إنزال إيراني فاشل في بيروت
أحمد مطر
يشهد لبنان في هذه الأيام حدثاً سياسياً يثير ضجة واسعة على المستويين الداخلي والخارجي، يتمثّل في زيارة أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، علي لاريجاني، إلى بيروت. ورغم أن الزيارة أدرجت رسمياً في الإطار الدبلوماسي، فإن توقيتها وطبيعة الرسائل التي حملتها جعلاها تبدو، في نظر شريحة واسعة من اللبنانيين، أشبه بمحاولة تدخّل مباشر في القرارات السيادية اللبنانية، في ظل ظرف داخلي وإقليمي معقد.
تتزامن زيارة لاريجاني مع احتدام النقاش الداخلي حول تنفيذ قرار الحكومة اللبنانية، برئاسة الدكتور نواف سلام، القاضي بنزع سلاح حزب الله خلال فترة زمنية محددة. هذا القرار، الذي يمثّل خطوة جريئة في مسار تعزيز سلطة الدولة، يقابل بموقف إيراني صريح رافض، عبّر عنه أكثر من مسؤول في طهران. وبذلك، تحمل الزيارة بُعداً يتجاوز المجاملة الدبلوماسية، لتتحوّل إلى رسالة سياسية واضحة المعالم، حيث إيران تعتبر نفسها طرفاً مقرّراً في ملف السلاح في لبنان .
المفارقة أن هذا التوقيت يتزامن أيضاً مع ارتفاع حدّة المواجهة السياسية بين واشنطن وطهران في المنطقة، بدءاً من الملف النووي، مروراً بالوجود الإيراني في اليمن والعراق، وصولاً إلى ساحة لبنان التي لطالما اعتُبرت ورقة ضغط إيرانية في أي مفاوضات إقليمية أو دولية .
أظهرت وقائع جولة رئيس مجلس الأمن القومي الإيراني علي لاريجاني، على المسؤولين اللبنانيين، شرخاً كبيرا في العلاقات اللبنانية الإيرانية، وبعدا شاسعا في سياسات ومواقف الدولتين عن بعضهما البعض، ولم يسعف الزائر الإيراني، أسلوب تصنع وتوزيع الابتسامات الصفراء، في إخفاء برودة وجفاء لقاءاته، بعدما سمعه من مواقف عالية السقف، رافضة للتدخل الإيراني بالشؤون الداخلية، وأراد بعد لقائه مع رئيس المجلس النيابي نبيه بري، إعطاء انطباع بالعلاقات التاريخية الجيدة التي تربط بين لبنان وإيران، مؤكداً أن بلاده تحرص على أن تكون دول المنطقة مستقلة، وترفض أن توجه إملاءات أو جداول من وراء المحيطات، مستحضرا ضرورة قيام حوار بين المعنيين للخروج بقرارات صائبة، وناصحا بالحفاظ على المقاومة، ليخلص إلى القول بأن حزب الله حمى لبنان من إسرائيل.
وعموماً، منذ نهاية الحرب الأهلية، شكّل لبنان في نظر طهران جزءاً من شبكة نفوذ إقليمية تعتمد على تحالفات عسكرية وسياسية، وفي مقدمتها حزب الله. وفي المقابل، ترى الولايات المتحدة وحلفاؤها أن هذا النفوذ الإيراني يهدّد استقرار الدولة اللبنانية ويحول دون استقلال قرارها. بالتالي، فإن زيارة لاريجاني لا يمكن فصلها عن هذا الصراع الأكبر. فهي تأتي في إطار سباق محموم بين القوى الإقليمية والدولية على توجيه بوصلة القرار اللبناني. فبالنسبة لإيران، يمثل حزب الله عنصراً أساسياً في استراتيجيتها الدفاعية والهجومية على السواء، بينما ترى الحكومة اللبنانية ومعظم المجتمع الدولي أن حصر السلاح بيد الدولة هو الطريق الوحيد لضمان الاستقرار .
مواقف لاريجاني أظهرت تبني إيران لمواقف الحزب، من رفضها لورقة المبعوث الأميريكي توم باراك بالتلميح إلى الإملاءات والجداول الزمنية، ولكن من دون تسميتها بالاسم، كما بالاعتراض الضمني على قرار الحكومة اللبنانية، بحصر السلاح بيد الدولة وحدها، واصرارها على إبقاء السلاح بيد الحزب، مع النصح المبطن باعتماد الحوار، لإعادة النظر بالقرار المذكور، للتوصل إلى قرارات تكون صائبة بمفهوم بلاده لم تخفٍ إشادة لاريجاني بالشعب اللبناني والمقاومة، بمواجهة إسرائيل، وقائع مهمة ومتغيرات سياسية وميدانية، جراء قيام الحزب بحرب الإسناد ضد إسرائيل، بإيعاز إيراني، والتسبب بإعادة احتلال إسرائيل لأراض لبنانية، كانت محررة، وتدمير مناطق وقرى ومنازل على طول الحدود اللبنانية وبالداخل اللبناني، واستمرارها بملاحقة عناصر الحزب وتدمير مراكزه، من دون أن يستطيع الرد عليها، حتى في خضم زيارته للبنان، فيما كان جوابه السطحي عن مساهمة إيران بالممكن، بإعادة الإعمار، أبلغ مؤشر عن انكفائها عن تقديم المساعدات المطلوبة، لإعادة إعمار ما تسببت بها سياساتها الداعمة للحزب، من خراب ودمار واسع النطاق، وإلقاء مهمة إعادة الإعمار على عاتق الدولة اللبنانية.
لم تكن هذه الزيارة سابقة من نوعها. فقد درجت طهران على التعليق على القرارات اللبنانية الداخلية وخصوصاً تلك المتعلقة بالأمن والدفاع، وكأنها شأن إيراني داخلي. هذا السلوك عزّز الشعور لدى كثير من اللبنانيين بأن بلادهم أصبحت رهينة لأجندات إقليمية، وأن القرار السيادي غالباً ما يتم تجاوزه أو تقويضه لصالح مصالح خارجية،
ختامًا، إن لبنان بتاريخ نضاله من أجل الاستقلال ورفضه للوصاية، يقف اليوم أمام تحدٍّ مصيري: إما أن يتمسّك بحقه في اتخاذ قراراته بحرية كاملة، أو أن يظل ملعباً لتصفية الحسابات بين قوى إقليمية ودولية.
زيارة لاريجاني كشفت حجم التحدّي، لكنها في الوقت ذاته أظهرت أن هناك فرصة لتوحيد الصفوف حول مشروع دولة قوية مستقلة، سلاحها بيد مؤسساتها الشرعية وحدها، وقرارها ينبع من إرادة شعبها وبين مطرقة النفوذ الإيراني وسندان الضغوط الدولية، يظل الخيار أمام لبنان واضحاً: سيادة كاملة أو تبعية دائمة.
الخلاصة: السلاح الذي كان أيقونة في زمنٍ انقضى، صار في هذا الزمن عبئاً ثقيلاً على حامليه قبل غيرهم، وعبئاً على أوطانهم قبل عدوّهم، وهذا ليس في لبنان وحده وإنّما في أكثر من مكان، وغزة نموذجًا.
