يوميات الحرب كما ترويها صحفية أوكرانية

يوميات الحرب كما ترويها صحفية أوكرانية

ريم ياسين:

   نشرت صحيفة “ليبراسيون” الفرنسية في عددها الصادر في 20 فبراير 2023 ترجمة من اللغة الأوكرانية إلى الفرنسية، شهادة وخواطر الصحافية الأوكرانية كريستينا بردنسكي عن السنة التي قضتها من فبراير 2022 حتى يومنا هذا، تناولت فيها حياتها خلال الاحتلال أو الاجتياح الروسي. ونحن بدرونا ننقل إليكم هذه الترجمة الى العربية.

    في 31 ديسمبر في منتصف الليل خرجتُ إلى الشرفة، لأرى كيف تستقبل كييف السنة الجديدة 2023، الجادة الكبيرة، وسط المدينة كانت مقفلة، قافرة كليا، لا سيارات، ولا  مشاة، لا زينة لعيد الميلاد أو رأس السنة، كان هناك سكونا غير اعتيادي يخيم على المدينة. في ليلة رأس السنة بدأ منع التجول بدءا من الساعة 11 ليلا، فحتى خلال أعياد لم يرفع منع التجول، كنت أريد أن أنسى الحرب في هذه الليلة، ليلة واحدة فقط، كنت أريد لأول مرة خلال هذه السنة أن أشرب الشمانيا وأحس نفسي خفيفة، وأتمنى أمنية في منتصف الليل، أنا وأصدقائي فتحنا زجاجة نبيذ فوار واسمها krym .. هذا لأنها من صنع جزيرة القرم، هذه الزجاجة من مدينة باخموت وهي إحدى مدن الدونباس التي دار حولها قتال كبير خلال السنة، ودمرت لأكثر من 60 بالمئة، يمكن أن نتساءل لماذا هذا النبيذ له طعم خاص بالنسبة لهذه السنة، هذا يذكرنا بأن روسيا تقوم بحرب مع أوكرانيا، منذ تسع سنوات عندما احتلت روسيا القرم وجزء من الدونباس سنة 2014 وكذلك في خلال في سنة 2022، اجتاحت روسيا بشكل كبير ودموي أوكرانيا ولكن أوكرانيا لن تستسلم ولن تتخلى عن أراضيها.

   بعد ما قرعنا كؤوس السنة الجديدة على الشرفة عدنا إلى الداخل، وجلسنا حول الطاولة التي حضّرنْاها للمناسبة، ولكن بعد نصف ساعة من منتصف الليل، دقت صفارات الإنذار، وفي الوقت نفسه وصلت رسائل على هواتفنا تفيد أنه علينا الذهاب إلى مكان آمن بسرعة، بعد دقيقة واحدة سمعنا ضجة كبيرة وأصواتا عالية. الدفاع الجوي انطلق وأوقع الدرون من صنع إيراني بسماء كييف.

   وحسب الأرقام الرسمية، طال القصف 32 موقعا في كييف ومحيطها ليلة رأس السنة، كنت أجلس حول الطاولة قريبا من النافذة، أستمع إلى الأصوات القادمة من الخارج، لكنني لم أخف أبدا، ما أحسست به هو الغضب والتصميم والأمل، كنت أفكر أن بوتين سرق هذه السنة من حياتي، ولن أترك له المجال لكي يفسد علي سهرة رأس السنة والسنة المقبلة. أكملنا السهرة وفوجئت أني كنت أحلم، أن الحياة تتغلب على الموت، وهذا أمل أكثرية الأوكرانيين.

   حسب الاستفتاء الذي قامت به مؤسسة المبادرات الديمقراطية في ديسمبر 2022 بالتعاون مع مركز الخدمة الاجتماعية ومركز رازن كوف، فإن 93 بالمئة من الأوكرانيين يعتقدون أن بلادهم ستربح الحرب، وفقط 3 بالمئة يشكون في ذلك.

