الانتصار المهزوم.. بعض القول في العلاقة بين الاستراتيجية والتكتيك بعد طوفان الأقصى

الانتصار المهزوم.. بعض القول في العلاقة بين الاستراتيجية والتكتيك بعد طوفان الأقصى

 د. عبدالوهاب الصافي

           يهدف هذا المقال الى نقاش أسس التفكير الاستراتيجي بشكل عام والتصور الذي يحكم ويؤسس لنظرة بعيدة المدى للفعل السياسي والعسكري الذي أسس لعملية طوفان الأقصى وما تبعها من تحركات من كلا الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي. وحتى لا يكون هناك أي لبس نوضح بدءا ثلاثة أمور أساسية:

1)  أننا نعتبر انه من حق بل من واجب المقاومة الفلسطينية العمل على انهاء كل أشكال الاحتلال التي يفرضها النظام الإسرائيلي الصهيوني وبالتالي لا ننازع البتة في شرعية النضال من أجل بناء الدولة الفلسطينية المستقلة على الأراضي المستعمرة منذ سنة 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.

2) إننا تعتقد ان النضال الفلسطيني يتطلب بما لا يدع مجالا للشك وحدة سياسية وتنظيمية لكل الفصائل المناضلة تحت قيادة واحدة تتولى تنسيق وتخطيط العمل من أجل الحفاظ على وحدة الصف لتقوية العمل النضالي بغية مواجهة الاحتلال

3) ان ما تقوم به القوات الصهيونية من قتل متعمد للمدنيين الفلسطينيين والعمل على تهجير من بقي حيا منهم وتجويعهم عبر منع وصول المساعدات الإنسانية وتحطيم كل المنشآت الطبية والبنية التحتية لمنطقة غزة تعتبر جرائم ضد الإنسانية لا يمكن السكوت عنها وتدين كل من يسهل او يساهم في تحقيقها. 

أذ رفعنا اللبس حتى لا يذهب النقاش في منحى عرضي يشوش على ما نود نقاشه، نرجع الى لب الموضوع أي ضرورة التفكير الاستراتيجي انسجاما مع السياسة المطبقة بهدف الوصول الى الهدف الرئيسي المتوخى بانسجام مع الاختيارات التكتيكية التي تعمل على تطبيقه.

1) بين الاستراتيجية والتكتيك

      عرفت الأدبيات المهتمة بالموضوع مصطلح “الاستراتيجية” بكيفيات مختلفة حسب مضمون اهتماماتها العسكرية او التدبيرية بشكل عام. يجد المصطلح جدوره في العهد الإغريقي[1] ثم تدرج بعد ذلك الى حدود القرن الثامن عشر حيث استعمله المقدم جولي دو ميزوروا [2] كترجمة لمصطلح “فن العام” كما استعمله ليو السادس في كتابه “تاكتيكا” في القرن العاشر.

لكن اذا نظرنا لاستعمال التفكير الاستراتيجي كتخطيط بعيد المدى للانتصار في الحرب فانه يلزم علينا الرجوع الى أطروحات الجنرال الصيني “سون تزو” التي عبر عنها في كتابه “فن الحرب” في القرن السادس قبل الميلاد. الفكرة الرئيسية لعمله هي أن الهدف من الحرب هو إجبار العدو على التخلي عن القتال، بما في ذلك دون حرب، أي باستعمال أساليب غير قتالية كالمكر والتجسس والخداع والحركة العالية والتكيف مع استراتيجية الخصم. ولذلك يجب استخدام كل هذه الوسائل لضمان النصر بأقل التكاليف (كيفما كانت بشرية او مادية). وبذلك يكون سون تزو هو اول من دشن نظرية المنهج غير المباشر[3] .

