إدوارد سعيد: اتّفاقية أوسلو واليوم التّالي
ترجمة: سعيد بوخليط
تقديم: هي دراسة ذات نفس نقديّ للغاية وتبصّر معاصر جدا، لازالت تحتفظ بدلالتها المعاصرة في خضمّ استمرار القمع الإسرائيلي للمقاومة الفلسطينية، أنجزها إدوارد سعيد خريف سنة 1993، ضمن سياق توقيع اتّفاقيات أوسلو، وصدرت شهر أكتوبر بين صفحات المجلة الانكليزية ”لندن ريفيو أوف بوكس ”.
حاليا وقد تراجع اندفاع الحماسة قليلا، يمكننا إعادة تقييم الاتّفاق الإسرائيلي مع منظمّة التّحرير الفلسطينية وفق مقتضى تفكير سليم. تحاول هذه القراءة تبيان العيوب التي تشوب هذا الاتفاق، غير المتوازن كثيرا بالنسبة لأغلب الفلسطينيين، مثلما افترض ذلك كثيرون منذ البداية.
ابتذال استعراض حفل التّوقيع وسط حديقة البيت الأبيض، المشهد المهين لياسر عرفات أثناء شكره الجميع بهدف حرمان أغلبية شعبه من حقوقه، ثمّ الظّهور السّخيف للرئيس الأمريكي بيل كلينتون مثل إمبراطور روماني في القرن العشرين ماسكا بمنكبي تابعيْن ضمن غاية التّهدئة والإذعان: تفاصيل شغلت ظرفية عابرة مقارنة مع المستويات اللامعقولة التي انطوى عليها الإذعان الفلسطيني.
إذن، بوسعنا قبل كلّ شيء، نعت الاتّفاق بتسميته الحقيقية: وسيلة لإخضاع الفلسطينيين، أو فرساي فلسطينية. ما يجعله أكثر فظاعة، أنَّه خلال خمسة عشر سنة الأخيرة، كان بوسع منظمّة التّحرير الفلسطينية التّفاوض على تسوية أفضل من القيام بتعديل على ”خطة آلون”، والتمسّك بعدم تقديم تنازلات أكثر من طرف واحد إلى إسرائيل.
بحكم مبرّرات يعرفها المسؤولون تماما،فقد رفضوا سابقا مختلف الاقتراحات. يمكنني في هذا الإطار تقديم مثال أعرفه شخصيا: نهاية سنوات السبعينات، التمس مني سيروس فانس وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية سابقا كي أحاول إقناع ياسر عرفات بأن يقبل القرار 242، مع تحفّظ (قبلت به واشنطن) أضافته منظمة التّحرير الفلسطينية يلحّ على الحقوق الوطنية للشّعب الفلسطينيّ وتقرير مصيره. أخبرني فانس بأنّ أمريكا ستعترف فورا بمنظمّة التّحرير الفلسطينية وفرض إجراء مفاوضات بينها وإسرائيل. لكنّ عرفات رفض العرض قطعيّا، بجانب مقترحات مماثلة.
فيما بعد اندلعت حرب الخليج، ثمّ افتقدت منظّمة التّحرير الفلسطينية هامشا أكبر نتيجة تبنّيها موقف كارثيّ. تبدّدت مكاسب الانتفاضة، وحاليا يقول المدافعون عن الوثيقة الجديدة: ”لانملك بديلا آخر”. سيكون التأويل دقيقا جدا حين الإقرار بالتالي: ”ليس لدينا خيارا مادمنا طبعا أضعنا أو رفضنا خيارات أخرى، ولم يبق أمامنا سوى الحالي”.
قصد التطوُّر وجهة تقرير المصير الفلسطينيّ- ليس له دلالة سوى إذا أضحت الحريّة، السيّادة، المساواة، أهدافا وليس إذعانا دائما لإسرائيل- يلزم الاعتراف بصدق بناء على سياقنا الآني، بأنّ هذا الاتّفاق المؤقّت سيتمّ تجاوزه. المربك على نحو خاص، امتلاك عدد من القادة والمثقّفين الفلسطينيين إمكانية مواصلة الحديث عن هذا الاتّفاق كـ”انتصار”، فقد وصفه نبيل شعت بـ”تكافؤ تامّ” بين الإسرائيليين والفلسطينيين. الحقيقة، إسرائيل لم تتنازل أبدا، مثلما أوضح وزير الخارجية جيمس بيكر في حوار تلفزيوني، باستثناء، ماتعلّق بـ”تمثيل منظّمة التّحرير الفلسطينية للشّعب الفلسطيني”.
أيضا، أخبرتنا يمامة الكاتب عاموس عوز، عبر لقاء مع قناة (BBC): “بأنّه اتّفاق دشّن ثاني أكبر انتصار خلال تاريخ الصّهيونية”.
في المقابل، انطوى إقرار ياسر عرفات بحقّ إسرائيل الوجودي على سلسلة من التّنازلات: ميثاق منظّمة التّحرير الفلسطينية؛ العنف والإرهاب؛ وكذا مختلف قرارات الأمم المتّحدة، فقط قراري 242 و338، اللّذين لم يقولا كلمة واحدة عن الفلسطينيين، وحقوقهم وكذا تطلّعاتهم. ضمنيا، تجاهلت منظّمة التّحرير الفلسطينية قرارات أخرى أصدرتها منظّمة الأمم المتحدة (واضح يوجد ترتيب مع إسرائيل وأمريكا، قصد تعديلها أو إلغائها)، منحت اللاّجئين الفلسطينيين منذ سنة 1948 حقوقا، تتعلّق بالتَّعويضات أو العودة إلى الوطن.
لقد حظي الفلسطينيون فعلا بقرارات دولية اقترحتها أساسا أوروبّا، حركة عدم الانحياز، منظمّة التّعاون الإسلامي والجامعة العربية، وكذا الأمم المتحدة، ترفض أو تشجب المستوطنات الإسرائيلية، ثم جرائم السَّطو ضدّ شعب يعيش تحت كنف الاحتلال.
يبدو إذن بأنّ منظمة التحرير الفلسطينية قد وضعت نهاية للانتفاضة، التي جسّدت حقّ الفلسطينيين في المقاومة، وليست إرهابا أو عنفا، بينما تواصل إسرائيل احتلال الضفّة الغربية وغزّة.
انصبّ الاعتبار الأول لوثيقة الاتّفاق على أمن إسرائيل، دون أيّ اهتمام يذكر بأمن الفلسطينيين ضد التوغّلات الإسرائيلية.
كان إسحاق رابين صريحا خلال الندوة الصحفية التي أجراها يوم 13 شتنبر، بخصوص استمرار تحكُّم السّيادة الإسرائيلية، أكثر من ذلك أضاف فكرة، تمسّك إسرائيل بنهر الأردن، والحدود مع الأردن ومصر، البحر، الأرض بين غزة وكذا أريحا، القدس، المستوطنات والطًّرقات. معطيات قليلة تضمّنتها الوثيقة بخصوص نبذ إسرائيل للعنف ضدّ الفلسطينيين، مثلما أجبر العراق على فعله بعد الانسحاب من الكويت، وضرورة تعويض ضحايا سياستها طيلة خمسة و أربعين سنة.
لم يعاين قط سواء عرفات، ولا أيضا شركاؤه الفلسطينيون الذين التقوا الإسرائيليين في أوسلو مستوطنة إسرائيلية واحدة والتي قاربت حاليا أكثر من مائتي خاصة على امتداد هضاب، مرتفعات، محاور استراتجية في الضفّة الغربية وغزة. احتمال، أن يتوارى الكثير منها ويختفي، لكن أكبرها صُمِّمَت من أجل البقاء. تتّصل بإسرائيل عبر شبكة طرق منفصلة عن بعضها البعض، وتخلق اضطرابا بين المحاور الكبيرة للسّاكنة الفلسطينية.
تمثِّل حسب تقديري أكثر من 55%، الأراضي التي سادتها المستوطنات فعليا، بجانب أخرى مصيرها المصادرة، ضمن المساحة العامّة للأراضي المحتلّة. وحده ”القدس الكبير” التّابع لإسرائيل، يطوي مساحة واسعة من الأراضي المغتصبة افتراضيا، ناهزت 25% من المجموع.ثلاث مستوطنات شمال غزة. مستوطنتان في الوسط والجنوب، على امتداد السّاحل ابتداء من الحدود المصرية غاية أبعد من خان يونس، مساحة تبلغ على الأقل 30% من قطاع غزة.
أيضا، ضخَّت إسرائيل من كل طبقات المياه الجوفية للضفّة الغربية، وتستغلّ حاليا ما يقارب 80% من هذه المياه لصالح المستوطنات وكذا إسرائيل نفسها (هناك تقريبا منشآت مائية مشابهة في ”منطقة الأمان” الإسرائيلية داخل لبنان). هكذا حدث تجاهل السّيطرة (بل سرقة محترفة) على الموارد الأرضية والمائية، وتغاضت اتّفاقيات أوسلو عن إشكاليات الماء والأرض. ما يفاقم الأوضاع، أنّ مختلف أخبار المستوطنات، حول الأرض أو الماء، تحتجزها إسرائيل ولم تتداول أغلب معطياتها مع الفلسطينيين، وأكثر من ذلك لاتقتسم عائدات الضّرائب المرتفعة جدا المفروضة منذ ستة وعشرين سنة.
أقامت منظَّمة التّحرير الفلسطينية هيئات تقنية مختلفة (تضمّ بعض فلسطينيي الخارج) داخل الأراضي المحتلّة بهدف اختبار هذه الأسئلة، لكن يظهر بأنّ خلاصاتها (مع افتراض وجود تلك الهيئات) لم تُسْتثْمر قط من لدن الطّرف الإسرائيلي في أوسلو.
إذن هناك انطباع بخصوص فجوة كبيرة بين ماحقّقته إسرائيل بينما استمرّ على حاله مامُنِح للفلسطينيين أو أهْمِلَ.
