أوراق من الذاكرة الموشومة: المزايدة على الدم المسفوح أو الحاجة إلى شهيد

عبد الرحيم التوراني
كانت أجواء الحملة الانتخابية البلدية، (التي أجريت يوم الجمعة 10 يونيو 1983) مشحونة، لكنها لم تكن تشبه أبداً المشهد الذي استقبلني في ذلك الصباح. كعادتي، ركبت سيارة الجريدة التي كان يقودها سائق مرح له بعض ملامح الممثل المصري رشدي أباظة، هو السائق الموظف بالجريدة، وكان لقبه الحاج لحكيم، كان يمر على بعضنا، ليأخذنا من قرب منازلنا ويوصلنا إلى مكاتب الجريدة القريبة من مبنى المجازر البلدية، تلك المنطقة التي تخفي وراءها اسم معتقل درب مولاي الشريف المرعب.
ما أن ركبت في تلك الساعة المبكرة من الصباح المشمس، وسلّمت على من في السيارة، حتى استقبلني صاحب الوجه المعصور المملوء بعلامات الهمّ. كانت سيجارة مارلبورو حمراء تتدلى من بين شفتيه الجافتين، وكأنها قطعة من جمر. لم يترك لي فرصة لاستكمال إلقاء تحية “صباح الخير”، بل فاجأني بصوته المبحوح، وبتغضن وجهه الكالح الذي يشي بالاحتراق الداخلي، كان مرآةً لفلسفته التي آمن بها طويلاً.
سحب دخان سيجارته إلى رئتيه المحترقتين، وكأنما يستنشق اليأس. كان هذا “المناضل” يعتقد أن النضال الحقيقي هو العبوس، وأن الجدية لا تُقاس إلا بالمبالغة في التجهم وعدم الضحك، وكأن الفرح خيانة للطبقة الكادحة.
لقد كان هذا الإيمان القاسي بالعبوس كقيمة، تمهيداً لتحوله المأساوي. ففي النهاية، لم يثبت هذا الجد الكاذب أمام اختبار الضمير، ليتحول هذا “المناضل العابس” إلى عميل مخابرات مفضوح ومكشوف. تكشف “الأحداث” عن هذه النهاية، أن العبوس المبالغ فيه لم يكن سوى قناع هش يخفي خلفه استعداداً للتسوية والخيانة. إن الإفراط في الجدية يمكن أن يكون، في حقيقة الأمر، أسهل الطرق للعبور إلى الجهة الأخرى.
نطق العابس:
– لقد اغتالوا أحد رفاقنا من المناضلين في بلدة “الكارة” بضواحي الدار البيضاء…!
يا له من خبر مؤلم أتلقاه كصفعة قوية على الصبح…
لم يكن الأمر مجرد وفاة؛ كانت كلمة “اغتالوا” تحمل كل ثقل الجريمة السياسية.. كان اغتيالاً في خضم حملة انتخابية يفترض أن تكون مساحة للحوار..
في تلك اللحظة، استرجعت ذاكرتي الشريط الدامي لقمع النظام وجرائمه الدموية. تذكرت قمع الريف في 58، ودماء الدار البيضاء في 65، وقتلى انتفاضة جوان 81، والأحكام بالإعدام في السبعينيات…
بدا وكأن النظام، في خضم مسرحية الديمقراطية، كان بحاجة إلى “شهيد” جديد ليُذكّر الجميع بحقيقة القوة التي تقف وراء صناديق الاقتراع…
كانت الرسالة واضحة: حتى في أوج التنافس السياسي، الدم هو العملة الرائجة لضمان استمرار السيطرة. هذا الصباح لم يحمل رائحة القهوة أو الحبر الجديد، بل حمل رائحة الغدر وأدخنة الاغتيال.
***
في مكاتب الجريدة قرب “الباطوار”، لم يكن الصمت مهيمناً بل حزن شديد مشوب بالتوتر والقلق. كان الاغتيال في “الكارة” قد ألقى بظلاله على الحملة الانتخابية، مُذكّراً الصحفيين بأن حبرهم قد يُكلّف دماً… وبينما كنا نحاول استيعاب فداحة الخبر، تلقينا خطاب القطب الصلب للحزب، عبد الرحمان اليوسفي، العائد قبل عامين من منفاه السحيق…
لم يكن الخطاب مجرد تعزية؛ لقد كان مرثية قوية ومباشرة. كان اليوسفي، الذي حضر تشييع جنازة الرفيق المغتال، يتحدث بمرارة المناضل الذي يعرف ثمن التحدي. وصف الرفيق بأنه “مناضل صلب أزعج النظام والخصوم”، مؤكداً أن تصفيته كانت عملاً مقصوداً ووقحاً يهدف إلى ترهيب الجميع. لقد حوّل اليوسفي الجريمة الفردية إلى قضية سياسية كبرى.
