الاتحاد الاشتراكي: نهاية أسطورة وبداية الفناء

الاتحاد الاشتراكي: نهاية أسطورة وبداية الفناء

عبد الرحيم التوراني

          يُمثل المسار الحالي لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بقيادة إدريس لشكر، حالة دراسية نقدية معمقة في تحول الأحزاب التاريخية من قلاع للمعارضة الأيديولوجية إلى كيانات براغماتية فقدت بوصلتها الأخلاقية والسياسية… هنا محاولة تسعى إلى تفكيك وتشريح هذه الأزمة، بدءًا من عزلة “القائد” في مواجهة الانتقادات، مرورًا بالتكوين المزدوج لشخصيته، وانتهاءً بمصير الحزب ونهايته ككيان مُستنزف

عزلة وتآكل بنيوي

تتصدر المشهد السياسي اليوم صورة الكاتب الأول إدريس لشكر وهو يواجه، بمفرده تقريبًا، عواصف الهجومات المتكررة التي تثار حول مواقف الحزب في الأعوام الأخيرة، خاصة فيما يتعلق بعدد من الملفات المثيرة للجدل… لكن وراء هذه المواجهة الظاهرية، يبرز مشهدٌ أشد قتامة، يتمثل في غياب أي إسناد حقيقي من النخبة التي يفترض أن تشكل عمقه التاريخي والسياسي، ممن يمكن تسميتهم تجاوزًا بـ الحرس القديم” أو “حاشية الوجبات الساخنة”.

يكمن الخطر في أن هذه العزلة القيادية ليست انعكاسًا لقوة فردية خارقة، بل لتآكلٍ بنيوي أصاب التنظيم من الداخل. لكنه لا يُشار دائما إلى هذه الأسماء البارزة، مثل محمد محب، وإبراهيم الراشيدي، وعبد الكبير البزاوي، ومحمد شوقي، ولحسن الصنهاجي، ومحمد المريني مع زوجته السعدية السعدي، ومصطفى المتوكل الساحلي...، لا يشار إلى هاته الأسماء في خضم الأزمات القوية المتلاحقة، لأن هؤلاء مع آخرين من قدماء الاتحاديين، فقدوا تأثيرهم الذاتي الحقيقي وأصبحوا مجرد أثاث لمشهد تخاذلي مكشوف، يرفل اليوم في نعيمه المخزني الكاتب الأول.

تباينت دوافع بقاء هذه النخبة، فبعضهم استعصت عليه مفارقة الحزب لأسباب ذاتية وعاطفية باهتة، لا تقوى على مواجهة المصالح، لكن الأغلبية الساحقة تنتظر ما ستجود به عليهم إكراميات لشكر السخية من مناصب ورشاوى امتيازية، مما حول هؤلاء من قادة سابقين، يفترض بهم الدفاع عن المبدأ، إلى مستفيدين صامتين. لقد تحول ولاء المبدأ إلى ولاء المنفعة الرخيص، وبذلك ضحى إدريس لشكر بعمق التفاعل السياسي والديمقراطي داخل التنظيم، مقابل السيطرة المطلقة على هذا الفضاء المؤثث بأسماء لم تعد تحمل إلا تاريخها القديم.

 هذه السيطرة المطلقة هي التي مكنته من دفع الحزب إلى مسار التبعية للسلطة التنفيذية دون معارضة داخلية تذكر، مما عزز من انغلاق دائرة القرار وأسهم في تدهور صورة الاتحاد أمام الجماهير.. بوصول التآكل إلى نهايته التراجيدية في حزب الاتحاد الاشتراكي تحت قيادة إدريس لشكر، انتهت اللعبة بتحويل الحزب إلى كيان مغاير. فقد جاء لشكر إلى زعامة الاتحاد في ظروف ملتبسة ومثيرة للجدل، خاصة في صلته بحزب “البام” والمتحكم فيه وقتها إلياس العماري، واستمر لشكر يتربع على سدة الحزب على مدى أربع ولايات متتالية، مكرسًا ظاهرة الزعامة الأبدية. وبدلًا من الحفاظ على الإرث النضالي والفكري، الذي أنجبه مفكرون كبار مثل محمد عابد الجابري ومحمد جسوس وغيرهما من المثقفين الاتحاديين، تحوّل الحزب إلى هيكل يفتقر إلى العمق الإيديولوجي، ويعتمد على القبضة الحديدية لتصفية المعارضة الداخلية، مُكملاً بذلك فصول التشييع للإرث النضالي ودافعًا بالحزب إلى خانة الموالاة المقنعةالتي ابتعدت عن جوهر اليسار التاريخي.

