الأمن الغذائي في المغرب: التحديات.. الفرص والمستقبل

عبدالواحد غيات
يُعتبر الأمن الغذائي من أهم القضايا الاستراتيجية التي تواجه المغرب في ظل التحولات الاقتصادية، البيئية، والديموغرافية المتسارعة. فالبلد يعاني من هشاشة في القطاع الزراعي، شح في الموارد المائية، واعتماد كبير على استيراد المواد الغذائية الأساسية. كما أن الأزمات العالمية المتعاقبة، مثل الحرب الروسية الأوكرانية وجائحة كورونا، زادت من تعقيد المشهد. في هذا المقال نستعرض واقع الأمن الغذائي في المغرب، التحديات التي تواجهه، ودور التكنولوجيا والعدالة الاجتماعية في تعزيز السيادة الغذائية.
مفهوم الأمن الغذائي العالمي
يُعرّف الأمن الغذائي العالمي بأنه قدرة جميع شعوب العالم على الوصول الدائم إلى غذاء كافٍ وآمن ومغذٍ لتلبية حاجاتهم الغذائية وضمان نمط حياة صحي ونشط. ويتضمن هذا المفهوم أربعة أبعاد رئيسية هي توفر الغذاء، الوصول إلى الغذاء، استخدام الغذاء و استقرار الغذاء.
واقع الأمن الغذائي المغربي: هشاشة وتحديات
تشكل الزراعة في المغرب حوالي 14% من الناتج المحلي الإجمالي، ويعمل فيها نحو 40% من القوة العاملة، ما يجعلها قطاعًا حيويًا للاقتصاد الوطني وللاستقرار الاجتماعي، خاصة في المناطق القروية. ومع ذلك، فإن الزراعة المغربية تعتمد بشكل كبير على الأمطار الموسمية، ما يجعلها عرضة لتقلبات المناخ وموجات الجفاف، لاسيما في المناطق الجنوبية، سهل تانسيفت، والجهة الشرقية، التي تشهد تراجعًا حادًا في الموارد المائية.
ويُعتبر الأمن الغذائي أحد التحديات الاستراتيجية في المغرب، نتيجة عدة عوامل متداخلة، من بينها التغيرات المناخية، ندرة المياه، الاعتماد المفرط على الاستيراد، وضعف الإنتاج المحلي لبعض المواد الأساسية. ويُسجل المغرب عجزًا هيكليًا في إنتاج الحبوب، إذ يستورد أكثر من 80% من حاجياته الغذائية من القمح، الذي يمثل مكونًا رئيسيًا في النظام الغذائي للمواطن المغربي.
في المقابل، يُحقق المغرب اكتفاءً ذاتيًا نسبيًا في بعض القطاعات، مثل الخضروات والفواكه واللحوم البيضاء. إلا أن الاعتماد على الاستيراد يبقى كبيرًا في المواد الأساسية كالقمح، السكر، الزيوت واللحوم الحمراء، مما يرفع من هشاشة المنظومة الغذائية أمام الأزمات العالمية، تقلبات الأسعار، وقيود التصدير من الدول المصدّرة.
تأثير الأزمات العالمية على الأمن الغذائي في المغرب
- ارتفاع أسعار الغذاء عالمياً
شهدت الأسواق العالمية خلال السنوات الأخيرة موجات متتالية من التضخم الغذائي، مدفوعة بمجموعة من العوامل، من أبرزها: اضطرابات سلاسل الإمداد بسبب جائحة كوفيد-19، الحرب الروسية الأوكرانية، ارتفاع أسعار الطاقة والنقل، إضافة إلى التأثير المتزايد للتغيرات المناخية على الإنتاج الزراعي العالمي. هذه العوامل أدت إلى ارتفاع كبير في أسعار المواد الغذائية الأساسية على المستوى الدولي.
يعتمد المغرب بشكل كبير على استيراد حاجياته من الحبوب، خاصة من دول مثل فرنسا، أوكرانيا وروسيا. وقد تسبب النزاع بين روسيا وأوكرانيا، وهما من أبرز الفاعلين في سوق الحبوب العالمي، في اضطرابات كبيرة في سلاسل التوريد وارتفاع أسعار القمح على الصعيد الدولي. هذا الوضع أدى إلى زيادة تكلفة الاستيراد بالنسبة للمغرب، وأبرز هشاشة الاعتماد على الأسواق الخارجية، مما استدعى ضرورة إعادة النظر في استراتيجيات استيراد المواد الغذائية وتعزيز الإنتاج المحلي لتقليل التبعية الخارجية. وفي هذا السياق، تأثرت الأسعار الداخلية بشكل مباشر بهذه الموجة التضخمية، خاصة أن البلاد تعتمد على الاستيراد لتلبية جزء كبير من حاجياتها من المواد الأساسية مثل القمح، الزيوت، السكرواللحوم الحمراء، ما أدى إلى ارتفاعات متكررة في أسعار هذه المنتجات داخل الأسواق المحلية، وزاد من الضغط على ميزانيات الأسر المغربية.