   الساعة الثانية والنصف بعد منتصف الليل، انطلق الدفاع الجوي من جديد، وكنا نكمل طبق “البط المشوي”، خلال هذا الوقت كان من المخيف التفكير كيف استطعنا ان نتأقلم على الحرب بهذه السرعة؟

   هل كان معي الحق في البقاء بكييف؟

تتساءل الصحفية كريستينا: هل كنت على حق بالبقاء في مدينة كييف؟ قبل سنة كانت ردة فعلي مختلفة جدا، في الخامسة صباحا عندما قامت روسيا بقصف المدن الأوكرانية، وكان جيشها يتقدم على الأراضي الأوكرانية، كنت خائفة جدا، ذهبت مع أمي وقريبة لنا من مدينة خيرسون وقضينا 17 ليلة في محطة المترو، فالقضية ليست قضية حياة أو موت، لكنها قضية أمان أفضل وطمأنينة، كنت أسمع أصوات الانفجارات في الشارع، ولكن لا أفهم ماذا يحدث؟ ما هذا الصوت؟ هل هو صاروخ؟ هل هو قذيفة؟ الجيش الروسي كان يطلق صواريخ من الطائرة، أم أن هناك قاذفات صواريخ متعددة؟ لم أعرف الحرب، في أوكرانيا كانت بدأت سنة 2014، ولكن حتى هذه اللحظة كانت تحدث في مكان بعيد وليس تحت نوافذنا.

   بعد سنة تقريبا الأوكرانيون اليوم أصبحوا يميزون بين أنواع الصواريخ التي تطلق، وهل هي نتيجة قصف من الدرون أم غيرها، أصبح الجميع يعلم قواعد الاحتماء من القصف والأماكن التي يمكن لهم الاختباء بها في الشقة حتى يكونون في أمان وأن يخرجوا إلى الباركينغ ويحتمون في الطابق السفلي، صار الجميع يعرف جميع قواعد الأمان لكي ينقذ حياته، جميع الأولاد صاروا يعرفون هذه القواعد.

   في نهاية شهر فبراير 2022 لم نكن على علم بشىء، كان لدي شكوك لامتناهية هل كان الحق معي بالبقاء في مدينة كييف وعدم الذهاب إلى غربي البلاد لإيجاد الأمان؟ هل كان علي أن أضع أمي خارج البلاد عندما بدأت الحرب؟ الأولوية يجب أن تكون لأمان عائلتي وليس القيام بعملي؟ كنت أتساءل بلا هوادة، من الأهم بالنسبة لي العائلة أم واجبي كصحفية؟
  شهر مارس 2022 كان أسوأ شهر في حياتي، شهر الخوف والشك والمعاناة بسبب عدم عدالة هذه الحرب، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قرر أن يهدم بلدا أوروبيا مستقلا وأن يهدم شعبه ومدنه وقراه، مدينة “بوتشا” كانت المثل الذي أعطاه الجيش الروسي، بقيامه بجميع الأفعال المجرمة والمتوحشة ضد المدنيين، جرائم تعذيب واغتصاب، تحت أنظار العالم المرعوب وفاقد القوة.

   أنا أعمل كصحفية سياسية في أوكرانيا منذ 15 عاما، غطيت عدة حملات انتخابية وثورة 2014 في الميدان، كان لدي عتب كبير على الحكومات المتتالية وعلى الرؤساء الأوكرانيين، ولكني أشهد أيضا على الطريق الطويل الذي سلكه هذا البلد في السنوات الماضية، بالرغم من بطء الإصلاحات ونسبة الفساد العالية، تستطيع أوكرانيا أن تكون فخورة أن تفخر بالديمقراطية والانتخابات العادلة والمجتمع المدني القوي وبحرية التعبير والعمل التطوعي، بعكس روسيا، الرؤساء عندنا لا يستطيعون  أن  يبقوا في الحكم لمدة 20 سنة، يستطيع الناخبون الأوكرانيون أن ينجذبوا إلى رجال السياسة ولكنهم أيضا سرعان ما يخيب أملهم ويعرفون كيف يغيرون عند الانتخابات.

   بعد ثورة الميدان، فهمت في اي إتجاه تسير البلاد وبماذا تحلم أوكرانيا، فهي تريد أن تكون عضوا في الاتحاد الأوروبي، حتى لو كان ذلك يعني الانتظار عدة سنوات، ولا تريد أن تكون جزءا من الإمبراطورية الروسية مهما كان اسمها، وهذا ما لا يقبل به بوتين،  من الأسهل له أن يدمر جاره على الاعتراف بنجاحه حتى لو كان بطيئا.

   خيبة الأمل الكبيرة خلال السنة الماضية لم تأت من بوتين، ولكن من الشعب الروسي، فهو بأكثريته يساند أعمال بوتين حتى الأكثر هولا، فروسيا تجد من الصعب عليها أن تعترف أن أوكرانيا بلد مستقل وليس جزءا منها ولن يكون في المستقبل جزء أبدا من العالم الروسي، فهذه الحرب فتحت أعين الأوكرانيين على بلدهم وعلى أنفسهم. بعض المدن تحت القصف الروسي تعاني وتقاوم، مثل خاركييف وميكالوف ودنيبرو ومدن أخرى تستقبل النازحين مثل لفيف واوزهرود وبرديانسك وهناك مدن احتلت سنة 2022 ولم تتحرر بعد مثل ماريوبول وميليتبول.