هكذا أصبح الاتحاد أداة في يد مراكز القوى الجديدة، ما يفيد فقدان الحزب لاستقلاليته التاريخية في صناعة القرار السياسي، وتحوله إلى شريك يسعى للمحافظة على مواقعه ضمن خريطة سياسية جديدة ومُعاد تشكيلها.

من الرمزية إلى البراغماتية الصارمة

إن فهم المآل الحالي للحزب يتطلب تشريحًا دقيقًا لشخصية من يتربع اليوم فوق رأسه، إدريس لشكر، الذي يواجه سيل الانتقادات التي عمت فضاءات التواصل الاجتماعي، خاصة بعد تشبثه بالاستمرار على رأس الحزب للولاية الرابعة على التوالي… إن المفارقة ليست مجرد رد فعل، بل هي إدانة مباشرة لحزب كان في طليعة المدافعين عن التحرر والديمقراطية والعدالة والمساواة.

يستبعد من يعرفون عن قرب إدريس لشكر، أن تكون هذه الضربات العنيفة تؤرق أبو خولة فعليًا. فالكاتب الأول سرعان ما يتخلص من توتره ومن غضبه تجاه هكذا “قلاقل” عابرة، لأنه اشتغل من قديم على ترويض مشاعره، مثل أي حيوان سياسي مفترس، ينفض عن كتفيه غبار كل انتقاد أو عنف كلامي. يمتلك قدرة هائلة على المضي قدمًا نحو هدفه (الافتراسي) كمن لا يرى ولا يسمع… هذا الترويض الذاتي مكنه من تبني استراتيجية طويلة الأمد لتحقيق الهدف الضيق الذي ناله ووصل إليه، وهو هدف يُغلّب المصلحة الشخصية على مصالح التنظيم والوطن والشعب.

بتوضيح للخلفية المعتمة، سنجد أن  إدريس لشكر تلقى تربية نفسية وإيديولوجية صلبة في مدرسة معلمه اليازغي، الموصوفة من طرف الخصوم الداخليين بالمدرسة “التآمرية”. وهو ما أسس لقدرة لشكر على المناورة وتغليب الهدف الخاص على العام. إن اقترابه من محمد اليازغي ليس صدفة، بل بدأ منذ كان صغيرًا، وتجسد في موقف رمزي بالغ الأهمية، عند تطوع التلميذ إدريس لشكر لحراسة اليازغي في المصحة التي تلقى فيها اليازغي العلاج بعد إصابته بالطرد الملغوم سنة 1973، حيث قام لشكر بدور الحارس (الفيدور)، مما يعكس ولاءً شخصيًا متطرفًا تحول لاحقًا إلى درس في التخطيط والوصول.

وعقب حصوله على شهادة الإجازة في الحقوق، خدم إدريس لشكر سنتين في “الخدمة المدنية” في مكاتب وزارة الداخلية، وتحديدًا تحت إمرة عبد العزيز علابوش المسؤول الأساسي في جهاز مخابرات “الديستي” على عهد الوزير القوي إدريس البصري.

هذا التكوين المزدوج، بين التعميد الأيديولوجي في الحزب، والخبرة الإدارية في قلب جهاز السلطة، منح إدريس لشكر أدوات براغماتية صلبة أسست لشخصيته القيادية اللاحقة، حيث أتقن فنون العمل خلف الستار والكواليس وإدارة العلاقات مع أجهزة الدولة.

عض اليد المبتورة:

عندما وجد لشكر نفسه عاطلًا بعد نهاية تجنيده المدني، أنقذه محمد اليازغي ووظفه في مداومة الحزب بالمقر الرئيسي بالعاصمة في حي أكدال. ورغم أن اليازغي حاول لاحقًا إعادته إلى فلكه المهني عبر مكتب محاماة مشترك، اختار لشكر القرب السياسي على المنفعة المادية الأكبر التي عرضها عليه المحامي الاتحادي محمد بوزبع، الذي تولى منصب وزارة العدل في حكومة التناوب.

لاحقًا ستتضح حقيقة هذا الاختيار بجلاء، عندما لم يتردد لشكر في عض يد اليازغي (المبتورة الأصابع بسبب الطرد الملغوم)، ليرغمه على توقيع استقالة مكتوبة من منصبه ككاتب أول للحزب. لقد أذاق إدريس لشكر زعيمه ومعلمه من نفس الكأس التي كان محمد اليازغي يعد بها ترياقًا قاتلًا لخصومه.

هذا الانقلاب يوضح أن الهدف الضيق الذي سعى إليه إدريس لشكر كان هدفًا شخصيًا محضًا، يغلب المصلحة الشخصية على مصالح التنظيم والوطن والشعب، مُثبتًا أن البراغماتية تتفوق على أي ولاء سابق.