وقد كانت الفئات ذات الدخل المحدود هي الأكثر تضررًا من هذا الوضع، حيث ارتفعت كلفة المعيشة دون أن يواكبها نمو مماثل في الأجور أو فرص الشغل. هذا التآكل في القدرة الشرائية أدى إلى تفاقم مؤشرات الهشاشة الاجتماعية، وانتشار مظاهر انعدام الأمن الغذائي المحلي في بعض المناطق، خصوصًا القروية والهامشية.
- تغير المناخ وتراجع الإنتاج المحلي
يعاني المغرب من تكرار مواسم الجفاف الحاد خلال السنوات الأخيرة، حيث سجلت البلاد انخفاضًا ملموسًا في معدل التساقطات المطرية، إلى جانب ارتفاع درجات الحرارة وتزايد موجات الحرارة القصوى. هذه التغيرات المناخية باتت تؤثر بشكل مباشر على القطاع الفلاحي، الذي يعتمد في جزء كبير منه على الزراعة البعلية المرتبطة بالأمطار، خاصة في زراعة الحبوب.
نتيجة لذلك، تتراجع المحاصيل الزراعية بشكل كبير في سنوات الجفاف، مما يؤدي إلى انخفاض العرض في السوق المحلية وارتفاع أسعار المواد الغذائية الأساسية. ويُجبر هذا الوضع الدولة على اللجوء إلى الاستيراد لتغطية العجز الغذائي، خاصة في القمح، وهو ما يزيد من ارتباط الأمن الغذائي المغربي بالتقلبات المناخية والاقتصادية العالمية.
كما أن اعتماد المغرب على منظومة مائية هشة، في ظل ندرة المياه وتراجع منسوب السدود، يزيد من تعقيد المعادلة، ويطرح تحديات بنيوية أمام تحقيق الاكتفاء الذاتي. وبذلك، أصبحت الظروف المناخية عاملًا حاسمًا في استقرار الأمن الغذائي، مما يستدعي إعادة النظر في النموذج الفلاحي الوطني، وتوجيهه نحو مزيد من المرونة والتكيف مع التغير المناخي.
- المنافسة العالمية على الموارد
في فترات الأزمات الدولية، مثل الجائحة الصحية أو النزاعات الجيوسياسية، تشهد الأسواق العالمية توتراً حاداً في سلاسل الإمداد الغذائي، مما يدفع العديد من الدول، خصوصاً القوية اقتصاديًا والغنية بالموارد، إلى التحرك السريع عبر عقود شراء ضخمة واستباقية لتأمين حاجياتها الغذائية لعدة أشهر أو حتى سنوات.
هذا السلوك التجاري، وإن كان مبرراً من زاوية السيادة الوطنية، يؤدي إلى خلق منافسة غير متكافئة في السوق العالمية، حيث تجد الدول النامية مثل المغرب نفسها في موقع ضعف، غير قادرة على مجاراة الأسعار المرتفعة أو الدخول في صفقات طويلة الأمد بنفس الشروط التفضيلية.
ونتيجة لذلك، يُصبح من الصعب على هذه الدول ضمان التزود المنتظم بالمواد الأساسية، خاصة في ظل تقلبات الأسعار وتراجع العرض العالمي. ويُفاقم هذا الوضع هشاشة الأمن الغذائي المحلي، ويجعل الاقتصادات النامية أكثر تعرضًا لصدمات خارجية، سواء من حيث الكلفة أو الوفرة.
وفي حالة المغرب، الذي يستورد جزءاً مهماً من حاجياته من القمح والسكر والزيوت واللحوم الحمراء، فإن هذا الخلل في موازين القوة التجارية يقيده في خياراته الاستراتيجية، ويجعله عرضة لتغيرات السوق، وقرارات التصدير أو الحظر من قبل الدول المورّدة.
التضخم بين العوامل الداخلية والتقلبات الخارجية
ورغم تدخل الدولة عبر آليات الدعم الاجتماعي كصندوق المقاصة، تظل ظاهرة التضخم في المغرب مركّبة، إذ تجمع بين تضخم داخلي ناتج عن اختلالات هيكلية في الاقتصاد الوطني، وتضخم مستورد مصدره تقلبات الأسواق العالمية.
