الاحتفالية ما قبل الجائحة وما بعد الجائحة
د. عبد الكريم برشيد
فاتحة الكلام
الاحتفالية هي مسرح المابعد دائما، وفي نفس الوقت، هي احتفالية الماقبل أيضا. وبهذا فهي ملتقى زمنين. وهي مفترق زمنين أيضا. ونعرف ان الدرجة الأولى، في مسارها وفي مسيرتها، يمثلها ما بعد النكسة العربية الحزيرانة، وأما الدرجة الثانية فيمثلها ما بعد سقوط جدار برلين وسقوط (عصر) الإيديولوجيا. وبداية عصر العلم والفكر والفن والحرية والتحرر، وأما الدرجة الثالثة فيمثلها اليوم ما بعد الجائحة، والتي كانت فعلا عدوانيا ضد (إنسانية الإنسان وضد حيوية الحياة وضد مدنية المدينة) وأيضا ضد روح الاحتفال وروح التعييد الإنساني والمدني. وضد روح الفرح الصادق.
والمفروض في المابعد دائما أن يكون أغنى وأصدق. ويكون أعلى وأحلى وأجمل وأكمل وأنبل مما قبله، وأن يكون أكثر حياة وحيوية، وأكثر حرية، وأكثر بهجة، ولا شيء أجمل من الأمن بعد الخوف، ومن العافية بعد المرض، ومن اليقين بعد الشك، ومن الاحتفال بعد الانتصار.
واحتفالا بهذا الانتصار الإنساني، على الخوف وعلى القلق، وعلى الموت.اصدر الاحتفال بيوم منذ اكثر من سنتين (بيانات كازابلانكا الاحتفالية المتجددة) بيانات لما بعد الجائحة. وفي مدخل البيان الأول نقرأ ما يلي:
(واليوم، ونحن نصدر هذه البيانات الجديدة، فلكي نحتفل بانتصار العيد على المأتم، وبانتصار الإنسان على الوحش، وبانتصار التلاقي على التباعد، وبانتصار الفرح على الحزن، وبانتصار الحياة الواقعية على الحياة الافتراضية، ونعتبر أن الإنسانية اليوم تعيش حالة التعافي، والتي لا يمكن أن تكون إلا حالة احتفالية بامتياز، وأنه بعد ذلك المرض المرعب، يكون من حقنا أن نعيش فترة النقاهة، وأن نحاول بالفن الجميل وبالفكر النبيل وبالإبداع الجمالي الصادق، أن نستعيد ابتسامتنا الحقيقية، وأن تسترد فرحنا الذي كان، وأن نحاول أن نسترد ذلك الزمن الضائع، والذي هو زمن احتفالي وعيدي حقيقي، حقا، لقد ضيّعت الإنسانية زمنا ثمينا من عمرها، وعاشت شهورا طويلة من الخوف والرعب ومن الشك، وحق لها اليوم أن تعيد للاحتفالية زمنها، وذلك في البيت والشارع وفي السوق وفي المسارح وفي الحدائق العامة وفي الملاعب الرياضية وفي كل الأمكنة المختلفة).
عندما ضيعت الأيام يومها الثامن
في ذلك الزمن الاستثائي، ضيعت الأيام يوما من أيامها. والذي هو سيد كل الأيام وهو سلطان كل الأيام. والذي يمثل اليوم الثامن في الأسبوع عند الاحتفاليين. وبذلك فقد أخرجنا، ومن حيث لا ندري ولا نريد، من عصر العيدية الاحتفالية، وأدخلنا إلى عصر ألمأتمية. وهذا هو ما كانت الاحتفالية تحاربه. وذلك على امتداد عقود طويلة جدا، إيمانا منها بإنسانية الإنسان وبحيوية الحياة وبمدنية المدينة. وبالحق في الحياة وبالحق في الفرح وبالحق في التلاقي الاحتفالي والعيدي.
