اختلاف الرؤية وتجديد الأساليب الشعرية في ديوان “.. ودثرتني”

عبد النبي بزاز
يزخر ديوان الشاعر المغربي عبد الحق بن رحمون “.. ودثرتني” بميزات دلالية ورمزية متعددة تنتظمها موضوعات متنوعة تخلع على المتن الشعري بعدا تعبيريا، وعمقا جماليا من خلال ما تضمنه من أدوات بلاغية وإيقاعية، وأساليب شعرية تتغيا أنماط خلق، وضروب ابتكار موسومة بطابع التفرد ، واختلاف يروم التجديد والتغيير بدل الاتباع والاقتفاء. وإن كانت نصوص الديوان لا تخضع لنظام النَّظْم داخل قالب إيقاعي معروف فإنها لم تخل من خلق إيقاع خاص طالعنا من أول نص “قارئة السماء” المنتهي بقافية تتشكل من نون وألف: “بدائرة الوجود سماؤنا قريبة منا تحادي جبالنا ” ص5، وكاف مشبعة في: “على مهل ُأقَبِّلُكِ وعلى مهل ُأعَانِقُكِ” ص5، وفي تكرا ر لحرف العين: “وما حوله يَلْمَعُ ويُسْمَعُ” ص 24، والدال المعجمة والقاف: ” وكل وجه عذب ذاق القلب العذب” ص 51، في متوالية وتوال أكسب التعبير الشعري جَرْسا داخليا َنوَّع من طبيعة إيقاعه (خارجيا وداخليا)، وما نجم عن ذلك من تتابع التاء في قوله: “وإذا جئتُ إلى مقامه كتبتُ، بكيتُ، سَمَوْتُ، مَحَوْتُ، َرسَمْتُ، عَزَمْتُ، نِمْتُ، شَطًحْتُ، وحَلمْتُ…” ص 102، بنبرة منح تكرارها الأسلوب الشعري إيقاعا جوانيا داخل نسق مطبوع بسمة من استرسال وانسياب. والعنصر البلاغي الذي تشكل من طباق: “حالك تارة .. وأبيض أخرى” ص 58، في: حَالِك وأبيض، وهابط وصاعد: “هابطا / صاعدا ” ص 75، والقريب والبعيد: ” أنا القريب البعيد” ص97. وتشبيه مقترن بأداة الكاف: “يحومان كطائرين” ص 22 ، أو منفصل عنها: “وأنت شلال من رقصات الماء العذب” ص 51، وما أضفته على النصوص الشعرية من مسحة جمالية، وبُعْد دلالي لا يخلو من رمزية متعددة المرامي والمناحي. وارتباطا بعُنْصَرَيْ الإيقاع والبلاغة يهيمن الجانب المجازي على الكثير من النصوص نذكر منها ما ورد في “قارئة السماء”: “نمت شمس كأنها الشوق مبثوثا على خاصرة الأزل” ص 8، فنمو الشمس اقترن بتشبيهها بشوق مبثوث على خاصرة الأزل وهو استعمال مجازي تمثل في ربط الشمس بالنمو، وتصوير الأزل، كزمن لا محدد ولا محدود، يحضر في مشهد مفتوح على شتى رؤى القراءة والتناول والتأويل، وتحويل الإشارة إلى لباس: “ودخلتها مرتديا الإشارة” ص 11، و سكب النهر في مجرة، وتقليد الليل وساما: “أسكب النهر في مجرة، أم أقلد الليل الوسام” ص 13، وتغدو للأيام سوالف: “ألعب تحت سوالف الأيام” ص 17، ويتحول الإنسان إلى سحابة ممطرة في الغياب: “فأنا كنت سحابة أمطرت في الغياب”. ص 17، ويتخذ من سطر الكتاب متكئا: “وأتكئ على سطر من كتاب حنانك” ص 53، في تقاطع مع خلق صور ذات فرادة تعبيرية في الصياغة والتشكيل كما يتجدد في قوله: “النورانسكب في كأس الوجود” ص28، “والوجدان شجرة تنبت وتأكل ثمارها ” ص 29، لتتعاقب الاستعارات، في استعمال مجازي، مضفية على نصوص المجموعة مسحة جمالية، وعمقا دلاليا، حيث نقرأ: “شجر يطل على بدايتي هكذا طوت الطيور ملامح المطر” ص 47، فهذا التمازج بين فعل موزع بين الشجر والطيور والمطر. في صور تشذ عن المألوف، وتنعتق من ربقة السائد والمُتَّبَع فتنخرط كائنات كالشمس في الكلام: ” قالت الشمس: أعرني كتفك” ص 53، والجبل: “سألت الجبل يوما إلى أين ستؤول بعد أن نفنى؟” ص57، بتأسيس حوار مختلف ومنزاح تطلب فيه الشمس استعارة كتف الإنسان، ويُسْأَل الجبل عن مصيره بعد الفناء، ليتم توجيه السؤال للطيور: “يغيب الطير نحو المرعى قلت: أين تغني وأين تخفي المزمارعني؟” ص58، والغزلان التي ترسل