ألبانيا: وجهة سياحية تُستكشف بالقلب.. لا بالكاميرات… (2-2)
علي بنساعود
مدينة تستحق أن تُستكشف على مهل…
جيروكاستر واحدة أخرى من أقدم مدن ألبانيا، مدينة تُوصف بأنها “لؤلؤة” نظرًا لهندستها المعمارية الفريدة ومناظرها الحضرية المحفوظة جيدًا، وهي مبنية على تل يطل على وادٍ خصب بين الجبال… معلقة في الزمن! بسحر عالم قديم يخطف الأنفاس… لذلك، فهي وجهة فريدة تتعايش فيها القلعة والجبال والبيوت الحجرية ذات الأسقف الأردوازية، والأزقة الزاهية المرصوفة بالحصى المتعرجة بين منازل يتردد صدى خطوات الأقدام على جدرانها العتيقة. مدينة حريصة على أن تُعيد الزوار إلى الماضي، فيعجبون بهندستها المعمارية العثمانية المحفوظة، ويشيدون بأصالتها وسكينتها، ومناظرها البانورامية الخلابة وبأجوائها الهادئة، ومطاعمها التي تُلبي احتياجات عشاق الطعام ومتذوقيه.
مدينة تستحق أن تُستكشف على مهل، ولو لمدة قصيرة، مدينة تجمع بين الثقافة والتاريخ وأسلوب الحياة الهادئ…
وتنقسم جيروكاستر إلى قسمين: جزء سفلي، وهو جديد وسكني، وجزء قديم حيث يمكننا التسكع في شوارع شديدة الانحدار، مرصوفة بالحصى، بين المنازل القديمة ذات الأسقف الحجرية والأطلال المهجورة.
في هذا الجزء، يبدو الأمر كما لو أن الزمن قد توقف هنا، حيث تصطف المنازل التقليدية بأناقة، لترتفع عدة طوابق، بشرفات خشبية منحوتة تطل على الشوارع والأزقة الضيقة.
في هذا الجزء الصامد من المدينة كان يقيم كبار المسؤولين العثمانيين. وفيه، لا توجد واجهات متاجر براقة أو مطاعم عصرية، فقط الصمت يتخلله صوت المؤذن البعيد أو ضحك أطفال يلعبون على الحجارة المرصوفة، أمام مداخل قديمة بعضها منحوت بالأرابيسك… ومعلوم أن “مسجد البازار” هو المسجد القديم الوحيد في جيروكاستر، الذي نجا من حملة الإلحاد عام 1967، وقد بُني عام 1757، وكان مركز المنطقة التجارية والدينية في المدينة، خلال العصر العثماني، تحتفظ قاعة الصلاة فيه ببعض لوحاته الجدارية الأصلية.
والناس هنا، ما زالوا يعيشون وفق الأعراف والتقاليد، حيث النساء ينشرن الغسيل على الشرفات المُزينة بالأزهار، والرجال يلعبون الدومينو تحت الأشجار، والأطفال يركضون بين الحجارة المصقولة منذ قرون.
في هذا الجزء، تلتقي الثقافات اليونانية والرومانية والبيزنطية والتركية والألبانية، ولعل هذا ما جعلها واحدة من أفضل المدن الألبانية التي يحج إليها السياح، ولو ليوم واحد، من مختلف البقاع، ولذلك، اختارتها اليونيسكو لتكون موقعًا للتراث العالمي.
يذكر أن هذه المدينة هي مسقط رأس الديكتاتور أنور خوجة والروائي الشهير اسماعيل كداري…
قلعة جيروكاستر: لمحةً ساحرة عن الماضي العثماني
لعل من أهم ما يجذب السياح في جيروكاستر، هناك القلعة، وهي الأكبر في ألبانيا، بارتفاعها الشاهق تُهيمن على المدينة، تتيح إطلالة بانورامية على الوادي الشاسع! وتُقدم لمحةً ساحرة عن ماضيها. بُنيت في العصر العثماني، واستُخدمت أيضًا كسجن في ظل النظام الشيوعي، وهي تضم متحفا للأسلحة…
من القلعة، تبدو الجدران البيضاء للمدينة وأسقفها الرمادية الأردوازية كأجزاء من التل، تتخللها الأشجار. وهي مكان مثالي للاستمتاع بغروب الشمس!