لم تتوقف براغماتية لشكر عند حدود الصراع الداخلي، بل امتدت لتوريط الحزب في قضايا تمس الأخلاق العامة والقيم النضالية التي طالما دافع عنها الاتحاد الاشتراكي، مما أدى إلى تآكل الثقة الجماهيرية.

ومن سجل هذا التوريط شبهة فضيحة مركز الدراسات الوهمي الذي تم استغلاله بـ”ذكاء” للاستفادة من المال العمومي الممنوح للأحزاب. حيث استخدم لشكر هذا “المركز”، الذي لا يملك وجودًا فكريًا أو إنتاجًا علميًا حقيقيًا يوازي الدعم المالي، كقناة للحصول على إعانات مالية ضخمة مُخصصة لـ “إعداد دراسات” لم يرَ أغلبها النور، أو لم يكن لها أي تأثير في المشهد الفكري والسياسي. هذه الممارسة تشير بوضوح إلى تحويل الدعم العمومي المخصص لتنمية الفكر الحزبي، إلى إكراميات أو مصادر تمويل غير شفافة، مؤكدة بذلك الابتعاد عن مبدأ الشفافية والمسؤولية المالية.

في مهنته كمحام، دافع لشكر عن شخصيات متهمة بتبديد المال العام، أبرزها الاتحادي خالد عليوة المتهم باختلاس وتبديد أموال القرض العقاري والسياحي (السياش)، وشكّل لشكر لجنة حزبية للتضامن معه. هذا السلوك لم يكن نابعًا من “نصرة للأخ”، بل لحاجته للمثقف والمنظّر خالد عليوة إلى جانبه، حيث وفر له الحماية الحزبية و”الحرية غير المؤقتة”، مما يمثل صفقة سياسية واضحة ترهن التنظيم لمصالح فردية، وتضرب عرض الحائط بتاريخ الحزب في مكافحة الفساد.

كما تولى لشكر ملفات التعاضدية العامية لموظفي الإدارات العمومية، التي كان يرأسها المدعو عبد المولى المومني… في هذا السياق، تم توظيف بعض أتباع لشكر في التعاضدية رغم نقص كفاءة جلهم. لقد انتهى “الاتحادي” عبد المولى المومني بعد عشر سنوات من الاختلالات والنهب، مطرودًا بهتافات وأهازيج وزغاريد الموظفين، في مشهد احتفالي لا يُنسى.. (لمن يرغب.. يراجع الفيديوهات المنشورة على اليوتيوب)..

المدعو عبد المولى المومني كان يستمد سطوته من محاميه ورئيسه في الحزب، ولم يكن غير إدريس لشكر، الذي كان يرعى سلوكيات عبد المولى ويتستر عليه، مما يظهر مستوى التدهور الأخلاقي داخل قيادة الحزب. وبعد طرده شر طردة من التعاضية، ألقي القبض على محمي لشكر، المدعو عبد المولى المومني، الذي لا يزال يقبع بالسجن بتهمة اختلاس وتبديد أموال التعاضدية، ولا نعلم إن كان لشكر نسي صاحبه ولم يلتفت إليه في محنته، أم سيقف للدفاع عنه لأسباب يعرفانها معا..؟!

استراتيجية الإقصاء والولاء الأعمى.. 

في سياق تثبيت سيطرته المطلقة، لم يكتف لشكر بتعزيز النخبة الموالية، بل عمد إلى تصفية أي وجود محتمل للمعارضة أو الطموح المستقل داخل المكتب السياسي، مفضلاً عناصر تضمن له الطاعة المطلقة على حساب الكفاءة والمصداقية. فقد أعد لشكر على مهل لائحة المكتب السياسي وهو متمدد فوق أريكة في قصره بطريق زعير، المجاور لقصور حكام البلد، على رأسهم فؤاد عالي الهمة.. ولم تكن هذه اللائحة نتيجة استشارات قاعدية أو خيار انتخابي ديمقراطي حقيقي، بل كانت بناءً استراتيجيًا يهدف إلى ترسيخ سيطرته. والمثير للفضيحة هو أنه أشرك في هذه اللائحة عناصر لديها ملفات شيكات بلا رصيد، من بينهم أحد القاطنين بالخارج محسوب على الزاوية البوتشيشية (الصوفية) المتورط في ملف تزعم شبكة ما يعرف بتزوير وثائق “الزواج الأبيض”.

هذا الاختيار لا يُفسر إلا بأنه تفضيل متعمد لعناصر يمكن التحكم بها أو الضغط عليها، حيث أن نقاط ضعفهم الشخصية أو المالية تضمن عدم تمردهم على القيادة.