بناءً على تعليمات رئيس التحرير المرحوم مصطفى القرشاوي، تم نشر رثاء اليوسفي على الصفحة الأولى من جريدة الحزب، وتصدرت التقرير صورة للمناضل القتيل.
بالنسبة لي كانت تلك الصورة لا تُنسى:
كانت صورة قديمة من شباب القتيل، تظهر فيها براءة البدايات وقوة العزيمة.
بدا فيها بشعر أسود كثيف وعينين تنظران في الفراغ، يصعب تفسير ما يمكن أن تراه لحظة التقاط الصورة، هل هي رؤية الحلم، أم استشراف فجيعة النهاية…؟
لعلها كانت في الأصل صورة هوية لإنجاز بطاقة التعريف، تلك البطاقة التي كان يُطلق عليها الساخرون “كارنيه البصلانة”، لأن لونها كان رمادياً مثل لون الإسمنت، لون باهت لا يعكس حيوية مواطن، بل رتابة بيروقراطية قاسية.
نشر الصورة كان عملاً إبداعياً وسياسياً بحد ذاته. لقد كان إعلاناً بأن “كارنيه البصلانة”، الذي يمثل أقصى درجات الإذعان البيروقراطي، قد تحوّل إلى “وثيقة شهادة” للرفيق الذي رفض أن يعيش في اللون الرمادي. كانت مرثاة اليوسفي ووجه الرفيق الشاب تتحدان لإدانة النظام وتأبين جيل لم يعرف سوى النضال.
***
وسط أجواء الحزن والتوتر التي خلّفها خطاب عبد الرحمان اليوسفي المؤثر، جاء التساؤل الحاسم من الرفاق:
– هل سيستمر الحزب في مواصلة الحملة الانتخابية وتكريس انخراطه في هذا المسلسل المسمى بـ”الديمقراطي” كـ”خيار استراتيجي”؟ أم سيجرؤ الحزب على اتخاذ قرار مقاطعة الانتخابات احتجاجاً على جريمة الاغتيال الشنيعة؟
هذا التساؤل مثَّل نقطة تحول مصيرية، هل نؤمن بمسرحية الصناديق أم نعود إلى ساحة النضال المباشر؟
وكان انتظار موقف الكاتب الأول للحزب الأخ عبد الرحيم بوعبيد.
***
لم يمر وقت طويل حتى كشفت الحقيقة المريرة التي أعادت ترتيب المشهد بأكمله.
الحقيقة التي وصلت إلينا كانت صادمة ومؤسفة:
القتيل في “الكارة” لم يكن من مناضلي الحزب، ولا حتى من المتعاطفين مع مبادئه. لقد كان شخصاً شبه مشرّد يبحث عن مأوى وملاذ. وقد وجد هذا المأوى في محطة بنزين تعود لمرشح اتحادي في المنطقة، أو لأحد أقاربه…
أصبح بوعزة الطالوني (وهذا اسمه) يبيت في المحطة، ومن الطبيعي أنه انخرط في تفريق المناشير الدعائية للمرشح الاتحادي، كـ”خدمة” مقابل الإيواء والأمان المؤقت.
لكن المأساة لم تتوقف هنا. فقد كشفت التحقيقات الداخلية أن مقتله جاء في خضم عراك لا صلة له بالسياسة ولا بالانتخابات. لقد كان صراعاً عادياً، ربما على شيء تافه، تحوّل إلى عنف قاتل.
كانت هذه الحقيقة قاسية لعدة أسباب، منها استغلال الدم: عندما تحوّل موت رجل مسكين، يبحث عن الأمان، إلى “شهيد” يستخدمه الحزب لتأجيج الحملة الانتخابية وللتعبير عن مظلوميته.
لقد استُغلّت صورته الباهتة، من “كارنيه البصلانة”، لخدمة خطاب سياسي، في حين أن حياته كلها كانت تفتقد الكرامة التي ندّعي النضال من أجلها.
وضع هذا الكشف خطاب عبد الرحمان اليوسفي، المؤثر والقوي، في موقف محرج. فرغم صدق اليوسفي في إدانة القمع، إلا أن الوقائع أثبتت أن الحزب بنى مرثاته على أساس خاطئ.
