الاحتفالية: حياة رمزية في الأجساد الرمزية

الاحتفالية: حياة رمزية في الأجساد الرمزية

د. عبد الكريم برشيد

فاتحة الكلام

في كتابه (عبد الكريم وخطاب البوح في المسرح الاحتفالي)، يسألني الكاتب ذ. عبد السلام لحبابي سؤالاً غريباً، إذ يقول: (أهو ضروري أن نموت؟). وفي الجواب أقول له ما معناه: إنه من المنطقي أن نموت، تماماً كما تموت أوراق الأشجار الصفراء في فصل الخريف، وذلك من أجل أن تأتي أوراق الربيع الخضراء. وفي مسرحية (سالف لونجة)، يجد الباحث عن دوره من يقول له بأنه لا مجال للهروب من الموت، وبأنه لا معنى للخوف منه، إذ يقول له:

(اهرب ما استطعت.. مائة أو ألف عام.. لن يحدث شيء.. لن يحدث شيء. كل شيء رهين حضور مستمر.. رهين موت يتجدد عبر الأبد).

إن هذا الموت إذن هو السبيل الوحيد من أجل أن تأتي الحياة الأخرى، ومن أجل أن يجدد هذا الوجود حياته وحيويته، وهذا ما جعلني أقول في الجواب عن سؤال ذ. عبد السلام لحيابي ما يلي: (شخصياً لا أرى مانعاً من أن نموت نحن، من أجل أن يأتي من هم أحسن منا وأعلم منا وأصدق منا؛ وأسوأ الأشياء بالنسبة للاحتفالي هو أن يموت العلماء من أجل أن يأتي الجاهلون والتافهون).

كل موت لا يأتي بالتطور وبالتغير وبالتحول وبالجديد والتجديد، فإنه لا معنى له. ومن الخطأ أن نعتبر الموت نهاية، وهو في حقيقته بداية أخرى في كونٍ لا وجود فيه إلا للبدايات المتجددة في الأزمان الجديدة والمتجددة. ثم ما معنى النهاية؟ وهل هناك شيء يمكن أن ينتهي بشكل كامل في كونٍ عناصره الأساسية الأربعة قديمة جداً؟ وهذه العناصر هي: الماء، والهواء، والنار، والتراب.

وفي ديوان مسرحياته، يقترح علينا الكاتب الاحتفالي العنوان التالي: (سقراط قالوا.. مات)؛ مما يعني أن موت سقراط، مثله مثل موت المسيح، هو مجرد قول متقولين، أو هو مجرد أكذوبة كاذبين، أو هو مجرد شائعة مضللين. والاحتفالية تميز بين الواقعي والحقيقي، وتؤكد على أن كل ما هو واقعي في الواقع ليس حقيقة بالضرورة؛ وبهذا يكون من حقنا أن نتساءل: هذا الذي نسميه الموت، ألا يكون مجرد واقعة من وقائع الواقع اليومية؟

حياة الأفكار الرمزية أصدق من حياة الأجساد

بالنسبة للاحتفالي، فإن أسوأ شيء في مسرحية الوجود هو أن تكون بطلاً مأساوياً في مسرحية كوميدية، أو أن تكون كوميدياً في مسرحية مأساوية، وأن تكون مثل نبي أخطأ الطريق وجاء في غير زمانه وإلى غير قومه، وكان بذلك مثل “صالح في ثمود”، وأن يكون مثل كاتب كتب رسالة بها علم وشعر وفكر وجمال، ولكنه بعث بها إلى العنوان الخطأ، وبذلك كان ضرورياً أن تعود إليه رسالته وقد كُتب عليها: (المرسل إليه غير موجود) أو (المرسل إليه غير معروف). وما معنى أن نكتب الرسائل لمن لا نعرفه ولمن نجهل عنوانه؟

(حياة أفكاري أهم من حياتي) هو عنوان فرعي في النفس الثاني من مسرحية (سقراط قالوا.. مات)؛ مما يعني أن الأفكار لها دورة حياتها الخاصة، وأنها تحتاج لمناخ ثقافي حقيقي فيه ماء وهواء، وفيه حرية وتحرر، وفيه صدق ومصداقية.