يقدم سون تزو تكتيكات مختلفة و متدرجة في فعاليتها منها:

 – مهاجمة التماسك المعنوي للعدو، والذي لا يعني معنويات القوات، بل باعتباره “الانسجام” الذي يوحد الحاكم وشعبه. للقيام بذلك من الضروري التأثير واستمالة الزعماء المعارضين، ونشر الفساد، واستعمال العملاء السريين، والخيانة لتدمير هذا التماسك المعنوي. بهذا يتحقق النصر من داخل قصر الحاكم العدو وتنهار دولته دون الحاجة إلى خوض معركة. “بشكل عام، فإن أفضل سياسة في الحرب هي الاستيلاء على الدولة سليمة؛ فتدميرها ليس سوى الملاذ الأخير” (ص 108).

– و يقول أيضا انه يجب على القائد الحكيم أن يهاجم تصور الزعيم المعارض، أو خطته، من خلال اللعب على تصوراته. «إن فن الحرب كله يعتمد على الخداع» (ص 95). ويستطيع أن يخدع العدو من خلال الحيل التي تهدف إلى تضليله بشأن حالة قواته، وبشأن قدراته، لتشجيعه على الهجوم عندما ينبغي له الانسحاب، أو الانسحاب عندما ينبغي له الهجوم. باختصار، الدفع به للتصرف ضد مصالحه الذاتية. .

– ويضيف انه يجب على القائد الحكيم أيضًا أن يعرف كيفية المناورة بمهارة لدفع الخصم إلى الخطأ. على سبيل المثال، يمكنه استخدام التضاريس لإجبار العدو على تفريق قواته، ثم استدراجهم إلى نقطة محددة للهجوم. يمكنه أيضًا أن يتفوق عليه ليضربه في نقطة يعتقد أنها بعيدة المنال.

لقد اهتم سون تسو بنقاش الصيغ التي تسمح للقائد الناجح ان ينتصر بأقل تكلفة لأنه اعتبر ان الحرب مهما كانت تؤدي الاقتصاد والإنسان لأن البحث على الانتصار السريع يدفع الى الزج بكل الموارد الممكنة لتحقيق الهدف المنشود. في حين ان الحكمة في الحرب يجب ان تفضل العمل على الانتصار دون الخسارة. ويفصل سون تسو في مؤلفه التكتيكات الي يجب ان يخوضها القائد من أجل ذلك. “خمسة أشياء رئيسية يجب أن تكون موضوع حديثنا وتأملاتنا الدائمة وبكل اهتمامنا، مثل ما يقوم به الفانون الكبار الذين عندما يقومون بإبداع تحفهم يٌحضرون في نفوسهم الهدف الي يرومون اليه ويستنفعون بكل ما يقع امام اعينهم او يسمعونه ولا يستهزؤون بأي شيء يسمح لهم بالحصول على أفكار جديدة وبكل ما يسعفهم للوصول الى مبتغاهم.”

لم يقدم سون تسو نظرية كاملة حول استراتيجية الحرب وانما تكتيكات متكاملة حول إدارة هذه الأخيرة وأصبح منذ القرن الثامن عشر مرجعا مهما بالنسبة لجنرالات الحرب وتم منذ القرن العشرين تحويل وصفاته الى توجيهات تستنير بها المؤسسات والمجموعات التجارية في تدبير علاقاتها التنافسية على مستوى الأسواق المحلية والدولية.

كما تم سابقا نحت مفهوم الاستراتيجية في القرن الثامن عشر من طرف موزيروا. وعرفه نابوليون في “مدكرات سانت هيلين” بانها “فن تصميم الحرب التكتيك، فن المعارك”. اما كارل فون كلوسيفيتز فيقدم التعريف التالي: “التكتيك هو نظرية استعمال القوى في المعارك، بينما الاستراتيجية هي استعمالها في الحرب بغية الحسم النهائي”

 بالنسبة لهاذين القائدين يعتبر التكتيك هو الصيغة التنظيمية لحركة الجند خلال المعركة باعتماد التموضعات واستعمال الآليات والاستفادة من معطيات الزمان والمكان في مواجهة العدو. أما الاستراتيجية فهي التصور الشامل للحرب وفق الهدف المحدد سلفا للوصول الى المبتغى النهائي.