والأجمل في هذه المدينة هو قلة السياح، بسبب قلة الفنادق وبيوت الضيافة العائلية والمقاهي الهادئة، حيث ما تزال القهوة التركية تُقدّم في أكواب نحاسية صغيرةǃ
فلورة: غروب مذهل
فلورة ثالث أكبر مدن ألبانيا من حيث عدد السكان، تضم ثاني أكبر ميناء في البلاد، وهي مدينة ساحلية نابضة بالحياة، وبوابةً مثاليةً لمغامرات الهواء الطلق. يحيط بها البحر والجبال والحدائق الوطنية، إذ تقع عند ملتقى البحر الأدرياتيكي والبحر الأيوني… وصلناها، زوالا، فذهبنا مباشرة لتسلم مفاتيح شقة أحد الأقرباء، وهي من الشقق التي تظل فارغة طوال العام، باستثناء العطل، وجدنا شخصا في انتظارنا، دعانا لتناول فنجان قهوة، سلمنا المفاتيح، وانصرف…
دخلنا الشقة، لنرتاح بعض الوقت، كانت رائعة تطل على البحر، في عمارة يخيم عليها الهدوء والسكينة، ربما لأن أغلب السكان يتخذون من شققهم هذه سكنا ثانويا، يذهبون إليه في العطل فقطǃ
بعد استراحة قصيرة، خرجنا نتمشى بمركز المدينة الحديث، وكان عبارة عن شارع طويل فسيح مُحاط بأشجار النخيل، به سياح يتمشون أو يقتعدون كراسي الحانات والمطاعم. وعكس ما يكون عليه الأمر في موسم الذروة، وجدنا الممشى البحري والشاطئ غير مزدحمين، وقليلا من الشباب يستحمون، ما أتاح لنا الفرصة للتنزه بكل أريحية…
دخلنا أحد المطاعم للغذاء، شخصيا، تناولت سلطة وطبق “شيفابي” لذيذ وكان المستخدمون، كما عموم الناس هنا، ودودين للغاية…
بعدها، قمنا نتسكع على الكورنيش، كان الشاطئ رمليا ممتدا، والممشى البحري طويلا، واسعا، ممتعا للمشاة والمتنزهين، ولم يكونوا كثيرين، ما مكننا من الاستمتاع بمنظر غروب مذهل. كما كانت الأجواء هادئة، وزبناء المطاعم والحانات قليلين…
للإشارة، فإن موقع المدينة الفريد عند ملتقى بحرين يُضفي على السماء والبحر ألوانًا لا تُنسى في المساء، أجواء مثالية للمصورين والعشاق على حد سواء.
عرجنا على بعض الشوارع والأزقة نستكشف الأحياء والأسواق والحياة اليومية للناس.
وعموما، يتميز جزء كبير من عمارة فلورة بطابع نفعي نتيجةً للتطور السريع الذي شهدته في فترة ما بعد الشيوعية. وبينما تشهد المباني الجديدة تحسنًا ملحوظًا، إلا أن معظم المشهد الحضري يتكون من مبانٍ سكنية وتجارية باهتة تفتقر إلى جمال وسحر المدن الأوروبية القديمة.
كانينا: قلعة المناظر الخلابة
إثر ذلك، توجهنا إلى قلعة كانينا بضواحي المدينة، وهي واحدة من أزيد من ثلاثين قلعة منتشرة في أرجاء ألبانيا وغالبيتها بنيت على قمم التلال المرتفعة والجبال… ولأن القلعة كانت مغلقة بسبب الترميم، فقد اكتفينا بالاستمتاع بما يوفره محيطها من مناظر بانورامية خلابة على المنطقة… كما استمتعنا بمنظر الغروب. بعدها، ذهبنا لتناول العشاء في مطعم في قرية صغيرة عند سفح القلعة. كانت الوجبة التقليدية شهية، والخدمة جيدة!
نزهة سريعة في “المدينة القديمة”ǃ
ونحن عائدون، بعد سهرة جميلة، عرَّجنا على “المدينة القديمة”ǃ وكانت صغيرة المساحة، بأزقة ضيقة، ومقاه ومطاعم ومتاجر قليلة… وقد عزا بعض من تحدثنا إليهم صغرها إلى جشع المستثمرين العقاريين الذين استغلوا فوضى الانتقال من المجتمع الشيوعي إلى المجتمع الليبرالي فانقضوا على المباني القديمة، ليهدموها ويقيموا مكانها عمارات وناطحات سحاب، في تخطيط حضري فوضوي غريب، ولم يتبق سوى شارع يتيم للمُشاة، تصطف على جانبيه منازل مطلية بألوان زاهية، أطلق عليه اسم “المدينة القديمة”، وتقدم هذه المنازل لمحة عن التراث العثماني والألباني القديم، إلا أن هذا الجزء من المدينة يفتقر إلى سحر وحجم المدن القديمة الأكثر شهرة سواء في أوربا أو خارجها… وعلى العموم، كانت النزهة سريعة لكنها ممتعة… رغم أننا، ونحن عائدون صادفنا قطعانا من الكلاب والقطط الضالة، المزعجة.