في المقابل، مارس لشكر الإقصاء المنهجي ضد كل من عارضه أو تجرأ مرة على انتقاد تجاوزاته. وبين هؤلاء أطر وازنة وكفاءات فكرية كان الحزب في أمس الحاجة إليها، مما يؤكد أن معيار القبول في قيادة الحزب تحول من الاستحقاق والنضال إلى التبعية والضعف الممكن استغلاله.

هذه الحركة تتكامل مع إبعاد بعض الأسماء البارزة من عضوية المكتب السياسي للحزب، مثل محمد شوقي، وعبد الكبير طبيح، ويونس امجاهد، وحنان رحاب. إن هذا الإقصاء لم يكن عشوائيًا، بل يكشف عن تكتيكات لشكر المحكمة في ترسيخ السيطرة المطلقة على القرار التنظيمي، مؤكدًا القاعدة السياسية القاسية: فوق كل ذي انتهازية، انتهازي أكبر منه.

ورغم أن إبعاد يونس امجاهد قيل إنه تم بالتوافق معه تسهيلاً لعودته على رأس المجلس الوطني للصحافة، حيث يؤكد قانونه التنظيمي المنتظر على إبعاد الرئاسة عن المتحزبين، فإن هذه “الصفقة التوافقية” لم تمنع من أن تلقي فضيحة التسريبات المصورة عن لجنة أخلاقيات المجلس (التي كان يرأسها امجاهد) بظلالها الثقيلة وأضرارها المباشرة على حزب لشكر. وهكذا يتحول الإقصاء الظاهري إلى مناورة مزدوجة، حيث يضمن التخلص من طموح محتمل داخل المكتب، ويتم في الوقت نفسه، التضحية بالمصداقية التنظيمية لصالح ترتيبات تتجاوز حدود الحزب.

 يفيد خبير مقرب من الدائرة إياها بأن إدريس لشكر غير واثق من ولاء هؤلاء وأمثالهم، حيث يخشى أن يحملوا بذور طموح أو تفكير مستقل قد يهدد سيطرته... وبناءً عليه، لم يعد لشكر راغبًا إلا في الولاء التام والأعمى، الذي يضمن عدم المساءلة أو المعارضة الداخلية. لذلك، اتجه إلى تعزيز مواقع من يثق في تبعيتهم المطلقة، مثل المهدي المزواري، ومصطفى عجاب الذي مُنح منصب رئاسة المجلس الوطني للحزب خلفًا للحبيب المالكي. هذا التغيير الرمزي لا يخلو من دلالة ساخرة، فقد تم استبدال الحبيب المالكي الذي يُقال إنه أصيب بمرض الزهايمر، بـمستفيد يضمن الطاعة. وهذا يخدم هدف لشكر النهائي، في حين يبقى “الزهايمر” الذي يعاني منه حزب الاتحاد الاشتراكي تحت قيادته هو الداء الأخطر، لأنه يتمثل في فقدان الذاكرة الجماعية والمبادئ السياسية للحزب بأكمله.

مآل ونهاية تراجيدية:

على هذا النحو والمنوال بلغت أزمة الاتحاد الاشتراكي مراحلها الأخيرة، إذ لم يعد الأمر يتعلق بأزمة قيادة فحسب، بل بأزمة وجود ورمزية تاريخية. وهكذا أتم لشكر مهمته الملعونة بإفراغ الاتحاد الاشتراكي من مضمونه اليساري الأصيل وتزوير تاريخه النضالي، والتلاعب بإرثه وأسماء شهدائه لتتناسب مع الغاية والحاجة الآنية… وقد تزامن ذلك مع الإفراغ المنهجي للحزب من أطره ومثقفيه الوازنين.

إن الحزب، وقد فقد كل مبرر لوجوده الجماهيري والفكري، سيُرمى به لا محالة ويتخلى عنه المستفيدون في السلطة تمامًا، كما تخلت عنه الجماهير الشعبية منذ زمن… سيلقى هذا التنظيم العريق في النهاية مثل شفرة حلاقة “جوطابل” (Rasoir jetable) ، أو بطارية انتهت صلاحيتها… يُستنفد ويُرمى بلا أسف، وهو ما نقف على بدايته الواضحة اليوم في أزمة فقدان المصداقية الأخيرة…

 إن هذا المصير المأساوي ليؤكد أن المبدأ البيولوجي للفناء (لكل أجل كتاب) لا يستثني الكيانات المجردة، بما في ذلك الروح السياسية للأحزاب العريقة… هي شهادةٌ على أن روح الكيانات، تمامًا كالأفراد، لها مواقيتها، وأن الأجل المحتوم لا يُمهل حتى الروح السياسية التي ظُنَّ أنها خالدة.

شارك هذا الموضوع

عبد الرحيم التوراني

صحفي وكاتب مغربي، رئيس تحرير موقع السؤال الآن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!