 في كتابه حكم نابوليون حول الحرب (1898)[4] قسم الجنرال كرووار الاستراتيجية الى ثلاثة أقسام:

  • العناصر، أي الاتجاهات التي يجب اتباعها والأهداف او مركز او مراكز الثقل،
  • المبادئ والقواعد التي بموجبها يجب الجمع بين هذه الوسائل،
  • الوسائل والعمليات المستخدمة لتحديد و تحقيق التركيبات.

(مركز الثقل (CDG)، من الكلمة الألمانية  Schwerpunk، مفهوم عسكري يشير إلى المصدر الأساسي للقوة أو التوازن أو الاستقرار المطلوب من القوى للحفاظ على العمليات القتالية. يمكن أن تكون مراكز الثقل مادية، أو أخلاقية، أو كليهما، وتوجد لدى جميع المتحاربين على جميع المستويات التكتيكية والاستراتيجية والعملياتية للحرب.)

يبدو هذا التقسيم أكثر ملاءمة ووضوحا بالنسبة للتعاريف القديمة لأنه يفرق بين الاختيارات السياسية، مع ذلك يبقى هذا التعريف ملتبسا لأنه يخلط بين السياسة والاستراتيجية او لا يحدد الفرق بوضوح بين المجالين أي بين السلطة العليا الي تقرر في اختيارات السلم والحرب وتلك التي تدبر استعمال جميع الوسائل والإمكانيات والحيل لقيادة المعارك. مما يجعل رجال الحرب يظنون خطأً ان على السياسة ان تكون تابعة لتدبير العمليات في المعارك وفي المقابل ينتج عن ذلك ما نلاحظه خصوصا في البلدان الديموقراطية، حيث رجال الدولة يتجاوزون مهامهم ويتدخلون في كيفيات استعمال الأدوات الحربية.

في ابتعاد عن هذا الخلط اقترح المارشال البروسي مولتكة[5] تعريفا أكثر تحديدا للاستراتيجية بكونها “التكيُف العملي للوسائل المتاحة للجنرال من أجل بلوغ الهدف المنشود”.  يحدد هذا التعريف مسؤوليات القائد العسكري في اتباع توجيهات الحكومة التي يخدمها، أي في توجيه، حسب ما يخدم أفضل مصالح السياسة العليا للحرب، القوات العسكرية الموضوعة تحت إمرته في مسرح العمليات.

 في المقابل، فإن الحكومة التي تصوغ سياسة الحرب و تعمل على تكييفها حسب مستجداتها بإمكانها التدخل في تنفيد الاستراتيجية الموضوعة، ليس بتبديل القائد الذي فقد ثقتها فقط و انما بتغيير الهدف الذي وضعته أخذا بعين الاعتبار تغيرات سياستها الحربية. فان كان لزاما عليها عدم عرقلة استعمال القائد لوسائل عملياته فانه يجب عليها ان توضح له طبيعة مهامه. بالتالي، ان الاستراتيجية العسكرية لا تقتضي بصفة اوتوماتيكية تدمير قوات العدو. ففي الأوضاع التي تعتبر فيها الحكومة ان العدو يتمتع بتفوق عسكري كبير عموما او على مسرح عمليات معينة، فانه بإمكانها مراجعة أوراقها بحكمة وبصيرة وتقرر تطبيق استراتيجية ذات هدف محدود في انتظار نضوج موازين القوى وتحولها في صالحها باعتماد عمليات تنهك قوات العدو او بالقيام بهجمات محددة ومتتالية او بإدماج قوى او حلفاء جدد في الحرب…الخ.