ويقول الاحتفالي مخاطبا ضيوفه وأحبابه الاحتفاليين، وذلك في مدخل رحلته الافتراضية، والتي أعطت نفسها اسم (الرحلة البرشيدية) يقول:
(نحن العيد يا أصحابي، ونحن أهله وصحبه، وما هذه اللحظات المتطايرة، فينا ومن حولنا، إلا لحظات للتعييد.. أنظروا .. أو تخيلوا .. لقد أوقدت الشموع والقناديل حتى تروني، ومعي كل ظلالي الملونة، وحتى أراكم أحسن..إنني أدعوكم إلى مائدتي، وهذا العشاء هو العشاء الأول، وأعدكم بأنه لن يكون الأخير، وكلمة الأخير لا وجود لها في مملكة هذه الساعة التي لا تشبهها أية ساعة، أنتم أصحابي.. كلكم أصحابي، وليس بينكم أي يهوذا، أليس كذلك؟ ومن كان منكم خائنا، أو كان في نفسه شيء من الغدر، فإنه لا يمكن أن يكون منا، أو أن يشاركنا الخبز والملح والماء وهذا الهواء..
إن مائدتي هي مائدة الفرح، ولقد أخبروني، بأن الاشتراك في كل شيء ينقصه، إلا في السرور، فهو يزيده، تعالوا إلي إذن، اقتربوا أكثر، فشجرة الفرح ليست محرمة، وليست ممنوعة إلا على الظالمين والمجرمين وعلى المزيفين والمحتالين، وعلى الجلادين).
الحياة مخاطرة وجودية والاحتفالية أيضا
لقد أكدت الاحتفالية دائما على الحياة والحيوية، وكانت بهذا ضد صناعة الموت وضد تجارة الموت وضد تجار الموت. وضد سماسرة الموت، وأكدت أيضا، على أن هذه الحياة، في معناها الحقيقي، هي أساسا مخاطرة وجودية، هكذا يقول الاحتفالي، والداخل لهذه الحياة مولود والخارج منها مفقود، وما بين الولادة والفقد تمتد حياة الإنسان، والتي يؤثثها فعل الاحتفال، أو حالة البحث عن الاحتفال، أو يؤثثها الخوف والقلق مما يمكن أن يتهدد هذا الاحتفال، والذي قد يكون مرضا، أو يكون جائحة، أو يكون حربا، أو يكون فقط، مجرد خوف وقلق على مصير الاحتفال، والذي هو حق وجودي.
ويرى الاحتفالي أنه لابد من المخاطرة، لأن هذه الحياة التي نحياها، تستحق أن نخاف عليها، وأن نصونها، وأن ندافع عنها، ويرى هذا الاحتفالي أيضا، أن في هذه المخاطرة الوجودية شيء من النجاة، أو كل النجاة، وعلى أن هذه الحياة لا يمكن أن تكتمل إلا إذا بلغت درجة القلق، ومن الخوف من الفقدان، ومن الموت، وبهذا نكون أكثر إحساسا بهذه الحياة، وبقيمتها، وبجمالياتها، كلما اقتربنا أكثر من الموت، ونصبح أكثر تعلقا بهذه الحياة، وذلك في معناها الصادق والحقيقي والشفاف. وفي هذا المعنى يقول الاحتفالي (وبقدر زيادة جرعة هذه المخاطرة، فإن فرص النجاة تكون أكبر أيضا، ويصبح من حق الناجين ـ وحدهم ـ أن يحتفلوا .. يحتفلوا بالحياة التي أخرجوها من دائرة الموت، ويحتفلوا بالعدل الذي أخرجوه من براثن الظلم والظالمين، ويحتفلوا بالغنى النفسي والذهني والروحي، والذي حرروه من غول الفقر والبؤس).