لقد كان من الممكن لسقراط ألا يموت لو أنه سحب أفكاره وتنكر لها، وقال أمام كل الناس بأن كل هذه الأفكار مضللة وبأنني بريء منها، أو لو أنه هرب من سجنه متنكراً في زي امرأة كما اقترح عليه تلامذته؛ ولكنه لم يفعل، وما كان ممكناً لمن يحمل الأفكار الكبيرة والخطيرة أن يفعل، ولذلك فقد قال في المسرحية الاحتفالية:

(أكيد أنهم لن يحترموني يا ولدي أفلاطون، ومن يمكن أن يحترم الجبان الهارب؟ وكل أقوالي التي قلت، وكل كلماتي التي كتبتموها عني، وكل أفكاري التي عُرفت عني، مَن يمكن أن يصدقها بعد الهروب؟ أنا الآن بين خيارين اثنين لا ثالث لهما: إما أن أحيا أنا وتموت أفكاري، وهذا هو الاختبار الأول.. ـ والاختبار الثاني يا معلمنا؟ ـ هو أن أموت أنا وتعيش أفكاري.. ـ أليس هناك اختيار ثالث يا معلمنا؟ ــ ليته كان لي هذا الاختيار الثالث، وليتكم تأتوني به إذا وجدتموه..).

وهل وصلت البشرية إلى ما وصلت إليه من التقدم والتحرر والعقلانية إلا بفضل هؤلاء الذين قلنا -ونقول دائماً- بأنهم ماتوا؟ وبخصوص حال هذا الموت، الذي هو مجرد “نوم آخر”، يقول سقراط في ختام المسرحية: (يا أفلاطون، قل لرفاقك ألا يخافوا على معلمهم، فهو قد عاش نفس هذه الحال على امتداد أكثر من سبعين سنة؛ لقد تعود أن يموت مساء كل يوم، وتعود أن يبعث حياً صباح كل يوم، فاطمئنوا يا أحبائي.. اطمئنوا.. اطمئنوا). ونفس هذا السقراط هو الذي قال للقضاة في جلسة محاكمته: (إن الحياة مع المذلة لا تغريني.. والموت مع الكرامة حياة أخرى).

الحياة: حالات ومقامات ودرجات

بالنسبة للاحتفالي، فإن الموت في الحياة هو جزء من الحياة، أو هو مظهر من مظاهرها، أو حال من أحوالها، أو مقام من مقاماتها، أو درجة من درجاتها. وفي كتاب (فلسفة التعييد الاحتفالي في اليومي وفي ما وراء اليومي)، يصادفنا عنوان فرعي يقول: (في الدورة الاحتفالية)، وفيه يمكن أن نقرأ ما يلي:

(الدائرة في الاحتفالية أكمل الأشكال، وهي أيضاً أقدسها، وأكثرها قرباً من الطبيعة ومن الثقافة ومن الإنسان ومن السماء ومن الكون). وهل هذه الطبيعة تموت إلا لتحيا مجدداً؟

ودائماً يكون البدء في الاحتفالية من الفراغ، ثم من بعد يتأسس الامتلاء، ويكون الغياب وحده ولا شيء معه، ثم يأتي الحضور، وفي بطن كل حضور شيء كثير من الغياب، وتدور الدائرة ولا تتوقف. ويقول الإنسان الاحتفالي في هذا الكون الاحتفالي ما يلي: (نعم، في البدء كنت عارياً إلا من ورق التوت ومن رحمة الله، ولدت ولا شيء معي إلا هذياني وجنوني.. وكل ما أصبح لدي بعد ذلك اكتشفته وكسبته وانتزعته وربحته وتعلمته وأدركته ووصلت إليه). هكذا نطق الاحتفالي في ركنه الأسبوعي في أول جريدة غير حزبية في المغرب، والتي كانت تحمل اسم (مغرب اليوم) عدد 21 يوليوز 1996.

