الاحتفالية شرقية الروح وغربية العقل

الاحتفالية شرقية الروح وغربية العقل

د. عبد الكريم برشيد

فاتحة الكلام

في الملتقى الاحتفالي يلتقي كل الناس، وتلتقي كل الأجناس، ونلتقي كل الثقافات، وتلتقي كل اللغات، وتلتقي كل الأجيال، والفرح ليس وطن واحد، وكل الأوطان اوطانه، وكل الازمان أزمانه، ولعل هذا هو ما جعل د. عبد الفتاح ابطاني يقول:

(فلنحتفل مع صرخة الميلاد، وبسمة الموت، وما بينهما كشف واستكناه الاحتفال…. تحياتي دكتورنا الفاضل، سيدي عبد الكريم برشيد…)

أما مولانا جلال الدين الرومي فإنه يقول:

(إنه طريقك وحدك، قد يرافقك فيه أحدهم لفترة من الوقت، لكن لن يكمله أحد غيرك)

ويقول الاحتفالي، إن طريق الحق والحقيقة، هو دائما طريق واحد أوحد، وكذلك هو طريق الحياة وطريق الجمال وطريق الكمال وطريق الفضيلة وطريق العيد وطريق الفرح، ونحن في (الملة) الاحتفالية نقتسم مع كل الناس نفس هذا الطريق، ونحن ملتزمون بان نكمل السير في نفس هذا الطريق، والذي اخترناه واختارنا، وان نواصل المسير في الطريق مع كل رفاق الطريق في العالم.

وبخصوص النفس الاحتفالي الأسبق، والذي تحدث عن الاحتفالية بين الثمن والقائمة والقامة، يقوا الكاتب والناقد والسيناريست والإعلامي ذ. احمد ابو عروة، في التعقيب على احد الأنفاس في هذه الكتابة الاحتفالية ما يلي:

(الإبداع الاحتفالي ليس ثمناً في السوق، بل قيمة الروح وصدق الفعل، و مقاومة للتفاهة بسلطة الجمال).

ولقد اختار الاحتفاليون أن يسروا إلى الأمام دائما، وأن تكون وجهتهم إلى الأعلى، وإلى الأبعد وإلى الأصدق وإلى الأجمل وإلى الأكمل وأن يحرصوا على أن لا يلتفتوا إلى الخلف، وعلى أن لا ينتظروا من الناس جزاء ولا شكورا، فهي حياتهم التي عاشتها بصدق وعفوية وتلقائية.

لا مذهبية في الاحتفالية

وهذه الاحتفالية التي عمرت لحد هذا اليوم، والتي عاشت عمرها كاملا، ساعة بعد ساعة ولحظة بعد لحظة، والتي جددت وتجددت وما ضعفت ولا وهنت ولا شاخت، والتي أوجدت لكل حقبة تاريخية اسئلتها ومسائلها الحقيقية الخاصة.

هذه الاحتفالية، هي التي أحبها من أحبها. عن فهم وعن علم وعن معرفة، وهي نفس الاحتفالية التي خاصمها أغلب من خاصمها، عن أمية وعن جهل، أو بناءً على حسابات لا علاقة لها، لا بالفن الجميل. ولا بالفكر الحر، ولا بالمعيار الجمالي أو الأخلاقي، ولا بالقراءات العلمية والفكرية والجمالية الحادة والمجددة.