هذا الكلام كتبته الاحتفالية قبل الجائحة، وكأنها كانت تستشعر ما يمكن أن يتهدد الاحتفال العيدي، بالحياة وبالحيوية وبالعلاقات الإنسانية من مخاطر، وكان هذا اقتناعا منها بأن المأتم هو الوجه الثاني للاحتفال، أو أنه أخوه السيامي، وفي هذا المعنى يقول الاحتفالي في احد بياناته الاولى ( إن الاحتفال وجود بين حدين متقابلين ومتكاملين؛ حد الميلاد وحد الموت، فمن هذا لاحتفال الوجودي نبدأ إذن، وإليه ننتهي نهاية مؤقتة، وما هذه الحياة إلا سلسلة متماسكة ومترابطة من الاحتفالات الوجودية والاجتماعية والوطنية والكونية؛ احتفالات يتبع بعضها البعض، وهي تسير في خط دائري، تماما كما تدور الأيام والليالي، وكما تدور الكواكب السيارة في مساراتها، ففي ساعة المولد نحتفل بالحياة التي نستقبلها، وفي ساعة الموت نحتفل بالحياة التي نودعها، وفي إقامة الذكرى نحتفل بالحياة التي عشناها بشكل حقيقي).
لا احتفالية مع السجن والمنفى
والاحتفال الحقيقي والسليم يكون دائما في الزمن الاحتفالي، ويكون في المكان الاحتفالي، ويكون في المناخ الاحتفالي، ويكون في الفضاء الاحتفالي، ويكون في الشروط الاحتفالية، وفي السياقات الحقيقة دائما يولد الاحتفال الحقيقي، هذه هي الحقيقية الأبدية والسرمدية الخالدة، وهذه هي القاعة القديمة قدم التاريخ، ولكن هذه القاعدة لها استثناؤها، أو لها استثناءاتها فيها، وقد يعرف فعل الاحتفال ظروفا صعبة، خصوصا في زمن الحروب وفي زمن الأمراض والأوبئة وفي زمن الاستبداد السياسي، تماما كما يمكن لهذا الاحتفال أن يفقد معناه في السجن وفي المنفى وفي الغربة، وهذا ما جعل مسرحية ( الناس والحجارة) والتي يغيب فيها الحضور. ويغيب فيها الآخر. ويغيب فيها التلاقي الإنساني تكون ( احتفالية ناقصة ومعطوبة، لأن شرط الاحتفال الأساس هو الحضور والتلاقي، وهوالجوار والحوار، وهو الغنى والامتلاء لحد الفيض، وفي هذه ( الاحتفاية) المسرحية نجد الحجارة وحدها ويغيب الناس) هكذا كتب الاحتفالي عبد الكريم برشيد في تلك المونودراما المسرحية الاحتفالية. والتي اخرجها لأول مرة الشاعر الغنائي الاحتفالي محمد الباتولي سنة 1978وشخص دورها الوحيد الممثل الكبير عبد الواحد قصر رحمه الله.
ويمكن ان نتساءل، أي نوع من الاحتفال كان يمكن أن نقيمه في زمن الجائحة، وفي ظل وجود شبح الموت، ومع وجود أبواب البيوت مغلقة والمسارح مغلقة والحدائق العامة مغلقة والمقاهي مغلقة والساحات العامة مقفرة والتفويض والأرواح مغلقة؟
ونعرف أن هذا الاحتفال، في زمن الجائحة، هو فعل صعب بكل تأكيد، وقد يكون مستحلا أيضا. ولكنه بالتأكيد ممكن بأكثر من طريقة واحدة، وبأكثر من لغة واحدة، لأن الأمر يتوقف على عبقرية الإنسان، والتي هي عبقرية بلا ضفاف وبلا حدود.
ونعرف أن فعل هذا الاحتفال المسرحي، المصادر والممنوع والمقموع والمسكون بالخوف والحزن، هو مثل الاحتفال في زمن الحرب تماما، مع العلم أن هذه الجائحة قد كانت أيضا حربا عبثية، وأنها كانت حربا سوريالية، لأنها مواجهة غير مرئية وغير منطقية وغير متكافئة مع المجهول ومع الغيب ومع الشبحي، وأيضا مع ذلك العدو الذي يقتلنا، والذي يتسسلل إلى أجسادنا في غفلة منا. من حيث لا ندري.