اعتمادا على هذا التعريف الأخير قدم ليدل هارت[6] تعريفا مقتضبا أصبح الأكثر تداولا بناءً على تصوره حول “النهج الغير مباشر’ (الذي تحدثنا عنه سابقا): الاستراتيجية هي “فن توزيع وتوظيف الوسائل العسكرية من أجل اهداف السياسة”. لأن الاستراتيجية لا تهم التحركات العسكرية فقط وانما تعني عواقبها كذلك.

 حينما تستعمل الوسائل العسكرية في معركة فعلية، فان التدابير المتخذة مسبقا لتفعيلها وتدبيرها تسمى تكتيكات. ومهما تبدو هاته المصطلحات (الاستراتيجية/التكتيك) متباينة في النقاش. فانهما لا يفترقان في الواقع وكل واحد يؤثر في الآخر. فالتكتيك، في آخر المطاف، تطبيق “للاستراتيجية العليا” على مستوى أدنى، فإن كانت هذه الأخيرة مرادفة للسياسة التي توجه الحرب، فان ليدل هارت يميزها عن “السياسة العامة” للبلد التي تعمل على تحديد هدف الحرب في حين يستعمل مصطلح “الاستراتيجية العليا” كتعبير على فكرة “السياسة التي يتم تطبيقها”. ويُحدد دور الاستراتيجية 

 العليا في التنسيق الفعلي لكل موارد الوطن او تحالف ما من أجل بلوغ الهدف السياسي للحرب أي الهدف المحدد من طرف السياسة العامة.

الاستراتيجية العليا تهتم في نفس الوقت بحساب كل الإمكانيات الإنسانية والاقتصادية والمالية والصناعية المتاحة وتعمل على تطويرها لتجعلها في خدمة القوات المحاربة. كما انها تعمل على تحفيز الهمم، لأن الجانب النفسي يلعب دورا مهما في تثبيت وتقوية الصفوف، وتنظم وتقسم الأدوار والقوى بين مختلف أنواع القوات المسلحة وبين هذه والقطاع الصناعي. مع ذلك، ولإن كان أفق الاستراتيجية لا يحيد عن الحرب، فإن الاستراتيجية العليا تنظر الى ما بعد الحرب الى السلام الذي يليها. لذلك لا يجب ان تقتصر على تنسيق أنواع وسائل الصراع التي يمكنها ان  تؤثر سلبا على السلام المقبل.

 عناصر الاستراتيجية

      نجاح الاستراتيجية رهين بوضعها حيز التنفيذ في تلاث مراحل متباينة منهجيا ولكنها مترابطة من حيث التحقق على أرض الواقع: الصياغة-التنفيذ-التقييم.

1- صياغة الاستراتيجية:

  نجاح اية استراتيجية رهين باتباع منهجية واقعية وموضوعية تبدأ منذ التفكير في بلورتها. تتطلب بدأ وقبل كل الشيء التحديد الواضح لمبتغاها في انسجام مع السياسة العامة (للدولة او القيادة السياسية) أي التقدير الدقيق لملاءمة الغاية بالوسائل المتاحة من أجل بلوغ ما هو مأمول. لابد اذن من وضوح شاف للهدف المقصود ومن الحساب الدقيق للموارد الموجودة ولإمكانية تحقيق الغرض بتدبيرها. فتحقيق الغاية منوط بتناسب الوسائل الموارد مع قيم ومتطلبات الغاية وبكونها تسمح بالوصول الى تحقيق الأهداف الوسيطة (الانتصار في معركة محددة مثلا) التي تؤدي الى بلوغ الانتصار النهائي. صياغة الاستراتيجية لا تتم الا بعد التفكير في كيفية الوصول الى المبتغى ممل يفرض ضرورة تحليل وتفكيك السياق العام والخاص للواقع الذي ستنفذ فيه: الوضع الجغرافي، الظرف التاريخي، الوضع الاقتصادي والسياسي والقانوني والتكنولوجي والثقافي…وواقع القوى الذاتية التي ستعبأ لخوض غمار الصراع، نتائج التشخيص الاستراتيجي تحدد الدخول او لا في تنفيذ الاستراتيجية واحتمال النجاح او الفشل حسب موازين القوى الحقيقية او إمكانية تأجيل الدخول في الصراع حتى استواء الشروط الذاتية والموضوعية. لا يوجد أي علم يشرح كيفية تناغم الوسائل والغاية فلا يسع المفكر الاستراتيجي او القائد الا الاعتماد على ذكائه وحصافته وقدرته على الابتكار والتجديد لبناء مسار استراتيجيته.