   لقد تعلمنا كثيرا عن مدننا وقرانا التي دمر بعضها بشكل كامل، في بعض الأحيان تدمير المباني ليس أسوأ شيء يحدث، فمدينة ايزيوم في منطقة خاركيف كانت تحت الاحتلال الروسي لمدة ستة أشهر عند تحريرها، وجدنا مدفنا كبيرا في الغابة وفيه أكثر من 400 جثة لسكانها. لقد تحدثت مع سكان المدينة وفهمت أنه يلزمهم سنوات عديدة حتى تعود الحياة إلى ما يشبه الحياة الطبيعية فيها، فقد نخرت المدينة الخلافات الداخلية بين الذين غادروها وعادوا إليها بعد مغادرة الروس، والذين بقوا فيها ومازالوا على قيد الحياة، وبين الذين لم يتعاونوا مع المحتلين الروس وعانوا من التعذيب وأحيانا ماتوا، والذين قبلوا بالتعاون مثل بعض المعلمين الذين شرحوا لي أنه كان عليهم أن يطعموا عائلاتهم.

   في مدينة أيزيوم هناك بعض الجيران لا يتكلمون مع بعضهم، لأن هناك من تعاون مع الروس وآخرين رفضوا، لكن جميعهم سيعيشون في نفس المدينة، فكم من الوقت سيمضي قبل أن يتصالحوا، وكم من بينهم لا يستطيعون أن يسامحوا، فكلما طال احتلال مدينة كلما كانت النتائج صعبة ومؤلمة.

ما يشبه الرصاصة التي أطلقت على الطفولة  

   ولدتُ في مدينة خيرسون في جنوب أوكرانيا يجب أن أعترف أنني لم أحب هذه المدينة، كنت أراها غير متحضرة ومتخلفة، هذه الحرب غيرت هذا الانطباع، من الآن وصاعدا أنا فخورة جدا بسكان خيرسون الذين يقاوموا بقوة الاحتلال الذي بدأ في 1 مارس، البعض منهم خرج في الشوارع حاملا الأعلام الأوكرانية للاعتراض ضد المحتل. عندما قمع الروس بعنف هذه المظاهرات  نشأت حركة مقاومة خفية، وخلال تسعة أشهر لم تستطع روسيا أن تجد عددا من المتعاملين معها حتى تدير البلدية.

   في 11 نوفمبر وصل جندي أعرفه إلى مدينة خيرسون بعد خروج الروس وقارن الجو في المدينة بعشرة انتصارات في كأس العالم بالفوتبول سعادة وحماسا. وصلت إلى المدينة بأول قطار من مدينة كييف.

   بعد أسبوع من نهاية الاحتلال، كان مثيرا جدا تدوين الملاحظات حول التغييرات التي حدثت في تسعة أشهر الماضية،  من الخارج كانت خيرسون تشبه مدينة طفولتي، كانت هناك يافطات تقول إن روسيا موجودة هنا للأبد، ولكن فنان أوكراني كتب على حائط في المدينة روسيا لن تكون هناك أبدا.

   بقيت أسبوعا في مدينة خيرسون وكل يوم كانت الوضع يتدهور، كنت أتيت حتى أحتفل وغادرت مع الحرب، الجيش الروسي بدأ بقصف المدينة بشكل كبير وكان يبدو أن الروس يريدون أن ينتقموا من المدينة التي لم تقبل احتلالهم. الحرب غيرت نظرة الناس لبلدهم أو لمسقط رأسهم، عندما ترى مدرستك أو الجامعة حيث درست أو مستشفى الولادة حيث ولدت مدمرة تشعر أنك ميت، كأن رصاصة أطلقت باتجاه طفولتك، لو قيل لي في فبراير 2022 أنه بعد سنة تقريبا ستعقد قمة بين أوكرانيا والاتحاد الأوروبي في كييف، وأن جميع الحكام الأوروبيين لن يخافوا من المجيء إلى هذه المدينة لن أصدق.

   منذ سنة لم يأت أحد لزيارتنا، كانوا كلهم يهربون، حاليا توجد في كييف مطاعم ودور سينما مفتوحة وكذلك السفارات، حكام في العالم يتوافدون إلى كييف، الشركات الرسمية والخاصة وكذلك المواطنيين العاديين يتأقلمون مع الحرب،

   خلال فصل الشتاء مثلا قررت روسيا حرمان أوكرانيا من الكهرباء ومن المياه، وبسبب القصف كان هناك نقص، ولكن الناس تتأقلم، فنحن نرى موتيرات في الشوارع وبطاريات محمولة وكذلك شموع في الشقق السكنية، الخطة الشتوية الروسية فشلت، لأنه كان على الأوكرانيين أن يعيشوا مرة جديدة، ولكن لا نستطيع أن نتأقلم بشكل أبدي على الحرب، أنا لا أتمنى لأي بلد في العالم أن يعيش الظروف التي نعيشها.

   كل صباح، أبدأ نهاري بنشر حساب أيام الحرب، عدد أيام الحرب على “تويتر”، بدأت ذلك في 24 فبراير 22، والآن نحن باليوم 350، أعد الأيام وأثبتها في التاريخ حتى لو كانت هذه السنة بالنسبة لي ليست إلا يوما لا ينتهي هو 24 فبراير، ولكن أوكرانيا ستظل تواجه أيضا وأيضا ولن تستسلم لروسيا، ومن حسن الحظ أن البلاد الغربية فهمت أخيرا أن الحرب ستمتد أكثر وأبعد، إذا لم تقدم لأوكرانيا مساعدات اليوم.

   أتمنى لو كنت متفائلة ولكنني واقعية، هذه السنة تعلمنا أن لا ننتظر طويلا حتى نتكلم مع أصدقائنا وأحبائنا، لأنه غدا ممكن أن نختفي، أي واحد منا، ولا يهم إذا كان الأهل والأصدقاء يعيشون في أوكرانيا أو ذهبوا إلى الخارج أو حتى على الجبهة الأهم هو الاتصال معهم، لأن عبر ذلك الحياة تستمر بما أن عدد الموتى الذين يحيطون بنا يتصاعد.

   الحرب مستمرة، وذلك يعني أن هذه السنة أيضا،هناك عدد من الأشخاص الرائعين سيفقدون حياتهم ولا شك هناك، سيكون هناك من أعرفه من بينهم، حصل ذلك عدة مرات، في كل أوكرانيا هناك دراما شخصية، هناك واحد من محيطك أخذوه، ذلك الصديق الجميل ومليء بالصحة أقبل الحرب أصبح الآن مليء بالجروح، ولا ننسى الحالات النفسية، هو مجتمع مصدوم، عائلات فرقت في عدة بلدان، انهيار عاطفي، اشعر بالذنب في عدم المساعدة بشكل كافي أو بعدم العمل بشكل كاف.

   في شهر ديسمبر ذهبت إلى دافوس في سويسرا بسبب عملي، في إحدى المقاهي حيث كانت هناك موسيقى عالية، اقترب مني شاب أسترالي من المنتدى الاقتصادي العالمي، وكان قد لاحظ أنني أرتدي قميصا مطرزا بالطريقة التقليدية الأوكرانية، سألني إذا كانت هذه الموسيقى الفرحة والجو الاحتفالي يجعلنني أشعر بعدم الرضا وبعدم الراحة، أجبت بالنفي قائلة أبدا  هذا بالضبط ما يسعى إليه الأوكرانيون، حياة طبيعية في هذه الأوقات فنحن أيضا نحلم بحياة هادئة حماسية مليئة بالمشاريع، تمزج بين التكنولوجيا والابتكارات، لأن ما لا نريده هو أن نكون مجبرين على الطبخ في الخارج على نار الموقدة.  

   الشاب الأسترالي أجابني بأنه ليست عنده كلمات أخرى، سوى أن يؤكد لي بأن العالم بأكمله يساند أوكرانيا، وهذا صحيح أننا نشعر بهذا الدعم عندما نسافر خارج البلاد، ولكن الحقيقة هي أنني أشعر بأني أحسن حالا في أوكرانيا من أن أكون بأمان في الخارج، لأنه خلال هذه السنة التي مضت شاهدت كثيرا من الدم والدمار، ولكني كنت قد شاهدت أيضا أمثلة كثيرة من الشجاعة والتضامن والمثابرة، شعرت بكثير من اللطف، من الحرارة الإنسانية والحب من قبل الأقربين والأبعدين منهم، هي في الوقت نفسه تجربة وحظ وفخر هذه الحياة في أوكرانيا في هذا الوقت، لرواية ماذا يحدث هناك.

نحن لا نعلم ماذا ينتظرنا غدا..  ولكن ما هو واضح لنا أن روسيا لن تبقى في هذا البلد، في هذا اليوم 361 من الحرب، أنا أعلم ذلك.               

Visited 1 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

السؤال الآن

منصة إلكترونية مستقلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *