إلى من يعشقون الشمس في عز الليل…

إلى من يعشقون الشمس في عز الليل…

 عبد الرحمان الغندور

خاص بالحرائر والأحرار الذين يعشقون الشمس في عز الليل. أما العبيد، والمتسولون أمام معابد أسيادهم فلا شأن لهم بهذا المقال

             في زمنٍ تتدافع فيه الأصوات، ويتعالى فيه الضجيج، يطلّ علينا صوتٌ من أعماق التاريخ، حاملاً حكمةً ما أشدّ حاجتنا إليها اليوم. يقول ابن خلدون: “الحرُّ يدافع عن الفكرة مهما كان قائلها، والعبد يدافع عن الشخص مهما كانت فكرته”. كلمات قليلة تُلقي بحجر في مياه راكدة، فتثير دوائر تتسع لتكشف عن انقسام عميق في فهمنا للمشهد السياسي والاجتماعي والثقافي والاعلامي في مغرب اليوم.

إنها مقارنةٌ جريئة، تقطع الطريق على كل المبررات. فليس الحرّ هو من يفعل ما يشاء فحسب، بل هو من يخضع عقله للحقيقة حيثما وجدت، ويخضع قلبه للإنصاف بغضّ النظر عن المصدر. إنه ذلك الإنسان الذي يستطيع أن يفصل بين القائل والقول، فينحني لفكرة ساطعة حتى لو أتته ممن يخالفه في الرأي والمعتقد. ويقف ضد كل فكرة واهية حتى لو نطق بها صديقٌ حميم. في هذا الموقف تكمن روح الحرية الحقيقية، روح الإنسان الذي يملك نفسه ولا تستعبده التحيزات والولاءات الضيقة.

فالعبد هو ذلك الأسير داخل سجن الشخصنة. إنه لا يرى الأفكار بل يرى الأسماء والوجوه. عقله مُرهون لشخصٍ ما، زعيما كان أو مفكراً أو صديقاً، فيصبح دفاعه عن أي فكرة تخرج من ذلك الشخص دفاعاً عن ذاته المصغرة، عن هويته المرتبطة بذلك المعبود. إنه يخلط بين الحقيقة والولاء، فيضحي الحقّ هو ما يقوله “هو”، والباطل هو ما يقوله الآخرون في حلبة تموت فيها الحقيقة، ويولد التعصب.

ولعلّ من أشدّ مآسينا المعاصرة أننا لا نحظى بكثير من هؤلاء الأحرار. لقد انقلب مفهوم الحرية عند كثيرين رأساً على عقب. فبدلاً من أن تكون حرية الفكر تعني الشجاعة في تبني الحجة الأقوى والدفاع عنها، صارت تُفهَم على أنها الحق في الهجوم، في التحطيم، في الرفض لمجرد الرفض. ويعتقد هؤلاء أن مهاجمة الأفكار، حتى تلك التي أثبتت نجاعتها وترسخت ركائزها، واتضحت براهينها، هي ذروة التحرر والتعبير عن الذات. إنها حرية سلبية ومستلبة، قائمة على النفي لا على الإثبات، على الهدم لا على البناء. إنهم يهربون من حقيقة الواقع في نسبيته، إلى عبادة وتقديس الأشخاص التي تصير هي الفيصل رغم المنطق والدلائل والبراهين.

لا يولد هذا التشويش من فراغ. إنه ابن بيئةٍ فكرية وثقافية وإعلامية تخلط الأوراق، ترفع من شأن الصراع على حساب الحوار، وتجعل من الشخصنة سلعة رائجة. في عالم يلهث وراء “التريند” والإثارة، حيث تتجسد الأفكار في شخص قائلها، ويصبح النقاش مجرد تنابز بالألقاب، يكون فيها الفوز هو الهدف، وليس الوصول إلى الحقيقة. وفي هذا الضجيج، يغيب صوت العقل الهادئ الذي يميز بين الجوهر والعرض، وبين الفكرة وقائلها.

إن تحرير العقل ليس عملية سهلة، إنها رحلة شاقة تتطلب جرعة عالية من التواضع الفكري. التواضع الذي يجعلنا نعترف بأن الحقيقة ليست ملكاً لأحد، وأنها كنزٌ مشاع يمكن أن توجد في أي مكان، على لسان صديق أو خصم. هي رحلة تتطلب منا أن نقتل في داخلنا “العبد” الذي يبحث عن سيدٍ جديد ليعبده، سواء أكان تقليداً اجتماعياً، أو زعيماً سياسياً، أو تياراً فكرياً سائداً.

ليست حرية الفكر مجرد حق نتمتع به، بل هي مسؤولية نتحملها. مسؤولية عناء البحث، وجهد التمحيص، وشجاعة القبول حين تكون الحقيقة في صف الآخر. إنها القدرة على الاعتراف بالأخطاء دون أن نشعر أن كرامتنا قد انهارت، والقدرة إنصاف المحق دون أن نشعر أننا انهزمنا. حينها فقط نستحق أن ننتمي إلى عالم الأحرار، أولئك الذين يرون في الفكرة المجردة، بغضّ النظر عن مصدرها، قيمةً إنسانية سامية، تستحق الدفاع عنها حتى ولو كلفنا ذلك راحة وجودنا.

ينعكس هذا الموقف النظري على واقع الحقل السياسي في مغرب اليوم، الذي يرمي إلى الهروب من حقيقة مكامن الخلل والاختلال التي أفضت إلى حالة من الاختناق العام، حيث تبدو معها الآفاق مسدودة، والمنافذ موصدة. إن المشهد الذي نعيشه اليوم لا يعدو أن يكون نتاجاً تراكمياً لعقل معرفي مستعبد ولسياسات وأنماط تدبير، تحولت معها السياسة من فضاء للتداول والنقاش العمومي، إلى ساحة للريع واصطياد الفرص .

لم يعد خافياً على أي مراقب، كيف تحولت العملية السياسية برمتها من سياسة الحقيقة التي يبنيها الحوارإلى حقيقة السياسة كوسيلة للاغتناء والترقي الاجتماعي السريع، فبين عشية وضحاها، نرى وجوهاً تطل علينا من دفاتر التحملات الحكومية والبرلمانية، لا تحمل في جعبتها سوى مشاريع شخصية ضيقة، تهدف إلى تأمين مواقعها وترسيخ نفوذها. لقد أصبحت السياسة تجارة رابحة، وسوقاً للمقايضات والمساومات، حيث تُباع المبادئ وتُشترى الذمم، في لعبة محكمة لا يدخلها إلا من امتلك رأس المال السياسي أو الاجتماعي أو العائلي المناسب.، حيث طغت المصلحة الخاصة الضيقة على المصلحة العامة.

وهنا يظهر العبيد للتعبير عن وفائهم وإخلاصهم لسيدهم، بتوظيف الثقافة أوعدد من المحسوبين عليها، والإعلام بكل أنواعه، كأداة في الصراع السياسي. حيث تتحول العديد من المنابر الإعلامية، والكتابات والقنوات بدلاً من أن تكون صوتاً للحقيقة ومراقباً للسلطة، إلى بوق للدفاع عن الاستبداد والسياسات الرسمية، ومهاجمة كل صوت حر وشريف يجرؤ على انتقاد الوضع القائم. فيتم تسليط هذه الآلات الإعلامية، مدفوعة الثمن، على كل من يخالف التيار، باتهامات جاهزة، أبرزها الخيانة والعمالة لجهات خارجية، في محاولة لتعطيل رسالتهم وتسفيه آرائهم، مما يخلق مناخاً من التخويف والترهيب الفكري.

وفي المقابل، يتحرك عقل العبودية والاستعباد لتلميع صورة الفاسدين والمرتشين ومحتكري الثروة، وتقديمهم على أنهم “المنقدون” و”رواد التنمية”، في محاولة لغسل أدمغة الناس وشرعنة نهب المال العام وترسيخ ثقافة الإفلات من العقاب. إن هذه الآلية الخطيرة تساهم في تدني مستوى الأخلاق العمومية، وتقتل أي أمل في إصلاح حقيقي، لأنها تشجع على الاستمرار في نفس المنهجيات الريعية.

لا شك أن مخاطر هذا الوضع الكارثي، الذي يراه العبيد ويرفضون الاعتراف به، لا تقتصر على الجانب السياسي فحسب، بل تمتد إلى جميع القطاعات الحيوية للدولة. فالاقتصاد الوطني يعاني من اختناقات حادة بسبب هيمنة الأوليغارشيات والاحتكارات، وهي السيد الآمر، والتي تخنق المنافسة الحرة وتصادر فرص الشباب في الإبداع. والمجتمع تتسع فيه هوة الفقر والتهميش، التي يراها العبيد مشاريع تنموية رغم أن الواقع الصارخ يفضح كل يوم تردي الخدمات الأساسية كالصحة والتعليم، والتفاوت المجالي، وهو ما يغذي مشاعر الإحباط والسخط، ويهددان بالانفجار في أي لحظة.

إن الخلاصة النظرية والعملية تكمن في الانهاء نظريا مع معرفة وأخلاق العبيد، والاعتراف بأن البلاد تعيش أزمة نظام ونظام أزمة، بحيث لا يمكن تجاوزهما بترقيعات سطحية أو إصلاحات شكلية. فالدواء الناجع يكمن في إصلاح جذري وشامل، يبدأ من القطع مع ثقافة الإفلات من العقاب، ويفتح باب محاسبة كل من تسول له نفسه العبث بالمقدرات العامة. كما أن تمكين المواطنات والمواطنين من آليات تدبير شفافة ونزيهة، بعيداً عن آفات المحسوبية والزبونية والقرابات العائلية والمالية، هو المدخل الحقيقي لاستعادة الثقة وبناء مستقبل أفضل.

ختاماً، أقول إن مستقبل هذه الأمة لا يبنى بترسيخ نظام العبودية والاستعباد، ولا بيد مغلولة في الفساد، ولا بعقل يقدس الباطل، ولا بلسان مغلق في وجه حق، ولا بفكر مستلب يرفض النقد. إنما يبنى بإرادة شجاعة، تتجه صوب غد أفضل، حيث تكون الكلمة العليا للجهر بالحقيقة والاستناد للقانون، والعدل الاجتماعي، والكرامة الإنسانية.

شارك هذا الموضوع

عبد الرحمان الغندور

كاتب وناشط سياسي مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!