أشكّ في وجود فلسطينيّ واحد تابع احتفال التّوقيع داخل البيت الأبيض لم يشعر لحظتها بضياع جدوى قرن من التّضحيات، ونضال بطولي ضدّ السّلب. ثمّ الأكثر إرباكا، أنّ إسحاق رابين نفسه استحضر خطاب الفلسطينيين بينما اكتفى عرفات بكلمات كأنّها مستوحاة من عقد كراء بحيث لم يعد الفلسطينيون ضحايا للصّهيونية، بل صاروا أمام العالم قاطبة مجرّد معتدين يعلنون توبتهم: لقد قُتِلَ آلاف الأشخاص نتيجة غارات إسرائيلية على مخيّمات اللاّجئين، وكذا مستشفيات ومدارس لبنان؛ طرد ثمانمائة ألف شخص سنة 1948 (حاليا يبلغ عدد الأحفاد ثلاثة ملايين، الكثير منهم بدون جنسية)؛ الاستيلاء على أراضيهم وممتلكاتهم؛ تدمير أكثر من أربعمائة قرية فلسطينية؛ اجتياح لبنان؛ دمار ستّة وعشرين سنة بسبب الاحتلال العسكري الفظّ، جملة آلام اختُزِلت إلى حالة إرهابية وكذا عنف ينبغي بأثر رجعي التّغاضي عنه أو تجاهله. وصفت إسرائيل دائما المقاومة الفلسطينية بالإرهاب والعنف، مع ذلك منحت طبيعة صياغة الاتّفاق إسرائيل هديّة أخلاقيّة وتاريخيّة.
لقاء أيّ شيء تحديدا؟ الاعتراف الإسرائيلي بمنظمّة التّحرير الفلسطينية، بالتّأكيد يشكّل هذا المعطى تقدُّما دالاّ، لكن خلف ذلك أرجِئت أسئلة الأرض والسّيادة إلى”مفاوضات الوضع النّهائي”، بحيث تخلّى الفلسطينيون فعليا عن حقّهم الكامل المعترف به دوليا حول الضفّة الغربية وقطاع غزة: هكذا صارت حاليا ”أراضي متنازع عليها”.
لاحظنا، بمساعدة فلسطينيين، كيف رتّبت إسرائيل لنفسها حقّا لايقلّ عن المطلب الفلسطيني. تراهن حسابات إسرائيل من خلال قبولها بالوضع في غزة – مهمة حاول مناحيم بيغن تفويضها إلى السادات قبل خمسة عشر سنة – انشغال منظّمة التّحرير الفلسطينية من الوهلة الأولى مع المنافسين المحلّيين ضمنهم حماس.
أيضا، بدل تعزيز وضع الفلسطينيين خلال الحقبة الانتقالية، سيصيبهم الضُّعف والإنهاك جرّاء خضوعهم بامتياز لوطأة الحذاء الإسرائيلي بالتالي عجزهم عن مواجهة الادّعاءات الإسرائيلية حين انطلاق المرحلة الأخيرة من المفاوضات. لكن حين توخِّي الحديث عن كيفية ثم طبيعة الآليات الخاصة، قصد الانتقال حينها من وضع مؤقَّت إلى وضع لاحق، تبقى الوثيقة صامتة بشكل متعمَّد. ربما يعني ذلك – إشارة سلبية – بأنّ المرحلة المؤقّتة قد تكون الأخيرة؟
اقترح المعلِّقون الإسرائيليون، فترة ستّة أشهر من الآن، كي تتفاوض منظّمة التّحرير الفلسطينية مع حكومة رابين بخصوص اتّفاق جديد يؤجّل أيضا الانتخابات، من ثمّة السّماح باستمرار حكم منظّمة التّحرير الفلسطينية. وجب الإشارة أنّه على الأقلّ خلال مرّتين إبّان الصّيف الماضي، أوضح عرفات بأنّ تجربة حكمه طيلة السنوات العشر التي ”هيمن” فيها على لبنان، مواساة صغيرة بالنسبة لعدّة لبنانيين وفلسطينيين مازالوا يتذكّرون تلك الحقبة الحزينة.
راهنا تنعدم وسائل حقيقية من أجل إجراء انتخابات، رغم إدراجها ضمن المخطّط. ذلك أنّ فرض السّلطة من الأعلى، إضافة إلى إرث الاستعمار الطويل، عرقلا نموّ المؤسّسات الدّيمقراطية القاعدية. بهذا الخصوص أشارت تقارير صحفية عربية غير مؤكَّدة إلى أنَّ منظمّة التّحرير الفلسطينية عيّنت سلفا وزراء في تونس ينتمون إلى دائرتها الخاصة، وكذا وزراء مساعدين ينحدرون من ساكنة موثوق بها في الضفّة الغربية وقطاع غزة. فهل بوسعنا التّطلّع نحو مؤسّسات ذات تمثيلية حقيقية؟ لا يمكننا الإحساس بتفاؤل كبير، نظرا لرفض ياسر عرفات المطلق تقاسم أو تفويض السلطة، دون التّكلّم عن الموارد المادية التي يتحكّم وحده في تفاصيلها.
تتوافق حاليا إسرائيل ومنظّمة التّحرير الفلسطينية، من أجل تحقيق الأمن الداخلي وكذا التّنمية. هكذا التقى قادة أو خبراء منظّمة التّحرير الفلسطينية مع مسؤولي الموساد منذ أكتوبر الماضي قصد نقاش القضايا الأمنية، لاسيما أمن ياسر عرفات نفسه. يحدث ذلك خلال لحظة تتّسم بقمع إسرائيلي فظيع للفلسطينيين تحت نير الاحتلال العسكريّ.
تكمن خلف هذا التَّعاون، فكرة ردع كلّ فلسطينيّ عن التّظاهر ضدّ احتلال، لن ينسحب بل سيكتفي فقط بإعادة الانتشار. علاوة على ذلك، تستمرّ حياة المستوطنين مثلما كانت دائما، في إطار منظومة عدالة مختلفة. تصبح منظَّمة التّحرير الفلسطينية أداة تنفيذ إسرائيلية، مآل غير مريح لدى أغلب الفلسطينيين.
هناك واقعة مهمَّة، تحيلنا على رفض المؤتمر الوطني الإفريقي تهيئ شرطيِّين لصالح حكومة جنوب إفريقيا قبل أيِّ تقاسم للسُّلطة، تحديدا قصد تجنب إمكانية الظُّهور بمظهر مجرّد أداة تنفيذية تعمل لصالح حكومة البِيض.
قبل أيّام، ورد من عمان خبر مفاده أنّ مائة وسبعين عنصرا في جيش تحرير فلسطين، يتدرّبون حاليا في الأردن كي يؤدّوا وظيفة شرطة غزة، رفضوا التعاون، تحديدا دفاعا عن قناعة من هذا القبيل.
يكابد ما يقارب أربعة عشر ألف فلسطيني ظروف الاعتقال داخل السّجون الإسرائيلية – يمكن الإفراج عن بعضهم حسب إسرائيل – وينمّ هذا الوضع عن مفارقة ضمنية، حتى لاأقول عدم تناسق التّرتيبات الأمنية الجديدة. هل تمنح حيّزا أكبر إلى أمن الفلسطينيين؟
موضوع التّنمية يتّفق حوله أغلب الفلسطينيين، وقد ورد هنا حسب مصطلحات أكثر سذاجة ممّا يمكن تخيّله. نتطلّع من المجموعة الدّولية إعطاء دعم مالي على نطاق واسع إلى المناطق المستقلّة تقريبا؛ وننتظر بنفس القدر من الشّتات الفلسطينيّ. لكن يلزم مرور مجمل حيثيات التّنمية الفلسطينية عبر بوّابة لجنة التّعاون الاقتصادي الفلسطيني-الإسرائيلي المشتركة، مثلما يوضّح مضمون الوثيقة ”يتعاون الطّرفان معا وبشكل أحادي مع المكوِّنات الإقليمية والدّولية قصد بلوغ هذه الأهداف”.
إسرائيل قوّة اقتصادية وسياسية مهيمنة في المنطقة، وبالتّأكيد تعضّد وجود هذه القوّة نتيجة التّحالف مع الولايات المتحدة الأمريكية. يخضع أكثر من %80 من اقتصاد الضفّة الغربية وقطاع غزّة إلى الهيمنة الإسرائيلية التي تتحكّم على الأرجح في الصّادرات الفلسطينية، الصّناعة ثم إمكانية الحصول على العمل إبّان مستقبل قريب. بغضّ النّظر عن طبقة صغيرة متوسِّطة من المقاولين، تزداد الأغلبية الساحقة من الفلسطينيين فقرا ومحرومة من الأرض، تحت سطوة أهواء الجماعة الصناعية والتّجارية الإسرائيلية التي تتعامل مع الفلسطينيين كقوى عاملة رخيصة.
اقتصاديا، سيظلّ حتما أغلب الفلسطينيين عند مستوى وضعيتهم، وإن افترضوا حاليا انتقالهم للعمل في القطاع الخاص، ضمن قطاعات صناعية ذات خدمات تحظى فقط جزئيا بالسّيادة الفلسطينية، مثل الفندقة، وحدات التركيب الصّغرى، الضيعات ثم مجالات مشابهة.
استشهدت دراسة حديثة للصّحفي الإسرائيلي آشر دافيدي، بتصريح لدوف لوتمان، رئيس جمعية الصّناعيين الإسرائيليين: “لا يهمّ وجود دولة فلسطينية مستقلة أو دولة فلسطينية-أردنية. فالحدود الاقتصادية بين إسرائيل والأراضي المحتلَّة يلزمها أن تبقى مفتوحة”.
عمليا،استطاعت إسرائيل بناء على مؤسّسات متطوِّرة بكيفية أو أخرى،ثمّ علاقاتها الوثيقة مع الولايات المتحدة الأمريكية واقتصادها الشّرس، احتواء الأراضي المحتلّة اقتصاديا، والإبقاء عليها في حالة تبعية دائمة. بعد ذلك، تتحوّل إسرائيل وجهة العالم العربي الممتدّ، واستثمار المكاسب السّياسية من الاتّفاق مع الفلسطينيين كنقطة انطلاق قصد النّفاذ إلى الأسواق العربية، بهدف استغلالها والهيمنة عليها حتما.
تأطير ذلك: الولايات المتّحدة الأمريكية،القوّة العالمية الوحيدة، التي يتّجه فكرها بخصوص النّظام العالمي الجديد حول هيمنة اقتصادية بواسطة شركات كبيرة وكذا السّعي إلى إفقار ضروريّ للغاية لمجموعات بشرية غير متطوّرة كثيرا (بما في ذلك المنتمية إلى المراكز). تراقب الولايات المتحدة الأمريكية المساعدة الاقتصادية إلى فلسطين وكذا الإشراف عليها، وتجاوز الأمم المتّحدة وبعض هيئاتها مثل الأونوروا وبرنامج الأمم المتّحدة الإنمائي التي تتمتّع إلى حدّ بعيد بوضعية أفضل قصد تدبير تلك المسؤوليات.
لنأخذ مثالي نيكاراغوا وفيتنام، بلدين اعتُبرا بمثابة عدوَّين قديمين للولايات المتحدة الأمريكية؛ التي انهزمت فعليا خلال حربها في فيتنام، لكنّ الأخيرة تحتاج حاليا إلى أمريكا اقتصاديا. يستمرّ الحصار الاقتصادي على فيتنام وكتبت مراجع التاريخ بطريقة تظهر كيف أخطأ الفيتناميون في حقّ الأمريكيين و”إساءة معاملتهم” حيال تصرّفهم المثالي لكونهم اجتاحوا بلدهم فيتنام وقصفوها ودمّروها.
أما عن حكومة الساندينيين في نيكاراغوا فقد تعرّضت لهجومات حركة الكونتراس التي تشرف على تمويلها الولايات المتحدة الأمريكية، لُغِّمَتْ موانئ البلد، وسادت المجاعة نتيجة مختلف أنواع وأنماط الحصار والتَّخريب التي يستحيل تصوّرها.
بعد انتخابات سنة 1991، وصلت المرشَّحة فيوليتا تشامورو إلى كرسيّ الحكم بدعم أمريكي، ووعود بتوفير مساعدات تقدّر بملايين وملايين الدّولارات، تحقّق معها فقط وعد ثلاثين مليون ثمّ ألغيت بعض تلك المساعدات منتصف شهر شتنبر. حاليا تعيش نيكارغوا مجاعة وحربا أهليّة. في هذا السيّاق نفسه، لم يكن مصير سلفادور وهايتي أفضل من نيكارغوا.
الاستسلام مثلما فعل ياسر عرفات إلى القبضة الأمريكية، مآله حتما على وجه التّقريب نفس المصير الذي يتمّ تحضيره للشّعوب المتمرّدة أو”الإرهابية” المنتسبة إلى العالم الثالث وقدَّمت ”لاحقا ”، وعدا بعدم مقاومة الولايات المتحدة الأمريكية.
يكمن نظام إعلامي مذهلة حقّا سيطرته الذهنية، خلف مرتكزات التحكّم الاقتصادي والاستراتجي الأمريكي على بلدان العالم الثالث المنتمية إلى المحيط الخاضع، أو تملك موارد مثل البترول تعتبر أساسية للولايات المتحدة الأمريكية.
قبل عشرين سنة على الأقلّ، صُنّف ياسر عرفات بمثابة الشّخص الأقلّ أهمّية وأخلاقيا الأكثر إثارة للاشمئزاز فوق هذه الأرض. كلما ظهر على وسائل الإعلام، أو أجرى لقاء معها، يقدَّم كما لو أنّ دماغه يطوي فقط فكرة واحدة: قتل اليهود، لاسيما النّساء والأطفال الأبرياء. لكن خلال أيّام معدودة، أعادت نفس ”وسائل الإعلام المستقلّة” الاعتبار تماما لياسر عرفات، فقد صار حاليا شخصية مقبولة، بل محبوبا، بعد إقراره الشُّجاع والواقعيّ لإسرائيل بعدالة قضيتها نتيجة إعلانه ندمه، وأضحى “صديقا”، منحازا إلى ”جانبنا” رفقة شعبه. بالتالي، كل من يعارض أو ينتقد ما يفعله يُتَّهَمُ بالأصولية على شاكلة مستوطني اللّيكود أو إرهابيّ مثل عناصر حماس ولم يعد ممكنا تقريبا مناقشة أيّ فكرة، سوى الاتّفاق الإسرائيلي – الفلسطيني – لم تقرأ عموما بنوده أو تداولها، غير واضحة في كلِّ الأحوال، وتغيب عنها عشرات التَّفاصيل الحاسمة- وطرحه كخطوة أولى نحو الاستقلال الفلسطيني.
عندما يتعلّق الأمر بمقاربة مستقلّة حقّا، تبرز مشكلة معرفة كيفية التخلّص من النَّسق الإيديولوجي الذي يستند عليه حاليا سواء الاتّفاق وكذا وسائل الإعلام. يقتضي الأمر، ذاكرة وتشكيكا (بل محض شكٍّ)، وإن بدا جليّا عدم بلوغ التحرّر الفلسطيني وفق المعنى الحقيقي للكلمة، ولن يتحقّق في خضمِّ قصدية وجهته الحالية، خارج إطار قيود إسرائيلية وأمريكية بئيسة. المتوقَّع من المصافحة الشّهيرة المبثوثة عبر مختلف أرجاء العالم ليس تجسيد فقط نجاح كبير، لكن أيضا إخفاء حقائق الماضي والحاضر.
بناء على حدّ أدنى من النَّزاهة، يلزم على الفلسطينيين امتلاك قدرة رؤية أنّ الأغلبية التي يُفترض تمثيلها من طرف منظّمة التّحرير الفلسطينية لن يخدمهم الاتّفاق، إلا في حالة تحقّق الأمر ظاهريا. بالتّأكيد، تنتاب مشاعر السّعادة ساكنة الضفّة الغربية وقطاع غزة وهم يتابعون انسحاب بعض الفرق العسكرية الإسرائيلية، وبداية وصول كمّية مهمّة من السُّيولة النّقدية. لكنّها صراحة سعادة غير صادقة في حالة عدم تركيزهم على مضمون الاتّفاق بخصوص احتلال مستقبلي، وسيطرة اقتصادية وغياب جوهري للأمن.
أيضا، هناك الإشكالية الهائلة المتعلّقة بالفلسطينيين الذين يعيشون في الأردن، دون الحديث عن آلاف اللاّجئين وعديمي الجنسية في لبنان وسوريا، والدول العربية ”الصّديقة” التي تبنّت دائما قانونا يسري على الفلسطينيين، وآخر بالنسبة إلى مواطنيها. تعزّزت سلفا هذان القوّتان وكذا المعياران، مثلما تعكس ذلك المشاهد المرعبة والمتخلِّفة عبر المطاردات التي حدثت في جسر الملك حسين منذ الإعلان عن إبرام الاتّفاق.
إذن ما العمل، بعد صبّ النّبيذ؟ يكمن التصوُّر الأوّل في أن نشرح بصيغة واضحة ليس فقط المزايا التي أقرّتها إسرائيل واستساغها البيت الأبيض، لكن أيضا عوائقه الأساسية. تشاؤم الذّهن أولا، ثم تفاؤل الإرادة ثانيا. لا يمكننا تطوير وضعية دون المستوى المطلوب تعود بشكل كبير إلى انعدام الكفاءة التّقنية لدى منظّمة التَّحرير الفلسطينية التي تفاوضت طويلا باللغة الانجليزية – لغة لايفهمها عرفات ولا مبعوثه إلى أوسلو ولا مستشاره القانوني – حول موضوعات ذات طابع تقنيّ، لكن على الأقلّ لم تتورّط شخصيات قادرة على التفكير باستقلالية،وليس مجرّد أدوات لما تريده دائما السّلطة فلسطينية.
أشعر بإحباط كبير لأنّ عددا من المثقّفين العرب والفلسطينيين أعلنوا قبل أسبوع، عن تذمّرهم من أساليب عرفات الدّيكتاتورية، وتحكّمه الأنانيّ في الأموال، وكذا جماعة المنافقين المتملّقين التي أحاطها به خلال الفترات الأخيرة، وغياب المصداقية والتأمُّل، على الأقل منذ حرب الخليج، نفس هؤلاء المثقّفين أبانوا راهنا عن تحوُّل بمائة وثمانين درجة وشرعوا في التّصفيق لعبقرية عرفات التّكتيكية وانتصاره أخيرا.
تعبيد الطّريق نحو تقرير المصير، ينجح في بلورته أشخاص أغنياء على مستوى التطلّعات والأهداف الديمقراطية. دون ذلك، لا يستحقّ المجهود عناء.
بعد كل البهجة التي احتفلت بـ”أولى خطوات نحو دولة فلسطينية”، يلزم التّذكير أنّ مايهمّ أكثر من الدولة، نوع الدولة. لقد شوَّهت الدّيكتاتوريات شكل تاريخ العالم ما بعد – الاستعمار بنظام الحزب الوحيد، الأوليغارشيات الاستبدادية، التفكُّك الاجتماعي النّاجم عن ”الاستثمارات” الغربية ثم جسامة مستويات الإفقار بسبب المجاعة، الحرب الأهلية أو ببساطة السّرقة. أيضا يصعب على الأصولية الدينية، أو القومية تقديم ”جواب” على إشكاليات المجتمعات اللاّئكية. للأسف بوسعنا من الآن توقّع دولة فلسطينية محتملة تعكس صورة زواج بين الفوضى اللّبنانية والدّيكتاتورية العراقية.
بهدف تجنّب مصير من هذا القبيل، ينبغي الاهتمام بعدد معين من القضايا. إحداها الشّتات الفلسطيني الذي شكّل أساس وصول ودعم وصول عرفات ومنظمّة التّحرير الفلسطينية إلى السّلطة، لكنّ هذا الشّتات يعيش حاليا وضعية محكومة دائمة محكومة بإطاري النَّفي أو اللّجوء. يمثّل هذا المكوّن على الأقلّ نصف مجموع الشعب الفلسطيني، ولا يمكن إهمال احتياجاتهم ورغباتهم. جزء صغير من المجموعة المنفية تمثّله مختلف التَّنظيمات السياسية ”التي تستضيفها” سوريا.
هناك عدد مهمّ من المستقلّين (ضمنهم شفيق الحوت ومحمود درويش، اللّذين أعلنا عن تعليق مشاركتهما في منظمّة التّحرير الفلسطينية) امتلكوا دائما دورا أساسيا للقيام به، ليس فقط تصفيقا أو استنكارا خلف الكواليس، بل يشغلهم هاجس الدِّفاع عن إحداث تغيّرات نوعية على مستوى بنية منظمّة التّحرير الفلسطينية، والتمسّك بتحويل مزاج الانتصار خلال لحظة إلى شيء ما مناسب أكثر، بحشد دعم صوب بناء تنظيم داخل المجموعات الفلسطينية المختلفة في كل العالم، غاية مواصلة السّعي نحو تقرير المصير. هذه الجماعة المستاءة، ظلّت خاصة بدون قيادات وغير مهتمَّة منذ بداية مسار مدريد.