وفي بدايتها الأولى، هاجم الأيديولوجيون المغاربة والعرب هذه الاحتفالية لجدتها ولجدبتها ولريادتها ولجرأتها ولأنها كانت خارج كل التصنيفات وكل المعلبات الفكرية والجمالية الحاهزة للاستهلاك الآني السريع ، لأن الزمن يومها كان كان زمنا ايديوجيا بامتياز، ولأن هذه الاحتفالية قد كانت فنا وفكرا وعلما، ولم تكن ظاهرة صوتية، وذلك في زمن التحالفات والتكتلات وزمن المسيرات والمظاهرات والاحتجاجات والشعارات الفارغة، ولم تساير توجهات العقائديين الذين كانوا ينظرون لهذا لعالم بعين واحدة، والذين لم يرتاحوا لهذه الاحتفالية المتعددة الألوان والحالات والمتعددة الأفكار والمقامات، والغنية بافكار لا وجود لها في الكتب ولا في المجلات ولا في الجرائد اليومية، ولقد خاصموها فقط، لأنها لم تكن معهم، ولم تقل نفس قولهم، ولم تر ما يرون، ولم تتخندق معهم في نفس الخندق الحزبي ولا في نفس الطابور الطائفي، وبعد هذا، جاءت مرحلة جديدة في تاريخ هذه الاحتفالية، والتي خاصمها المسرحيون المدرسيون هذه المرة، وهم فئو انجبتهم الكليات ولم تنجبها الممارسة المسرحية في الحقل المسرحي، واذا كان اليديولوجيون عبيد العقيدة وعبيد الزعيم تلملهم، فإن المدرسيين كانوا عبيد الكتاب، وعبيد النص وعبيد الأستاذ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، هولاء خاصموا الاجتهاد الاحتفالي انطلاقا من قناعتهم بانه لا اجتهاد مع وجود النص لدى المنظرين الكبار في السياسة وفي الفكر وفي الفن.

الاحتفالية: الحركة والمحرك والطاقة المحركة

هذه الاحتفالية إذن، هي أساسا فعل يجدد ذاته، وذلك بفعل الطاقة المتجددة في الحياة وفي الأحياء وفي الطبيعة وفي الأشياء، وهذا الفعل هو: فكر يفكر في اساسيات الوجود الإنساني تفكيرا جادا وشاملا ومتكاملا، وبهذا التفكير الفعل، تفكر هذه الاحتفالية في ذاتها أولا، وتبحث عن وجودها، الكائن والممكن، وعن ما قد يصل إلى حدود الحال والمستخيل، مع العلم ان المستحيل ليس احتفاليا، وبهذا يصبح من حق الاحتفالي، اليوم وغدا وفي كل يوم، أن يقول ما يلي:

ــ أنا أفكر، بشكل حي وجديد ومتجدد

إذن فأنا كائن أحتفالي جديد ومجدد في عالم متجدد.

وعندما نسأل الاحتفاليين: لماذا تتأملون وتفكرون وتتفلسفون؛ في الحياة وفي البيانات وفي المسرحيات، فإننا نجد أنفسنا أماما الجواب التالي:

(ونحن تفلسفنا من أجل أن نحلم بشكل جيد

ومن أجل أن نفكر بشكل جيد

ومن أجل أن نكتب مسرحا بشكل جيد

ومن أجل أن نؤسس بلاغة مسرحية بشكل جيد

ومن أجل أن نتمثل الجمال، في الفن والحياة بشكل جيد

ومن أجل أن نقرأ الواقع والتاريخ بشكل جيد

ومن أجل أن نتحاور ديمقراطيا في المسرح بشكل جيد

ومن أجل أن نتلاقى مسرحيا بشكل جيد

ومن أجل أن نؤسس الرؤية الإخراجية بشكل جبد

ومن أجل أن نعطي الممثل ثقافة تجعله يمثل بشكل جيد)

وهذا هو المعنى الذي تعطيه الاحتفالية للفلسفة، أي أنها رافعة أساسية للحياة اليومية، وذلك من أجل أن تكون صادقة وحقيقية، وأن تدفع بالكائن نحو الممكن، ونحو الأرقى والأسمى، ونحو الأجمل والأكمل

وعندما يعيش الاحتفاليون أفكارهم بصدق وعندما يعشقون اختياراتهم الجمالية عن قناعة، سواء في اليقظة أو في المنام، وسواء في الواقع أو في الأحلام، فإن أفكارهم لا يمكن أن تكون إلا صادقة أيضا، وأن تكون حقيقية، وأن تكون حرة وجميلة وحية ونبيلة وهادفة وجادة وجديدة و مجددة وحية بشكل دائم ومتجدد

فالاحتفالية إذن، هي روح، قبل أن تكون أي شيء آخر، ولعل أهم ما يميز هذا الروح الاحتفالي، هو أنه روح شرقي، وتبقى مركزية شرقيتها مجرد عنوان خارجي كبير فقط، وهو عنوان كبير عليها وعلى عوالمها الجوانية الغنية، وبهذا، فإن شرقيتها، بصوفيتها وبمعرفتها وعرفانها، ليست تهمة أو جريمة، كما قد يكتب بعض الذين يحملون عقدة الخواجة، وهذه المظاهروالظواهر الشرقية الاحتفالية والعيدية، كما تتجلى في الإبداع المسرحي الاحتفالي، هي بالتأكيد جلد هذه الاحتفالية؛ جلدها المادي الظاهر، والذي يخفي وراءه ما بعده، ويخفي ما خلفه، ويخفي حقيقة وجوهر هذه الاحتفالية، والتي قد لا تراها كل العيون

الشرق وروح العيد والتعييد

وكما أن هذا الروح الشرقي، في جسد هذه الاحتفالية ليس تهمة، فهو أيضا ليس ميزة تمتاز بها عن باقي التيارات الفكرية والجمالية الأخرى، وهي بهذا ذات رمزية ومادية تنتمي إلى جهة روحية ووجذانية وأخلاقية معينة، جهة غير كاملة بالضرورة، وغير تامة، وغير مغلقة على نفسها، والشرق فيها له غربه أيضا، وله شرقه، وله شماله، وله جنوبه، وله ما يخالفه وما يختلف عنه، وله ما يشبهه وما لا يشبهه، وله ما يناقضه وما يضاعفه.

وبهذا المعنى تكون الاحتفالية هي نفسها، وتكون هي غيرها، وتكون هي الشيء الذي فيه كل شيء، وهي بهذا موجودة في ذاتها المفتوحة على كل الذوات، وهي لحظتها الممتدة في جسد الأبدية أيضا، وهي إلى جانب كل ذلك كتابة لا يمكن أن تكتمل إلا بالقراءة، كما أنها جسد رمزي مطاط؛ جسد يتسع في الرؤية الواسعة، ويضيق في الرؤية الضيقة، ويحيا في النفوس الحية، ويموت في النفوس الميتة.

ويتمثل الروح الاحتفالي الشرقي في رؤيتها العيدية الغنية بالأضواء وبالألوان.وبالظلال، كما يتمثل في حدسها الصوفي، وفي لغتها الفردوسية الحية، وأيضا في ذوقها وفي تذوقها، وفي تأكيدها على غنى النفوس وغنى الأرواح قبل الغنى المادي، وتأكيدها على الصدق والمصداقية، وعلى التلقائية والوضوح والشفافية، وعلى السحر الحلال، وعلى الغرائبية والعجائبية، وأيضا على الحكي والمحاكاة وعلى الخيال، وعلى الارتقاء بالمعرفة إلى درجة الحكمة، وهي تؤمن بأنه لا شيء باطل، وبأنه لا شيء في دنيا الناس يمكن أن يكون خاليا من المغزى ومن المعنى، كما أن الشرق هو المطرزات وهو المرركشات وهو المنمنمات وهو الحكي والمحاكاة، وهو التوابل التي لها ألوان، ولها مذاقات، وبهذا فقد امكن لنا ان نقول بأن من لا يتذوق مذاقات الاحتفالية، لا يمكن ان يدرك جمالياتها السرية والخفية، وان من لا يطرب للكلمة الشعرية الاحتفالية لا يمكن ان يعرف غير مظاهرها وظواهرها وقشورها البرانية

عنوان مؤقت

ونعرف ان الثقافة الشرقية تؤثثها روح الجماعة. وهذا هو ما نعبر عنه الاحتفالية في فعل الانتقال بالمسرح من الأنا الفردية الى النحن الجماعية، والانتقال من الحزن الفردي الى الاحتفال الجماعي، والانتقال من العرض المسرحي الى الاحتفال المسرحي الجماعي، والتي تظهر مغربيا في القراءات الجماعية وفي الغناء الجماعي وفي الرقص الجماعي وفي التلاقي الجماعي في الساحات وفي الأسواق الأسبوعية وفي المواسم السنوية. كما قامت الاحتفالية بحل معادلة أو معضلة الأصالة والمعاصرة، مما يمكن أن يجعل من التراث عاملا من عوامل الدفع باتجاه الآتي، باتجاهالممكن و بانجاه المستقبل. كما يؤكد الإبداع على قوة الخيال، في الحكايات و الملاحم وفي الأساطير.

ويظهر هذا الروح الشرقي ايضا البنية الفسيفسائية في الكتابة المسرحية المغربية والعربية، والذي يتجلى بشكل خاص في الحكي الشهرزادي، مع وجود حكي صغير متعدد ومتجدد، داخل حكي كبير واحد، ووجود مسارات حكائية كثيرة، في إطار خط حكي رئيسي كبير واحد، والتي تجسده بذلك الحكي شهرزاد، وهذا ما يمكن ان نجده ايضا في مسرحية (ابن الرومي في مدن الصفيح) مع الحكواتي ابن دانيال ومع ابنته دنيازاد، ومع الحكايات الداخلية المحمية والمجددة من خلال خيال الظل، ولعل هذا هو ما يفسر ان نجد في هذه الكتابة المسرحية (الموال المسرحي) في احتفالية (يا ليل يا عين) وان نجد (المقامة المسرحية)؛في احتفالية ( المقامة البهلوانية) وفي احتفالية (مقامات بديع الزمان الهمذاني)، وأن نجد الحكي المسرحي وشخصية الحكواتي المسرحي في احتفالية (الحكواتي الأخير) وفي احتفالية (الملك جالوق) وأن نجد الرسالة أيصا، كما في احتفالية (رسالة التربيع والتدوير) أو في احتفالية (رسالة الغفران) الكاتب التونسي الكبير عز الدين المدني.

وهذه الاحتفالية، قد كانت دائما ـ وماتزال ـ صرخة وجع ذهني ووجذاني وروحي كبير وخطير.. وهي صرخة الوجود ضد العدم، وصرخة العقل ضد الجنون، و صرخة النظام ضد العبث، وصرخة الإبداع ضد الاتباع، صرخة الامتلاء ضد الفراع، صرخة العيد ضد الماتم، وصراحة الممكن ضد المحال.

وهذه الاحتفالية، لها اليوم خارطة فكرية وجدانية وروحية على وجه هذه الأرض، ومع ان الغلبة فيها للروح الشرقية، فهي بالتاكيد ليست شرقية ولا غربية، وليست شمالية ولا جنوبية، لأن موقعها الوسط، وهي موجودة في ملتقى الثقافات وفي ملتقى الحضارات وفي ملتقى اللغات، ويجوز لنا اليوم ان نقول فيها نفس ما قاله المتنبي في ممدوحه، والذي هو:

(عربي لسانه، فلسفي

رايه فارسية العياده)

و الاحتفالي عربي لسانه وأمازيغي لسانه وكوني في لغاته، ومن الممكن أن تكون فارسية أعياده، وأن تكون هندية أعياده، وأن تكون أمازيغية أعياده، وأن تكون افريقية أعياده، وأن تكون أندلسية أعياده

شارك هذا الموضوع

د. عبد الكريم برشيد

كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!