هناك الموت إذن، وهناك الحياة، وهناك ما قد يشبه الحياة وما هو بحياة، وهناك ما قد يشبه الموت وما هو بموت. وهذه الحقيقة على بساطتها لا يعرفها كل الناس. وفي مسرحية (امرؤ القيس في باريس)، وفي آخر نَفَس من المسرحية، يقول عامر الأعور: (إنني أشعر وكأنني حيٌّ نصف حياة وميتٌ نصف موت)؛ مما يعني بأنه لا وجود لحياة كاملة ولا وجود لموت نهائي.

وماذا يمكن أن نقول عن ذلك القتل الرمزي، والذي هو (قتل الوقت)؟ وهو تعبير شعبي يردده بعض الناس عندما لا يفعلون شيئاً. ومَن يمكن أن يقتل الوقت؟ ومَن يحق له أن يزعم أنه يقتل الوقت؟ من المؤكد أن مَن يتوهم أنه يقتل الوقت من خلال عدم فعله لأي شيء، هو في الحقيقة لا يقتل إلا نفسه، وهو بهذا لا يحيا إلا نصف حياة أو ربع حياة.

من الممكن أن يمضي المتكلم ولكن الكلمة لا تمضي، ومن الممكن أن يغيب ولكن الكلمة الصادقة لا تغيب، ويمكن أن يشيخ المتكلم ولكن تبقى الكلمة الجميلة شابة وأنيقة ومقنعة وممتعة ومشعة على امتداد التاريخ. وهذا الاحتفالي، العالم في علم الكلام والشاعر المتفقه في فقه الكلام، هو الذي وقف عند التساؤل التالي: (هل أنا في مسرح الوجود وجه أم مجرد قناع؟ وهل أنا جسد إنساني أم أنا مجرد رداء خاطه الخياط ليؤدي دوراً محدوداً في زمان محدود؟).

الاحتفالية: تمارين فكرية وجمالية في الحياة

صورة الاحتفالية في علاقتها بالحياة والحيوية ليست صورة واحدة، ولكنها صورتان: الأولى جميلة، والثانية سيئة. وفي هذا المعنى يقول الاحتفالي مستشهداً بما قال الحكيم كونفوشيوس: (ما يبحث عنه الرجل الرفيع موجود في نفسه، وما يبحث عنه الرجل الدنيء موجود عند الآخرين). ونحن نقول: مَن أراد أن يعرف أحسن ما في الاحتفالية فليقرأ ما كتبه الاحتفاليون، ومَن أراد أن يعرف أسوأ ما فيها فليقرأ ما كتبه عنها الذين اختاروا -وبشكل مجاني- أن يكونوا أعداءها، وأن يتصيدوا أخطاءها وهفواتها التي قد يكون لها وجود حقيقي أو قد تكون من نسج الخيال المريض، أو من (إبداع) بعض النفوس الحاقدة لفعل الاجتهاد الفكري والجمالي.

وفي كتاب (فلسفة التعييد الاحتفالي في اليومي وفي ما وراء اليومي)، يقول الاحتفالي: (في دورة الوجود يكون البدء من الطبيعة.. ومن هذه الطبيعة يتأسس الوعي الثقافي). ولعل هذا هو ما جعل الاحتفالي يحدد مسار وعيه الوجودي في الصورة التالية:

(لقد علمتني الطبيعة بمفرداتها أن أكتشف الحياة والحيوية.. وعلمتني الحياة أن أكون مسرحياً.. وعلمني المسرح كيف أمارس حقي في الحضور.. وعلمني الحضور كيف أتجدد بالغياب وفي الغياب.. وعلمني الحضور والغياب كيف أصبح احتفالياً.. وعلمني الاحتفال أن أكون مدنياً.. وعلمتني المدينة كيف أصبح ديمقراطياً.. وعلمتني الديمقراطية أن أكون مختلفاً).

لأنها قالت لي بلسان المغني المغربي: (ما منك زوج أنت واحد). ولقد حرصت في هذه الاحتفالية على أن أكون الواحد المتعدد أمام مرآة الروح، وأنتم مرآة المسرح، وأنتم مرآة التاريخ. وهذا الاحتفالي هو الذي قال أيضاً:

(وعلمني الاختلاف أن أكون متسامحاً.. وعلمني التسامح أن أكون إنساناً وإنسانياً.. وعلمتني الإنسانية أن أكون ودوداً ومرحباً وعاشقاً.. وعلمني العشق أن أكون متفائلاً.. وعلمني التفاؤل أن أكون صبوراً.. وعلمني الصبر أن أدخل الحياة وأكون حيوياً.. وعلمتني الحياة أن أكون مسرحياً).