أولى المهام إحصاء الفلسطينيين، واعتبار ذلك بمثابة تحرير الفلسطينيين أينما وجدوا وليس مجرّد تمرين بيروقراطي. إحصاء، عارضته باستمرار إسرائيل، الولايات المتحدة الأمريكية والبلدان العربية: عملية تكشف عن الحضور القويّ جدا للفلسطينيين داخل بلدان تفترض أنّهم ليسوا بذات الحضور. قبل حرب الخليج، كان من شأن الإحصاء أن يظهر إلى عدّة حكومات خليجية مدى اعتمادهم على جماعة ”مضيفة” كبيرة جدا، وتعيش بشكل عام تحت نير الاستغلال.لكن خاصّة يستند رفض دعوة الإحصاء على الوعي بأنّ إجراء تعداد مجموع الفلسطينيين، رغم الشّتات ومصادرة الممتلكات، من شأنه جعلهم أقرب إلى معنى الوطن وليس فقط تجمُّعا بشريا.
اليوم أكثر من ذي قبل، يعتبر مسار إحصاء، تعقبه ربما انتخابات في كلّ أرجاء العالم، مطلبا أساسيّا ضمن جدول الأعمال بالنّسبة لمختلف الفلسطينيين أينما وجدوا. سيشكِّل فعلا ذاتيا للتحقُّق تاريخيا وسياسيا خارج قيود تتأتّى نتيجة غياب السِّيادة. ويضفي طابعا حسِّيا على حاجة عامة تستدعيها المشاركة الديمقراطية، صار يعيقها حاليا بشكل جليٍّ تحالف قبل الأوان بين إسرائيل ومنظّمة التحرير الفلسطينية.
حتما، يطرح الإحصاء السكّاني مرّة أخرى إشكالية عودة الفلسطينيين غير الموجودين في الضفّة الغربية أو غزة. يلزم فتح مضامين هذا الملفّ من الآن، وقد تمّ اختزاله في صيغة عامة ”اللاّجئين” وإرجائه إلى المستقبل حين مناقشات الوضع النّهائي. الحكومة اللبنانية مثلا، أشعلت علانية شرارة ضدّ الاعتراف بمواطَنَة وكذا تجنيس ما بين ثلاثمائة وخمسين وأربعمائة ألف فلسطيني داخل لبنان، أغلبهم بلا جنسية وفقراء يعيشون ضمن إطار مأزق مسدود دائم. نفس الوضعية نعاينها في الأردن ومصر، بحيث أدّى أشخاص من بين مختلف كلّ فئات الفلسطينيين ضريبة فادحة، بالتالي لا يمكننا التخلِّي عنهم حتى يتعفّنوا بطريقة ما أو تحويل وجهتهم نحو مكان آخر لايرغبون فيه.
إسرائيل قادرة على منح حقِّ العودة إلى كل يهوديّ العالم: بوسع الأفراد اليهود أن يصيروا مواطنين إسرائيليين ويعيشوا داخل إسرائيل متى شاؤوا. يلزم إعادة النَّظر في هذا الإجحاف غير العادي، ولايقبل به جميع الفلسطينيين منذ أكثر من نصف قرن. يستحيل تصور أنّ أغلب لاجئي 1948 يطمحون أو لديهم قدرة العودة إلى مكان أصغر من دولة فلسطينية: لكن من ناحية أخرى، يرفض جميعهم اقتراح إعادة الاستقرار في مكان آخر، أو التَّنازل تماما عن فكرة العودة إلى الوطن وكذا التَّعويض.
أيضا يجب على منظّمة التَّحرير الفلسطينية والفلسطينيين المستقلّين، تناول إحدى الإشكاليات التي أغفلتها اتّفاقيات أوسلو، واستباق مفاوضات الوضع النّهائي، أقصد تحديدا: مطلب إصلاحات بالنّسبة للفلسطينيين ضحايا هذا النّزاع الرَّهيب، وإن رغبت الحكومة الإسرائيلية (عبَّر إسحاق رابين بقوّة عن هذا الموقف خلال ندوة صحفية في واشنطن) في إغلاق منظَّمة التّحرير الفلسطينية لـ”السّفارات المفترضة”، ينبغي لهذه المكاتب البقاء مفتوحة قصد مباشرة حيثيات الشكاوى بخصوص العودة إلى الوطن أو التّعويض.
عموما،يلزمنا العمل حتى نرتقي بمستوى دولة الذُلّ السّلبية التي تفاوضنا عنها في اتّفاقيات أوسلو (”نقبل كل شيء لحظة اعترافكم بنا”) صوب وضعية أخرى تتيح لنا إمكانية مواصلة إبرام اتّفاقيات موازية مع إسرائيل والعرب حول الأهداف الفلسطينية الوطنية،تتجاوز إطار تطلّعات محليّة.