والاحتفال أساسا هو الحضور، وهو التلاقي، وهو المواجهة، وهو الحياة عن قرب، وفي تلك الظروف الاستثنائية، كان هذا المطلب الحيوي البسيط والمنطقي مستبعدا، ولقد أصبح كل شيء في تلك الأيام يتم عن بعد، وأصبح الإنسان حبيس الجدران الخرساء والصماء، يعيش وحده، ويحلم وحده، ويخاف وحده، ويمارس حياته وعيشه عن بعد، وبذلك فقد أصبح المسرح أيضا، وهو احتفال إنساني واجتماعي مفتوح، يتم عن بعد أيضا، وأصبحت صورة الإنسان تغني عن جسده وعن روحه وعن حضوره، وتحول المواطن الحي إلى مجرد صورة في العالم الافتراضي. وبذلك فقد كان المسرح مهددا. والفرح مهددا. والحياة مهددة. وكل المستقبل الإنساني كان مهددا أيضا..
عيدية الاحتفالية وماتمية الجائحة
لقد شكلت هذه الجائحة ضربة قوية وقاتلة للرؤية العيدية للوجود، ولكن الاحتفالي الذي يسكننا ظل مقتنعا بأن الحياة ستنتصر في النهاية، وان الانسان والإنسانية سوف ينتصران. وأن المأتم والمأتمية عابران، وأن وحدهما العيد والاحتفال هما الحقيقية الأبدية والسرمدية، وأن من الممكن أن تخسر الرؤية العيدية والاحتفالية معركة من المعارك، ولكنها ابدا لا يمكن أن تخسر الحرب الوجودية.
ولعل أخطر ما يتهدد احفالية الحياة وعيديتها هما شيئان، السجن والمنفى، وأن يعيش الإنسان الحر معتقلا بين الجدران، وذلك بدل أن يعيش بين الناس ومع الناس، وهذا المعنى هو ما تترجمه المسرحية التي كتبت سنة 1976 والتي تنبأت بسقوط جدار برلين سنة 1989، والتي تحمل عنوان (الناس والحجارة) والتي اعتبرها الاحتفالي صرخته المدوية في وجه فوضى العالم وعبثية العالم، وبهذا فهي (احتفالية ناقصة ومعطوبة، لأن شرط الاحتفال الأساس هو الحضور والتلاقي، وهو الجوار والحوار، وهو الغنى والامتلاء لحد الفيض، وفي هذه (الاحتفالية) المسرحية نجد الحجارة وحدها ويغيب الناس، ونقتنع بالحقيقة المرعبة التالية، وهي أن أقدم سجن في الوجود هو سجن الوجود، وبان أخطر سجن في الحياة هو سجن الحياة، وبأن أقدم سجين في التاريخ هو هذا الذي يسمى الإنسان، ولعل أخطر جرائم هذا الإنسان، الحي والعاقل والمحتفل والمعيّد، رغم غياب كل شروط التعييد، هو أنه كائن يصر على أن يكون إنسانا بشكل حقيقي، وأن يكون حيا وعاقلا ومشاغبا ومحتفلا ومعيّدا دائما، أما أخطر أعداء هذا الإنسان الناطق والمتحرك والمتجدد، فتتمثل في صمت الحجارة الخرساء والجامدة، كما تتمثل في غياب الحياة والأحياء فيها، والحياة الحقيقية بكل تأكيد، وليس تلك الحياة التي هي مجرد صور سينمائية متحركة في هذا العالم المتحرك).
ورغم أن الواقع كان ضد فعل الاحتفال، وأن فعل التعييد فيه قد كان مؤجلا إلى أجل غامض ومبهم وغير معروف، فإن الاحتفالي لم يكفر بالاحتفالية، ولم يستبدل المسرح بالصورة، لأنه كان يعلم أن الزمن الاحتفالي هو أفق بعيد جدا، وأن الفرح وحده هو الحق والحقيقة. وان كل ما عداهما مجرد عطب. ومن الغباء أن نراهن على الاستناء وليس على القاعدة. وان ننسى بان هذه الأرض تدور، وان كل شيء فيها من حولها يدور أيضا.
ولفد أسست هذه الاحتفالية (منظومتها الفكرية والجمالية ضدا على إكراهات الواقع، وضدا على سلطته وسلطانه وضدا على مجريات الوقائع) هكذا تحدث الاحتفالي في كتاب (أنا الذي رأيت).