“في الأمر إِنَّǃ”
ومما أثار انتباهنا أيضا أن هذا البلد يتوفر على أسطول سيارات حديثة فارهة: بي إم دبليو، أودي، مرسيدس… يجعلك تظن أنك في بلد متطور، غني، مهتم بالتكنولوجيا والابتكار في مجال صناعة السيارات… لكن، حين نعرف أننا في أفقر بلد في أوربا، فسنقول: “إن في الأمر إن”، وحين تحرينا في الموضوع، أرجع بعض العارفين الأمر إلى هيمنة الاقتصاد غير المهيكل على الاقتصاد الألباني، خصوصا أن نسبته تناهز ثلث هذا الاقتصاد، ناهيك عن التهريب والاتجار في الممنوعاتǃ
جريمة في بيت العدالةǃ
زوال اليوم الثاني، بعد وصولنا إلى تيرانا، وبينما كنا نتجول، وسط المدينة، سمعنا أصوات العديد من سيارات الإسعاف والأمن… لم نول الأمر اهتماما، فواصلنا استكشاف المدينة، وعند عودتنا إلى الشقة، فتحنا إحدى قنوات التلفاز المحلي، ففوجئنا بخبر فهمنا منه أن أصوات الإسعاف والأمن التي سمعناها وسط المدينة، كان سببها جريمة قتل نفذها شخص داخل محكمة الاستئناف، راح ضحيتها قاض وأصيب شخصان بجروح…
وحسب السلطات، فإن المشتبه فيه شاب عمره حوالي 30 سنة، كان طرفًا في قضية كانت تُنظر أمام المحكمة… وأرجع سبب قتله للقاضي وإصابة خصومه هو أنه “خسر قضية ملكية عقار رغم أنه قدم كل الوثائق الصحيحة التي تتثبت أنه مالكه“.
أما الضحايا فهم القاضي ورجل وابنه كانا الطرف الثاني في القضية… وقد تم نقلهم إلى المستشفى وكانت حالتهم مستقرة… كما ألقي القبض على المشتبه فيه فورًا وعلى عمه وحارس الأمن بالمحكمة…
ورغم أنه لا توجد دلائل رسمية على أن القاضي قُتل بسبب تورطه في الفساد، إلا أن الجريمة فُسّرت على نطاق واسع كأحد أعراض فساد المنظومة القضائية وانهيار الثقة بها في ألبانيا…
هشاشة اجتماعية…
ظواهرة أخرى لفتت انتباهنا ونحن نجوب مدن هذا البلد ألا وهي ظاهرة انتشار المتشردين والمرضى النفسيين وذوي الإعاقات الذهنية، والمتسولين الذين، غالبا، ما كانوا على شكل عائلات تتسول في الشوارع أو عند إشارات المرور والأسواق الكبرى والأحياء التاريخية والمناطق حيث يتدفق السياح… وهذه الظواهر جميعها ترتبط بالفقر والإعاقات النفسية أو البدنية، علاوة على الهشاشة الاجتماعية، وضعف البنية الاجتماعية والصحية، وقلة المؤسسات الداعمة.
فندق أو كلينيك؟
ونحن نغادر المحطة الطرقية لتيرانا عائدين إليها من فلورة، كان أصحاب سيارات الأجرة يسألوننا:
– فندق؟ كلينيك؟ فندق؟ كلينيك؟
شخصيا لم أفهم المقصود بذلك، وحين سألت قيل لي:
– واضح أنك ومن معك سياح أجانب، لذلك، فإن أصحاب سيارات الأجرة يسألونكم عن وجهتكم أهي فندق أم كلينيك؟
فقلت:
– الفندق مفهوم، لكن، لماذا الكلينيك؟
قيل لنا إن نسبة كبيرة من السياح الأجانب يقصدون ألبانيا من أجل طب التجميل، وفعلا، حين تأملت المارة في الشوارع والأسواق، لاحظت أن نسبة كبيرة من النساء يتجولن بضمادات على أنوفهن، وهذا ما أكد لنا صحة ما سمعناه في الموضوع، وبعد البحث، تبين لنا أن طب التجميل في هذا البلد، يشكل موردا سياحيا هاما، منذ الانفتاح على السياحة الطبية وجذب الأجانب الباحثين عن أسعار أقل من أوروبا الغربية، خصوصا من إيطاليا وألمانيا والبلقان. لذلك، انتشرت، في السنوات الأخيرة، عيادات التجميل في كبريات المدن الألبانية (تيرانا، دوريس، ڤلورة، وساراندي…) والعمليات الأكثر شيوعا فيها هي: تجميل الوجه، زرع الشعر، شفط الدهون، تكبير/تصغير الأثداء، وحقن البوتوكس… حيث أصبحت النساء، وبفعل التأثير القوي للغرب على معايير الجمال، يركزن على نحت الوجه والجسم، والبشرة، والحاجبين… بينما يزداد اهتمام الذكور بالشعر والعضلات…