2- تنفيذ الاستراتيجية:

تنفيذ الاستراتيجية يتم عبر وضع الإطار لإنجاز المهام المسطرة في التخطيط الاستراتيجي أي في تحقيق التكتيكات المؤدية لنتائج عملية تسمح بالوصول الى الغاية. يبقى في التنفيذ عامل مجهول أساسي وحيد هو إرادة الإنسان ومنسوب التحفيز لديه بغية انجاز المهام المخطط لها ومدى التزامه وجاهزيته لمتابعة الخطة. اما فيما يخص العوامل الأخرى الطبيعية فيجب على الاستراتيجية إيجاد صيغ العمل لتدليل صعابها. المهمة الأساسية للاستراتيجية هي تدليل الصعاب الناتجة عن عومل الطبيعة باعتماد عنصرين هما الحركة والمباغتة او المفاجأة:

  • الحركة متعلقة بالجانب الطبيعي المادي أي بحساب شروط الزمن والظروف أي المكان (الموضع والتضاريس والخصوصيات الطبوغرافية…) وقدرات التنقل (من ناحية الكم والكيف) وتوفر إمكانيات الكر والفر.
  • المفاجأة او المباغتة ترتبط بالجانب النفسي وتتطلب حسابات دقيقة، غير تلك المتعلقة بالجانب الطبيعي، لأنها تعمل على التأثير في الجانب المعنوي والاستعدادات السيكولوجية للعدو أو الخصم. لقد كانت المفاجأة دائما في قلب فن الحرب، وتظل، مثل عدم اليقين، جزءا لا يتجزأ من المجال الاستراتيجي.

مهما كانت الأهمية المخصصة لعنصر الحركة بدل المفاجأة او العكس، فان للعنصرين علاقة متلازمة. فالحركة تسبب المفاجأة والمفاجأة تدفع الى الحركة مما يتطلب من القائد معرفة التوقيت المناسب للدخول في الحرب والمعرفة الدقيقة بالمجال الجغرافي الذي يساعده على استغلال عوامله لجعلها في صالح جيوشه من حيث تنظيم وتدبير حركة قواته.

حسب سن تسو أربعة عوامل تلعب دورا أساسيا في تحقيق النصر يجب التحكم في تطبيقها بشكل صارم:

  1. وجود والاقتناع بالعقيدة التي تولد وحدة التفكير” انها تلهمنا نفس طريقة العيش والموت وتجعلنا بواسل لا نتزعزع امام المصائب والموت” (تسو “فن الحرب”).
  2. أخد الزمن بمعناه العام بعين الاعتبار. جعل كل عوامل الوقت (الفصول بتنوعاتها، النهار، الليل…) في مصلحة المعركة
  3. التأقلم مع المجال الجغرافي والاستفادة من جميع الإمكانيات التي يتيحها المكان وتحديد الأوضاع حسب المعطيات الزمكانية: العلو، الانخفاض، البعد، القرب، الانبساط…الليل، النهار، الشتاء، الثلج، الحرارة…
  4. القيادة ويعني بها حسن العلاقة بين القيادة والجنود وتعبير القائد عن حبه واحترامه وامتنانه لكل من هم تحت إمرته والعمل على الرفع من معنوياتهم والتحلي بالشجاعة والإقدام والقيم النبيلة…