نظرات ذات تعبير ودلالة: “غزالة رمقتك في دائرة الخضرة … ” ص59، ومن ثمة الانتقال من السؤال وتأسيس الحوار إلى الوصف والتصوير، في تفاعل الحجر مع الماء: “تألم الحجر فازدان الماء ” ص 71. ولعل ما يصَعِّب مأمورية مقاربة الجانب المجازي في الديوان هو تعالقه وتواشجه مع فيض الاستعارات والصور التي يزخر به الديوان لذا اقتصرنا على ذكر ومقاربة نماذج منها. وارتباطا بمكونات المجموعة الشعرية وعناصرها يبرز ما هو ذاتي في علاقة الشاعر بوالديه كما في نص “الأب والأم “، حيث يقول: ” أنتما النهر العظيم متجاوران في بدني” ص 19، وما يزخر به النهر من جود وعطاء، فضلا عما يجمعه بهما من علاقة ترقى إلى مقام التماهي والاتحاد: “صورتي صورتكما. أنتما أنا”. ص 19، بِنَفَس صوفي مستلهم من نظرية الحلول والاتحاد لدى أساطين الفكر الصوفي، واسترجاع نوستالجي للحظات جمعته بهما: “وكان أبي .. سألني عن قرآن يحمله في صدره… وأمي سألتني لماذا لم أنم لثمانية أيام. ” ص 87 ، كما غاص في ثنايا التاريخ العربي القديم، نابشا في أضابيره للتذكير ببعض لحظاته المشرقة، ومحطاته المتوهجة من خلال حقبة حكمهم للأندلس: “أنهم ملوك الأندلس وأمراؤها في غرناطة وإشبيلية. ” ص 65، مشيدا بزمن فتحهم المجيد: “فتحنا الأندلس ونظرنا من بعيد من خلف المرايا ” ص 66. وموضوع الدين الذي تكرر في العديد من نصوص المجموعة في سياقات مختلفة انطلاقا من أولاها ” قارئة السماء” : “ولا ينفك عن التسبيح” ص7، والتشبيه: “كأنه آية في سورة الشعراء” ص 9، وذكر لأولياء الله وأنبيائه: “كأنه في صحبة الخَضِر”. ص 41، وقصة النبي يوسف مع إخوته الذين ادعوا أنه أكله الذئب: “لا تكن يوسف في جب الملوك، وفي قول افترى على الذئب” ص 79، مع العلم أنهم ألقوه في الجب، وهو ما تم توظيفه هنا في قالب شعري موحي ومعبر . واستخدم الشاعر كذلك عناصر من محيط الطبيعة والكون من قمر ، وشجر، ونجوم، وجبل: “يمكنني اللحاق بالقمر… بلاغة روح تقف فوق الشجر… إذ اختبأ في نجمة طويلة المدى… وجاء أبونا من بين أضلع الجبل” ص 41، وبحر: “وتطوي البحر في نسمة سهم” ص 41، وطيور: “ورأيت طائرا يحوم من خلف النور” ص43 ، وشمس: “ابتسامة الشمس له لا تفارق شجر الحور”. ص 45، في تشكيلات لصور ذات دلالات تعبيرية ورمزية بحمولات جمالية متفردة، ومعاني تستغرقها كثافة لغوية بعيدة الإيحاءات، عميقة الإشارات . كما نهلت نصوص الديوان من معجم شعري غني بمفرداته البلاغية كالاستعارة والتشبيه: “الاستعارة ليست حلا لمشكلات مسامير تطرق أدنى المائدة… وليس بالتشبيه تصطاد طريدة الشعر”. ص 76، كما تمت الإشارة إلى المعتمد بن عباد وما تعرض له من أسر على يد يوسف بن تاشفين ومعاناتاه في منفاه بأغمات التي قضى بها نحبه تحت طائلة الاعتقال: “ولا تكن ماضي المعتمد المعذب في أغمات . كن الشاعر لا الملك”. ص 80، وابن رشد الذي جمعه بالشاعر لقاءا، من نسج الخيال، بقرطبة: “عند لقائي بابن رشد في قرطبة مد لي صدر كتابه لأعانقه” ص 89، محفوفا ومتوجا بمنتوج معرفي فكري عبارة عن كتاب حصل عليه من ابن رشد المفكر.
فديوان ” .. ودثرتني” نهج مسلكا شعريا برز فيه التفرد بأشكال توزعت بين الجمالي البلاغي، والإيقاعي، والدلالي خَلَّف وخلق انطباعا لدى المتلقي تختزله رؤية شعرية تنفرد بقدرة جلية على خلق أنماط تعبيرية مختلفة، وطرائق إبداعية مغايرة.
_______________________________________________________________________________________
ــ .. ودثرتني ( شعر) عبد الحق بن رحمون ـ الناشر : الدار المغربية العربية ـ سلا 2024 .