استراتيجية الوحدة في مواجهة مخططات التجزئة
عبد الرحيم التوراني
في خضم التطورات الإقليمية الأخيرة، أحدث الإعلان الرسمي لقيام “جمهورية القبائل الاتحادية”، (أمس المصادف ليوم الأحد 14 ديسمبر 2025)، ضجيجًا كبيرًا في الفضاء الافتراضي المغاربي، خاصة بين الأوساط المغربية. لقد رصدت شاشات “الفسابكة” تحولاً سريعًا في بوصلة المشاعر، حيث أيد بعض المغاربة هذا الكيان الجديد، بدافع الابتهاج وليس بدافع قناعة سياسية، ومن منطلق الشماتة الخالصة لا الموقف المبدئي، إذ رأوا فيه فرصة لسداد فاتورة نصف قرن من النزاع.
الفكرة مغرية وجذابة.. الجزائر الرسمية، التي دخلت في صراع مع المغرب وحشدت جبهة البوليساريو على أساس مبدأ “تقرير المصير”، تجد نفسها الآن أمام منطقها الخاص، الذي يُقدّم كحقٍّ ولكنه يُستخدم كباطل ولأغراض دنيئة وحاقدة. إنه صوت “الانتقام المشروع”، وكأن القدر يُرتب الأمور لكي تتذوق الجزائر من الترياق نفسه الذي أُجبر المغرب على ابتلاع سمومه على امتداد خمسة عقود.
بغض النظر عن الدوافع العاطفية، يجب أن تسود الحكمة والمصلحة العامة. ما تشهده المنطقة اليوم، من دعوات الانفصال من طرف حركة القبائل إلى محاولات إثارة الفتنة في مناطق أخرى، ليس إلا إعلاناً صريحًا عن التورط في مناورات قديمة وجديدة معروفة.
والهدف واضح ومدمر.. منع إحياء وتفعيل اتحاد المغرب العربي، وتفتيت دول المنطقة إلى دويلات صغيرة متنازعة للسيطرة على مواردها الطبيعية (النفط والغاز والفوسفات والصيد البحري.. وغيرها). وليس من مصلحة القوى الاستعمارية الكبرى السماح بوجود تكتلات قوية ونافذة، لا سيما دول المغرب الكبير المطلة على مضيق جبل طارق والبحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي.
إن هذه المخاطر هي التي تدفع الكيانات الأجنبية، المدعومة من إسرائيل وفرنسا وغيرها، إلى لعب ورقة الانفصال، ولعل ما يحدث حاليًا في السودان وليبيا هو بالنسبة لنا أوضح مثال على ذلك.
إن الموقف المبدئي الذي ينبغي أن يتبناه المغرب وشعوب المغرب العربي هو موقف الوحدة، لا الانفصال والتفتيت والانقسام… موقف الالتزام بالسلامة الإقليمية لكل دولة، والدفاع عن مصالح شعوب المنطقة، القائمة على التعاون والتكامل…
وعليه، فإن هذا الواجب يقتضي الإعلان عن رفض قيام هذا الكيان الدخيل، ليس حبًّا في النظام الجزائري، بل التزامًا بمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية وسيادة الشعوب.
ويظل تأييد الانفصال، حتى تحت ذريعة المعاملة بالمثل، أو من باب “رد الكيل كيلين” كما يقال، ليس سوى خطوة مشرعة نحو الفوضى والكارثة.
على هذا الأساس، يحتاج القادة الجزائريون إلى رؤية استراتيجية واضحة، عوض تجديد دعمهم المستمر لجبهة البوليساريو الانفصالية ضد المغرب، عقب ظهور كيانات منفصلة داخل حدود الجزائر.
لقد عانت الجزائر أكثر بكثير مما ربحت من دعمها للبوليساريو، الأمر الذي سيؤدي في نهاية المطاف إلى سقوطها.
يجب وضع حدٍّ لهذا التشرذم، فالحل الحقيقي ليس في الابتهاج بالتفكك والتمزيق، بل في تبني موقف إنساني حازم يُعلي القيم ويحبط استراتيجية “فرّق تسد”.
أيضًا يتعين على الجزائر وقف دعمها لحركة الريف الانفصالية، بعد سحب اعترافها بجبهة البوليساريو ككيان انفصالي، إدراكًا منها أن دعم التفتيت الإقليمي يُعرّض السكان والمنطقة المغاربية للخطر.
في مواجهة هذا المشروع المثير للفتنة، يكمن الحل الوحيد للبلدين الجارين في اتفاق شامل وبدء مفاوضات مباشرة وفورية، كما نصّ عليه قرار الأمم المتحدة الأخير بشأن الصحراء الغربية.
أما تصريحات زعيم حركة (الماك) الانفصالية، فرحات مهني، بشأن كلامه عن استقلال “رمزي” للقبائل والحديث عن “مقعد في الأمم المتحدة”، فلا تعدو كونها تصريحات مكتوبة بمداد الأوهام، ولا تمت للواقع الجيوسياسي بصلة.
يجب على فرحات مهني أن يدرك أن المنطقة المغاربية لن “تفرح وتتهنى”، ولن تعيش الاستقرار ولا الرخاء، بوجود كيانات وهمية مبنية على التفتيت والتجزئة والانقسام. إن طموح هذه الكيانات الأجنبية في أن تصبح “عاملاً للاستقرار والأمن والتعاون الاقتصادي الدولي”، يتناقض تناقضًا صارخًا مع طبيعتها التدميرية. فالاستقرار يؤسس ويبنى على الوحدة الوطنية والسيادة الكاملة لدول المنطقة القائمة، لا على تفكيكها.
إن المنطقة ترفض أن تصبح ساحة تجارب للمشاريع الانفصالية، التي تستغل لحظات الضعف. لذا يجب على فرحات مهني، من خلفه، أن يكفّوا فورًا عن استغلال الانقسامات في المغرب الكبير، ولا سيما الصراع الجزائري المغربي، وعن استخدام الخلافات الإقليمية لخدمة أجندات التفتيت.
إن أي محاولة لإنشاء كيانات مصطنعة لن تؤدي إلا إلى زيادة التوترات في المنطقة وتأخير بناء وحدة المغرب الكبير، التي تمثل ضمانة حقيقية للأمن والازدهار لشعوب المنطقة بأكملها.
لذلك، تتطلب المسؤولية التاريخية من كلا البلدين مواجهة أي محاولة للانفصال والعمل معًا لمنع أي تصعيد قد يؤدي إلى تدخل أجنبي أو حروب أهلية مدمرة.. لأن الوحدة والتوافق هما السبيلان الوحيدان لتمكين المغرب والجزائر من أن تصبحا قوة إقليمية حقيقية.. قوة قادرة على حماية مصالح وازدهار شعبيهما، بدلاً من الانخراط في صراعات داخلية تخدم مصالح القوى العظمى.