في النهاية، أدى هذا الكشف إلى إخماد الحماس لدى الراغبين في الانسحاب. فقد قرر الحزب مواصلة الحملة الانتخابية، ولكن الوهج الذي خلقه اغتيال “الشهيد” المزيف قد انطفأ.
كانت هذه الحادثة درساً قاسياً حول الفرق بين الحقيقة والتوظيف السياسي للضحايا.
***
منذ ذلك اليوم، دُفِنَ ملف قتيل “الكارة”، الذي عُرف باسم “بوعزة الطالوني”. لم يعد يُذكر على الإطلاق في أدبيات الحزب. وبالعودة إلى أرشيف جريدة الحزب، سيطالع المتصفح مرثية عبد الرحمان اليوسفي وصورة صاحب “كارنيه البصلانة”…
لو كنا في عصر الإنترنت، لكان أول ما سيسارع إليه مسؤولو الحزب هو حذف الموضوع كاملاً من الأرشيف الرقمي، في محاولة لمحو ذلك الخطأ السياسي المحرج. لقد أصبح بوعزة الطالوني مجرد شبح خطأ يفضل الجميع نسيانه.
***
لكن هذه لم تكن المرة الوحيدة التي يلتقي فيها النضال بالواقع المأساوي والملتبس. هذا يذكرني بقصة سابقة، بقضية “شهيد” آخر، لا أذكر اسمه كاملاً، ربما كان عبد الله التنوتي، من مدينة فاس.
كان التنوتي عضواً منتميا إلى الحزب وتعرض للاغتيال، مما جعل القضية تبدو وكأنها امتداد طبيعي لقمع النظام.
سافر زعيم الحزب عبد الرحيم بوعبيد بنفسه إلى فاس. والتقطت له صورة مؤثرة وسط أطفال المناضل القتيل.
وتم إنجاز ملصق بالأسود والأبيض لهذه الصورة، صممه الفنان الغرافيكي والخطاط الشهير الراحل أحمد الجوهري.
كنت أرى هذا الملصق الشهير على جدران مقر الحزب بطريق مديونة؛ كان رمزاً للمظلومية. وقد عاشت قصة اغتيال التنوتي أكثر من قصة قتيل “الكارة”، حيث استمرت لأكثر من سنة.
بعد انتهاء التحقيقات، كُشفت الحقيقة الصادمة والمريرة.. المناضل القتيل ذهب ضحية قصة عاطفية. قتله زوج المرأة التي كانت تخونه مع القتيل. ولا صلة للنظام أو القمع السياسي بالجريمة، بل كانت جريمة شرف شخصية.
في لحظة تاريخية مؤلمة، أُسقط ملصق التنوتي من جدران المقرات الحزبية. كانت هذه العملية الصامتة، التي قامت بها كوادر الحزب، أبلغ من أي بيان رسمي.
لقد كانت هذه الأحداث دروساً قاسية للصحافة الحزبية، إن الارتكاز على العاطفة و”الحاجة إلى شهيد” دون التحقق الكامل من الوقائع، يعرض مصداقية النضال كاملاً للخطر، ويحول مآسي البسطاء إلى مسرحيات سياسية محزنة.
***
يا لها من مفارقة مأساوية! فقصة بوعزة الطالوني، “شهيد الكارة المزيف”، لم تكن مجرد خطأ في التوظيف السياسي، بل كانت حلقة أخيرة في سلسلة من الأحداث الدموية التي تتشابك فيها المصادفات القدرية.
قبل ظهور حركات “الألتراس” وصخبها المنظم، كانت ملاعب كرة القدم المغربية تعيش على إبهار نجوم ولدوا من رحم الأحياء الشعبية. ومن دروب الحي المحمدي، وُلد نجم كبير لعب للفريق التاريخي “الطاس” (نادي الاتحاد الرياضي البيضاوي). وصل هذا اللاعب إلى صفوف المنتخب الوطني وأظهر مهارات كبرى. بل كان هدفه الحاسم في مباراة إقصائية هو سبب تأهل المغرب لأول مرة لمونديال مكسيكو 1970.
لكن القدر حكم على هذا النجم الكبير بالغياب الأبدي قبل السفر إلى وادي لاجارا في المكسيك، حيث احتضنت ملاعب المنطقة مباريات “أسود الأطلس”..
لم يكن غيابه إقصاءً من المدرب اليوغوسلافي بلاغوي فيدينيك، ولا عقوبة من الجامعة، ولا بسبب مرض. بل كان بسبب مصرعه وموته قتيلاً.