وقود، غسيل وأموال…
من الأمور التي لفتت انتباهنا في هذا البلد الجميل، ظاهرة انتشار محطات البنزين ومغاسل السيارات بشكل عشوائي على الطرق العامة وداخل الأحياء السكنيةǃ والسبب، حسب بعض من تحدثنا إليهم، هو أن النمو الاقتصادي لهذا البلد الجميل، الذي تناهز مساحته 29.000 كلم² تقريبا، ويبلغ عدد سكانه 2,77 مليون نسمة، يجعل منه موقعه طريقا رئيسيا يربط بين أوربا الغربية والشرقية، كما أن السياحة تشهد زيادة في عدد الزوار، خاصة خلال فصل الصيف، ما يزيد من الطلب على الوقود وخدمات السيارات…
وأضاف محدثنا أن البلد يفتقر إلى الصناعات الثقيلة والمشاريع الكبرى التي توفّر فرص الشغل، لذلك، يتجه كثير من الناس إلى إنشاء مشاريع صغيرة، سريعة العائد، مثل: محطات الوقود، ومغاسل السيارات، ومحلات إصلاحها، والمقاهي… خصوصا أنها مشاريع لا تحتاج إلى مستوى تعليمي عالٍ أو رأس مال ضخم…
ولم ينس آخرون أن يضيفوا أنه، منذ التسعينات، ومع فتح الحدود، تدفقت على ألبانيا مئات الآلاف من السيارات المستعملة من ألمانيا وإيطاليا واليونان، فأصبح البلد واحدا من أكثر دول البلقان امتلاكًا للسيارات مقارنة بعدد السكان.
وأوضحت تقارير حقوقية ومدنية أن جزءًا من هذه المحطات والمغاسل يُستخدم أحيانًا في “غسيل الأموال” وأنها قد تكون واجهة قانونية لأموال مشبوهة، ما يفسّر كثرتها رغم قلة الزبائن أحيانًا…
تدخين وكحول: تحرر أم تنفيس؟
ظاهرة أخرى أثارت انتباهنا، ألا وهي كثرة التدخين وتناول الكحول في الأماكن العمومية، رغم أن القانون يمنع ذلك، بل إننا شاهدنا عديدا من التجار يتناولون الكحول في متاجرهم، ويشربون الراكي… وعزا بعض الناس الأمر إلى مخلفات المجتمع الشيوعي الذي كان سائدا، إذ أنه، وبعد سقوط نظام أنور خوجة سنة 1991، عاش الألبانيون فراغًا قيميًا واضطرابًا اجتماعيًا كبيرًا. فبعد عقود من القمع والانغلاق، أصبح شرب الكحول والتدخين رمزين لـ«الحرية الفردية» والتحرر من القيود السابقة، خصوصًا بين الرجال.
بينما رأى فيها البعض نوعا من التنفيس عن التوتر أو الهروب المؤقت من الواقع في ظل ارتفاع معدل البطالة، وتدني الأجور، وانسداد الآفاق.
العَلَمُ: نجاة من السيطرة الأجنبية
أمر آخر استرعى انتباهنا في هذا البلد، ألا وهو وجود العلم الألباني في كل مكان، حيث رأيناه مرسوما على الجدران ومرفوعا في الأسواق والسيارات والمقاهي، وعلى البنايات… ويرى بعضهم أن هذا الأمر يعبر عن هوية وطنية قوية تشكّلت بعد قرونٍ من القهر والانغلاق والبحث عن الذات… وأنه رمز للنجاة من قرونٍ من سيطرة أجنبية تعاقب، خلالها، على احتلال هذا البلد، العثمانيون والإيطاليون واليونانيون والصربيون… بعدها أُدْخِل في عزلة قاسية فرضها النظام الشيوعي. وهذا الاحتلال، جعل الألبانيين يتشبّثون برموز وحدتهم وهويتهم، وفي مقدمتها العلم، لأنه الشيء الوحيد الذي لم يُنتزع منهم، وهو عبارة عن خلفية حمراء يحتلها نسر أسود برأسين، يشكل للألبانيين وسيلة لغرس الوطنية في الوعي العام، لذلك، فإن نحو ثلث الألبان الذين يعيشون خارج البلاد، يحملون العلم في المهرجانات والمناسبات وكأنه “بيتهم الرمزي” وجسر بين الداخل والشتات…
⁎⁎⁎
بصراحة أعجبنا بألبانيا، وجدنا فيها الجو الهادئ، والناس الكرماء الودودين، والطبيعة الخلابة، والتراث الغني الذي يستحق الاستكشاف، ونحتفظ بذكريات جميلة عنها…
