاثمين على أرائك حمراء،  كالأموات جراء الثمالة، بالتالي عدم اكتراثهم بأجواء اللكم.  

انزوت النساء في الداخل ينتظرن بهدوء ويتثاءبن، فقد بلغت الساعة الرابعة فجرا،غاية عودة الرجال.

أخبروني بأنَّ هذا النوع من المشاهد، يختبره كل ليلة جوف المغارة الفكرية الراقية.

غادرت عائدة إلى مأواي الدائم، ذي الطلاء الأزرق والأصفر.عند حدود الساعة الخامسة صباحا، كنت نائمة.

حبيبي،

قدمت لكَ نظرة خاطفة عن عالمي الذي تحوم حوله أعلام الحرب، إن أشعركَ ذلك بالتسلية، فنِعْم الوضع.

لكن، يعتبر بالتأكيد، مثيرا للاهتمام، معرفة حيثيات عالم  سعيد بجذوره، يَرَقاته، وكذا العظام الشائخة، كما الحال بالنسبة لعالمكَ. أشعر بالطمأنينة حين تواجدي داخل خندقكَ.

تشعرني فكرة استلهامه بالسعادة، وبأنَّ الرجل-التمساح يستلقي هناك، ويسمح لي كي أسترخي بجانبه وسط وحل الطين، أو تحت أشعة الشمس عندما ألتمس منه ذلك.

هكذا، تارة نغامر معا صوب الفضاء الساطع والعالم الفظِّ، ثم تارة أخرى ننزوي، نتوارى معا للاختباء جذورنا وكذا حضننا.

أعلم بوجود سلام وسعادة على هذه الأرض، إذا أمكنني فقط حبيبي، النوم بين ضمَّة  ذراعيكَ.

حين قدومكَ دون أن يأخذ أحد خبرا، أو تحرك ساكنا، ثم تستلقي بجواري، فينبغي لك حبيبي أن توقظني. هكذا؟ خمِّنْ التالي… ،لنحلم مادام ذلك سيحدث.

أشعر كما لو أني سأفتح عيني وأبتسم في وجهكَ.

سيمون كلها لكَ.

*ما رأيكَ بخصوص هذه الحوادث الفظيعة المرتبطة بالطيران؟ قرأت تفاصيل الخبر على صفحات مجلة التايمز، بالتالي لست متأكدة بأني سأصعد مرة أخرى سلالم طائرة. هل تحب خلال يوم من الأيام رؤية نفسكَ محترقا حيا ؟ لقد ساعدنا الحظ كثيرا سابقا. 

اتصل بي هاتفيا مدير الصنداي التايمز، غير أني لم أتمكن من لقائه.].  

__________

 هامش:

(1) ابتدعت بوفوار، لقب التمساح، كي تخاطب أحيانا عشيقها نيلسون أليغرين.

مصدر الرسالة:

<

p style=”text-align: justify;”>Simone de Beauvoir :un amour transalantique(1947 -1964) ;Gallimard1997.PP : 47.49 

شارك الموضوع

سعيد بوخليط

كاتب ومترجم مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *