أفظع أشكال العبودية.. هي العبودية الطوعية
عبد الرحمان الغندور
كتب صديقي مصطفى ملكو تدوينة معبرة وددت التعليق عليها بنص توضيحي. تقول التدوينة :تبّاً للعبيد الطوعيّين.
ـ الوطن ليس حكراً على أحد ولا منحة من الحاكم ـ الفهلوة والتحايل ليسا بذكاء ـ التزلّف والإنبطاح ليس بكيّاسة ولا براغماتية ـ التنديد بالفساد وبالفاسدين لا ينمّ عن نزوع انقلابي بل تمليه المواطنة الصّادقة ـ أذلّ العبوديات هي العبودية الطوعية لأنّها هيّ من تخلق المستبد.
ويقول العبد الضعيف إلى الله:
في قلب الوجود الإنساني، تتدافع إرادة الحياة نحو الحرية كالنهر الذي لا يُحجب عن مصبه، وهنا تقف مفارقة مرعبة تثير الحيرة والقلق: كيف يمكن للإنسان، ذلك الكائن الذي يُولد حاملًا في أعماقه شعلة التوق إلى التحرر، أن يصبح سجانًا لنفسه بأن يرفع باختياره وبصورة طوعية راية الاستعباد؟ هذه هي اللعبة المحيّرة التي تشير بأصبع الاتهام لا إلى الطاغية الواقف على منصة الحكم والتحكم، بل إلى من يركعون له طوعًا.
إن العبودية الطوعية Esclavage volontaire ليست مجرد خضوع خارجي لقوة قاهرة، بل هي استسلام داخلي للروح، موت للإرادة وانزياح عن مسؤولية التحرر كغاية وجودية. إنها اللحظة التي يستبدل فيها الإنسان حريته بوهم الأمان، ويستبدل عبء الاختيار براحة الانقياد. هنا، في هذا المستوى النفسي العميق، لا يحتاج المستبد إلى جنوده وحراسه فقط، بل يحتاج إلى ذلك التواطؤ الخفي الذي يمنحه الشرعية في العقول قبل القصور. إنه يستمد قوته الحقيقية ليس من خوف الناس منه، بل من خوفهم على أنفسهم، من توقهم إلى من يحمل عنهم ثقل المساءلة ويوهمهم بأنه سيحميهم من فوضى الحرية.
إن الكائن المسمى “المستبد” يولد من رحم العبودية الطوعية؟ إنه يولد عندما يتنازل الناس عن سيادتهم الأخلاقية والفكرية. عندما يتحول الخمول والانشغال باللقمة اليومية إلى فلسفة حياة، وعندما يُعتقد أن السياسة شأنٌ بعيدٌ عن دائرة الاهتمام. في هذه التربة الخصبة من اللامبالاة والانكفاء على الذات، تنبت بذرة الاستبداد. المستبد هنا ليس سوى مرآة تعكس حالة الناس، فهو ابن شرعي لرغبتهم في التخلي عن المسؤولية. إنه يقدم نفسه كحل وهمي لمعضلة الحرية، فيأخذ بيد من يخافون السير بمفردهم، ويعدهم بقيادتهم إلى بر الأمان، بينما هو في الحقيقة يقودهم إلى حتفهم كرعايا لا مواطنين.
ولعل أخطر أشكال هذه العبودية هي تلك التي تتخفى تحت عباءة الرضا والتبعية المطلقة. حين يتحول الخنوع إلى فضيلة، والطاعة إلى قيمة دينية، والتسليم إلى علامة على الإيمان. في هذه الحالة، لا يعود المستبد مجرد حاكم، بل يصبح أبًا روحيًا، وقائدًا مقدسًا، ومركزًا للكون. العبد هنا لا يحتاج إلى قيود، فهو يضعها بيده حول عقله وقلبه ووعيه. يرى في حريته تهديدًا للنسق العام، وفي استقلاليته خروجًا على الجماعة. وهكذا، يصبح المستبد نتاجًا طبيعيًا لمعادلة خاسرة: شعب يرفض أن يكون حرًا، وأفراد يخشون تحمل تبعات إنسانيتهم وحريتهم.
الحرية، في كل الحالات ليست هبة تمنح، بل هي خيار وجودي يومي. إنها الممارسة الدائمة للمسؤولية، والشجاعة في مواجهة المجهول. إنها الجهد المتواصل لبناء الذات والمجتمع دون وصاية. فعندما يتهرب الإنسان من هذا العبء، ويفضل الراحة الوهمية للتبعية والخضوع على متاعب التحرر، فإنه لا يخون فقط إنسانيته وحريته، بل يصبح الشريك الخفي في صنع الطاغية المستبد.
المستبد، إذن، ليس سوى وهم تحول إلى حقيقة بفضل أولئك الذين آثروا العبودية الطوعية على الحرية. وهو وهم لن يزول إلا عندما ندرك أن القيود الحقيقية ليست فقط في القضبان الموضوعية التي حولنا، بل في الأغلال التي وضعناها حول إرادتنا بأنفسنا.