فمن جهة، أدى ارتفاع أسعار النقل، والمواد الأولية، والمواد الفلاحية داخل السوق المحلية إلى تفاقم التضخم الداخلي، مثل ضعف الإنتاج الوطني في بعض القطاعات الحيوية، الاحتكار والمضاربة في سلاسل التوزيع والعجز عن تطوير منظومات لوجستية.
ومن جهة أخرى، ساهمت الاضطرابات الدولية (كالحرب في أوكرانيا، تقلب أسعار المواد الأولية، وتراجع قيمة الدرهم مقابل العملات الأجنبية) في تسريع التضخم المستورد، خاصة في المواد الغذائية والطاقية، مما زاد من ضغط الأسعار على المستهلك المغربي.
هذا الوضع أثقل كاهل المواطن المغربي ووضع الدولة أمام معادلة اقتصادية صعبة، من جهة حماية القدرة الشرائية للفئات الهشة والمتوسطة، ومن جهة أخرى ضمان توازن المالية العمومية في ظل ارتفاع كلفة الدعم وضعف الموارد.
جهود المغرب لمواجهة التحديات: “المغرب الاخضر” شعارات واعدة ونتائج غير منصفة
أدرك المغرب منذ سنوات خطورة الاعتماد المفرط على السوق العالمية، لذلك تبنى عدة استراتيجيات من أبرزها ” مشروع المغرب الأخضر”، فرغم مرور أكثر من عقد على إطلاقه، سنة 2008، ورغم المبالغ الضخمة التي رُصدت له، لم يُحقق الأهداف المنتظرة منه بشكل عادل أو مستدام خاصة على المستوى الاجتماعي والبيئي.
يمكن القول إن مشروع “المغرب الأخضر” كان طموحًا في شعاراته، لكن غير منصف في نتائجه، فقد استفاد منه كبار المستثمرين على حساب صغار الفلاحين، وركز على التصدير بدل ضمان السيادة الغذائية، وأسهم في استنزاف الموارد الطبيعية. . فيما يلي توضيح لهذه الرؤية:
- كلفة مالية كبيرة مقابل أثر محدود اجتماعيًا
- استمرار الفوارق المجالية والاجتماعية
- دعم الفلاحة التصديرية على حساب الأمن الغذائي
- استنزاف الموارد الطبيعية
- غياب المقاربة التشاركية
- غياب مؤشرات تقييم حقيقية
ويبقى الأمل اليوم في مخطط الجيل الأخضر (2020–2030) لتصحيح المسار، شريطة أن يُبنى على العدالة الاجتماعية، المشاركة الفعلية، والبيئة المستدامة.
مداخل لتعزيز الأمن الغذائي بالمغرب
لمواجهة التحديات، يجب اعتماد عدة سياسات واستراتيجيات، من بينها:
- تنويع مصادر الاستيراد لتقليل المخاطر الناتجة عن الاعتماد على عدد محدود من الدول.
- حماية السوق الوطني عبر سياسات حصص وقيود على الواردات.
- تكوين مخزون استراتيجي لتفادي نقص المواد الغذائية.
- تعزيز إنتاج الحبوب والبقوليات والتركيز على الاكتفاء الذاتي.
- تطوير البنية التحتية الزراعية وشبكات الري.
- الاستثمار في البحث والابتكار الزراعي لتحسين الإنتاج الزراعي وزيادة كفاءته.
- دعم صغار الفلاحين ومراعاة العدالة الاجتماعية لضمان توزيع عادل للثروة والفرص الزراعية.
تحديات الموارد المائية: إدارة مستدامة ضرورية وأفكار مستقبلية
نظرًا لشح المياه، فإن تحسين إدارة الموارد المائية يمثل حجر الزاوية في تحقيق الأمن الغذائي. ويشمل ذلك ترشيد استهلاك المياه، تطوير أنظمة ري حديثة، وحماية المياه الجوفية، إضافة إلى استكشاف مصادر مياه بديلة مثل تحلية المياه.
في ظل التحديات البيئية والاقتصادية، يبقى تحقيق السيادة الغذائية بالمغرب هدفًا حيويًا لكنه يتطلب التزامًا قويًا من مختلف الفاعلين. الاستثمار في التكنولوجيا الزراعية والابتكار، مع مراعاة العدالة الاجتماعية، يمكن أن يخلق نظامًا زراعيًا مستدامًا ومرنًا.
على المغرب أن يوازن بين تنمية الإنتاج المحلي، إدارة الموارد الطبيعية بحكمة، وتمكين الفلاحين، ليضمن غذاءً كافيًا ومغذيًا لجميع مواطنيه. المستقبل مرتبط بخطوات اليوم، ومدى قدرة الجميع على التعاون لبناء منظومة زراعية وطنية قوية.