وهذا هو ما جاء في مقالة الاحتفالي (الدورة الاحتفالية)؛ مما يعني أن الحياة تبدأ مسرحية، و(تنتهي) لتبدأ وهي مسرحية، لأنه لا وجود في الوجود إلا لمسرحية الوجود. في البدء إذن يكون المسرح، وعند نهاية وبداية دورة الحياة نجد هذا المسرح أيضاً.

وبخصوص هذه الدائرة المسرحية، يقول الاحتفالي في نفس الكتاب:

(لقد اختارت الاحتفالية المسرح لأن المسرح هو مركز الدائرة، وهي في هذه الدائرة نقطة التلاقي والتقاطع والتماس بين اليقظة والمنام، وبين الصحو والسكر، وبين العقل والجنون، وبين الطبيعة والثقافة، وبين الوجود والعدم، وبين الحضور والغياب، وبين الممكن والمحال.. وإن مَن يختار المسرح، أو يختاره المسرح، فإنه لا يمكن أن يُسمى المجنون، لماذا؟ لأن المسرح شكل من أشكال الجنون).

آخر الكلام وبداية الكلام

الحياة طريق شاق ومكلف والسير فيه ليس بالمجان؛ ومَن يطلب الموت من أجل الحق والحقيقة قد تُكتب له الحياة الحقيقية، ومَن يركب قطار الشك يمكن أن يصل إلى مدينة اليقين. أما مَن يريد أن يريح ويستريح، فإنه يأخذ في حياته عقيدة ما ويغلق عليه الباب ويقول: هذه الأوهام هي الحقيقة، وكل ما سواها باطل.

ويؤمن الاحتفالي بأن كل شيء في الوجود له ما بعده، وله ما يخالفه، وأن هذا (الما بعد) الغائب لا يمكن أن يشبه الـ (ما سبق). ولهذا عشنا في الاحتفالية ننتظر ما بعد الاحتفالية، والتي لم تأتِ بعد. وهل يعقل أن تعبر إلى ما بعد الاحتفالية من غير أن تعرف هذه الاحتفالية أولاً وتجادلها وتأتي بالبديل لها؟

يعرف العارفون بأن التاريخ لا يصنعه جيل عابر ولا موضة موسمية؛ ولو كانت هذه الاحتفالية بعمر موضة لكانت اليوم في ذمة التاريخ. (أنا احتفالي) هكذا أقول وأكتب دائماً، والاحتفالية شجرة أفكار، وقدرها أن تنبت الأفكار بشكل دائم ومتجدد؛ قد تسقط الأوراق الصفراء الذابلة لتظهر أوراق خضراء حية، ولولا موت الناس ما عاشت الإنسانية ولا تجددت عبر التاريخ.

في هذه الاحتفالية عقلانية، وشاعرية، وإنسانية، ومدنية، وجمالية، وحيوية، وحرية، ومصداقية، وعبقرية. وبذلك كانت حركة فكرية مسالمة ومتسامحة، تنشد (القوة الناعمة) ضد القوة العنيفة وعبثية الحروب؛ لأن الحق لا يحتاج حرباً حتى يظهر، ونور الحقيقة من نور الله لا يحتاج لمَن يحارب من أجل أن تسطع شمسه. ويؤمن الاحتفالي بأن كل ما في الحرب حمق ووحشية لا إنسانية فيها.

هذه الاحتفالية التي تسافر باتجاه المدينة الفاضلة لا تخاطر عبثاً، ولكن من أجل البحث عن العلاقات الإنسانية الاحتفالية الصادقة، ومن أجل البحث عن مؤسسات وحالات ومقامات احتفالية حقيقية.

شارك هذا الموضوع

د. عبد الكريم برشيد

كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!