تأويل لا يستبعد مقاومة الاحتلال الإسرائيلي الذي يتوسّع إلى أجل غير مسمّى. طالما هناك احتلال ومستوطنات، بغضّ النَّظر عن قبول منظّمة التّحرير الفلسطينية بتلك الوضعية أو لم تقبل، يجدر بالفلسطينيين وكذا الآخرين تأكيد موقفهم الرّافض. ذلك أنّ إحدى الأسئلة التي لم تستحضرها اتّفاقيات أوسلو، سواء في تبادل الرسائل بين منظمّة التّحرير الفلسطينية وإسرائيل، أو أثناء خطابات واشنطن، تطرح مسألة تخلّي الفلسطينيين أيضا عن المقاومة السلمية والتّمرّد المدني إلخ جرّاء إعلان توقّف منظمة التحرير الفلسطينية عن خيار العنف والإرهاب. يتعلّق الأمر بحقٍّ غير قابل للإلغاء بالنسبة لسيادة واستقلال جميع الشعوب، ويلزم دعم ذلك.
مثل كثير من الحكومات العربية التي تفتقد إلى الامتداد الشعبي والحسّ الدّيمقراطي، فقد شرعت منظّمة التّحرير الفلسطينية سلفا في الاستحواذ على السلطة، ونعت معارضيها بـ”الإرهابيين” أو ”الأصوليين”، إنّها الدّيماغوجية.
ترفض عناصر حماس والجهاد الإسلامي اتّفاقية أوسلو مع تأكيدهم في نفس الوقت خلال مناسبات عدّة بأنّهم لن يشهروا سلاح العنف بهدف مواجهة فلسطينيين آخرين. أيضا، يلامس تأثيرهم المشترك أقلّ من ثلث مواطني الضفّة الغربية وقطاع غزة. أما عن المجموعات المنزوية في دمشق، فيبدو لي قد أصابها الشّلل أو فقدت مصداقيتها.
أحكام من هذا القبيل لاتحاول التّعميم على مجموع المعارضين الفلسطينيين، الذين يضمّون أيضا بين صفوفهم علمانيين مرموقين، وأشخاص واقعيين وديمقراطيين، يدافعون عن حلّ سلميّ للصّراع الفلسطيني- الإسرائيلي. أنتمي شخصيا إلى هذا الفريق الذي أظنّه أكثر أهمية مما نفترضه اليوم.
تكمن داخل فكر هذا الموقف المعارض رغبة يائسة بخصوص إصلاح منظّمة التّحرير الفلسطينية نفسها، التي تجابه آنيا تحذيرا مفاده أنّ اختزال المطالب في”الوحدة الوطنية” ليست قط مبرّرا من أجل انعدام الكفاءة، الفساد وكذا الاستبداد.
للمرّة الأولى في التّاريخ الفلسطيني، وبالاستناد على مبرّرات منطق غريب وغير صادق، توصف معارضة من هذا القبيل، بكونها تمارس خيانة للسلطة أو خيانة أخلاقية.
فعلا، نؤكّد بأنّنا نعارض كلّ نزعة فلسطينية طائفية ثمّ الولاء الأعمى للسّلطة: يستمرّ تمسّكنا بالقيم الديمقراطية الكبرى وكذا المجتمعية فيما يخص المساءلة و التّمثيل التي تتوخّى دائما القومية المنتصرة محوها.
أعتقد بتبلور معارضة شاملة لماضي منظّمة التّحرير الفلسطينية الأرعن، على امتداد الشّتات، ستنتهي بدمج أشخاص وأحزاب الأراضي المحتلّة.
أخيرا، هناك الإشكالية المربِكة بخصوص العلاقات بين إسرائيليين وفلسطينيين يؤمنون بأطروحة تقرير المصير بالنّسبة لشعبين، وفق صيغة ترضي الطّرفين وعلى قدم المساواة. الاحتفالات سابقة لأوانها، وتعكس فقط وسيلة سهلة بالنّسبة لكثير من أصحاب النّزعة الإسرائيلية المفرطة ثمّ يهود غير إسرائيليين، قصد التملُّص من مواجهة واقع الفجوات الكبيرة القائمة دائما.
يتقاسم الشعب الفلسطيني والإسرائيلي، بكيفية موصولة جدا، تاريخ نزاع واضطهاد مشترك بهدف تجميع السّكان الأصليّين على الطّريقة الأمريكية ثم تضميد الجراح وفتح سبيل يستدعي التّقدّم. هناك دائما ضحيّة وجلاّد.
ربّما تحقَّق تضامن نضالي بغية إنهاء تاريخ التعسُّف، حينما يضغط الإسرائيليون، على حكومتهم كي تضع نهاية للاحتلال، ومصادرة الممتلكات وبناء المستوطنات. بعد كل شيء، لا يملك الفلسطينيون شيئا كبيرا لتقديمه.
ينبغي حاليا الانخراط بجديّة، دون المقتضيات الشّعائرية للأمن النفسي لدى الإسرائيليين، في نضال مشترك ضدّ الفقر، الظّلم وكذا النّزعة العسكرية، وإذا لم تتبلور لبنات ذلك حاليا فلن تتحقّق أبدا. حينها، قد تكون تلك المصافحة الرمزية بمثابة مرحلة أولى نحو المصالحة وتجسيد سلام حقيقي.
_______________
مرجع المقالة:
Edward Said :Olso le jour d après . la London Review of Books. 1993. (palestine chronicle .jeudi 27 octobre 2022) –