السبب كان مأساوياً ومألوفاً في الأحياء الشعبية الفقيرة، تدخل لفك شجار في مقهى.
ودُفن النجم الرياضي الذي لم يعش مجد المونديال. وهذا النجم لم يكن سوى اللاعب بوعسَّة، المشهور بين الجماهير باسم “بؤسا” (Bouassa)، تماماً كما تُنطق في الفرنسية.
أما القاتل الذي سُجن بعد الحادث، فقد حُكم عليه بالسجن. وبعد أن أمضى سنوات خلف القضبان، أُفرج عنه ليجد نفسه مشرداً في ضواحي الدار البيضاء. كان يبحث عن ملاذ، ووجد ضالته لدى صاحب محطة بنزين كحارس ليلي. هناك، في محطة البنزين تلك، وعلى بعد سنوات ضوئية من جريمته الأولى، سيلقى هذا القاتل المفرج عنه المصير نفسه الذي لقيه النجم بؤسا. سيتعرض هو الآخر للقتل في عراك لا صلة له بالسياسة.
والمفارقة المروعة هنا هي أن القاتل، الذي أنهى حياة النجم بؤسا، هو ذات الشخص الذي وظفه المرشح الاتحادي، وذات الشخص الذي أطلق عليه الحزب اسم “الشهيد بوعزة الطالوني”.
هكذا، تتشابك خيوط القدر في الحي المحمدي وضواحي الدار البيضاء: القاتل يصبح قتيلاً، والشهيد يصبح متهماً. إنها شهادة على أن الدم يطارد قاتله، وأن مآسي الأحياء الشعبية الفقيرة أعمق وأكثر تعقيداً من أن تُختزل في ملصق انتخابي أو شعار حزبي.
***
لم يكن التوظيف السياسي لـ”الشهداء” مقتصرا على اليسار وحده؛ فقد تكرر الأمر بمرارة عند التيارات الإسلامية في المغرب، في ظل الحاجة المستمرة لـ”شهيد” يُعلي راية المظلومية ويقوّي شوكة التنظيم.
كانت حالة الطالب بكلية الطب في الدار البيضاء، عبد الجليل فخيش، تجسيداً لهذه المأساة. فخيش، الذي توفي إثر أحداث طلابية عاصفة عام 1991، لم تكن وفاته نتيجة مواجهة مباشرة أو اغتيال سياسي واضح، بل كانت نتيجة حادث مأساوي ومفاجئ. فقد اصطدم رأسه بباب مصعد في مستشفى ابن رشد (موريزكو)، أثناء هروبه من ملاحقة البوليس.
بمجرد وقوع الحادث، تحول دم فخيش المسفوح على باب المصعد إلى غنائم سياسية تتصارع عليها التيارات الإسلامية:
سارعت جماعة العدل والإحسان بقيادة الشيخ عبد السلام ياسين، إلى ادعاء أن عبد الجليل فخيش من “أبنائها المخلصين”، محاولة ضم دمه إلى أرشيف المقاومة الروحية والتنظيمية للجماعة.
والجماعة الإسلامية، التي ستتحول لاحقاً إلى حزب العدالة والتنمية، لم تتأخر هي الأخرى في الادعاء بأن فخيش كان من أعضائها، ساعية إلى إثبات عمق جذورها النضالية في المشهد الطلابي.
كما تبنت قضيته تيارات إسلامية أخرى، وكلٌّ يسعى لتوظيف موته في سياق معركته الأيديولوجية.
في حقيقة الأمر، كان دم عبد الجليل فخيش الذي سال على باب مصعد كهربائي بريئاً من ادعاءات كل من يطلب دمه المسفوح. لقد كان ضحية لمطاردة أمنية في خضم العنف الطلابي، لا نتاج قرار تنظيمي أو عملية استشهادية واعية.
القصة الحقيقية كانت أعمق، كان فخيش ضحية فشل الجامعة والمؤسسات الأمنية في التعامل مع المطالب الطلابية. كما يحدث اليوم مع شباب “جيل Z “...
في غياب العدالة الصريحة وفي ظل القمع، ظهرت الحاجة الملحة لـ”شهيد”، ووجدت التيارات الإسلامية ضالتها في حادثة الطالب الذي سقط على عتبة المستشفى.
لقد كانت هذه المزايدة دليلاً على أن التوظيف السياسي للمآسي هو مرض عضال يصيب جميع أطراف الطيف السياسي، ويحوّل الموت المأساوي إلى أداة لترتيب الأوراق التنظيمية على حساب الحقيقة والنزاهة.