التقدم في تنفيد الاستراتيجية يقتضي التزام المتدخلين بالوصول الى تحقيق الهدف الرئيسي وفق السياسة العامة المعتمدة من طرف القيادة السياسية ولكن سياق التحقيق هذا يفرض المرور من مواقف وأوضاع وسيطة، غير متوقعة في غالب الأحيان، مما يلزم التكيف معها بابتكار أساليب عمل جديدة واعتماد مواقف مطابقة. فحسب مبادئ الحرب يمكن تحديد العمل الاستراتيجي في تعبير واحد هو “تمركز القوى ضد الضعف” بمعنى العمل على تشتيت قوات العدو مقابل تمركز القوات الهاجمة. باعتبار هذا المبدأ يقدم بازيل ليدل هارت في كتابه “الاستراتيجية” ثمانية بديهيات يمكن اعتمادها كتوجهات استراتيجية وتكتيكية منها الإيجابية و هي ستة و السلبية و هما اثنان:

  1. تعديل النهاية المرتقبة بالوسائل المتاحة: من أجل تحديد موضوع الفعل يجب اعتماد نظرة واضحة والقيام بحساب بارد. فبداية الحكمة تكمن في تمييز الممكن.
  2. الإبقاء على الموضوع بارزا امام الأعين مهما تم تعديل المخطط وفق الظروف. فلنعلم انه توجد دائما عدة طرق لتحقيق الهدف، ولكن يجب الانتباه الى ان كل هدف وسيط انعكاس على الموضوع الأصلي. مما يُلزم بحساب كل الأهداف الممكنة والمقارنة بين الإمكانيات المتاحة لتحقيقها مع اعتبار كل جدواها إن تحققت. فعدم الاستفادة من ظرف هامشي شيء مؤسف ولكن الاستمرار في البحث على تحقيق المستحيل سلوك قاتل.
  3. اعتماد خطة عمل تحول ضد كل توقع للعدو لما يتم الترتيب له: يجب وضع النفس مكان العدو والتفكير بانه لا يجب ان تكون له فرص التنبؤ او اعتراض ما يدبر.
  4. اعتماد خطة إضعاف كل إمكانيات المقاومة لدى العدو أي استعمال، على المستوى التكتيكي، كل الموارد الاحتياطية لتحقيق الهدف واعتبار كل نصر تكتيكي يؤدي الى تحقيق الاستراتيجية المتوخاة.
  5. على المستوى العملي اعتماد خطة تسمح باستعمال أهداف بديلة بحيث يحتار العدو في اختياراته ويعطينا إمكانية التركيز على اهداف ولو صغيرة ولكنها غير محصنة وبعد تحقيقها المرور الى أهداف تكتيكية أخرى تحو الهدف النهائي.
  6. التحقق في نفس الوقت من مرونة التخطيط والجهاز المنفذ حتى يتمكنا من التلاؤم مع ظروف المعارك. يجب ان يتصور التخطيط المرحلة المقبلة و تهيئ تنفيذها في كلا الحالات: الانتصار او الفشل او الانتصار الجزئي الذي هو الحالة الأكثر رجاحة في الحرب

أما فيما يخص المبادئ السلبية، فهي:

  1. يجب عدم الرمي بكل القوى في المعركة عندما يكون العدو يقضا، لأنه يسهل عليه اعتراض الهجوم أو تجنبه. بمعنى أنه، سوى في حالة الضعف الشديد للعدو، يجب البدا يشل إمكانيات مقاومته او قدراته لتجنب الهجوم.
  2. لا يجب معاودة هجوم بنفس الطريقة او الأسلوب بعد أن فشل في محاولة أولى، فتدعيم بسيط للوسائل العامة لا يشكل تغييرا كافيا لأنه من المحتمل ان يقوم العدو بنفس الدعم في نفس المرحلة، بل من المحتمل جدا ان يكون نصره المحقق قد قوى من معنوياته.

ما يجب استخلاصه من هذه المبادئ العملية هو كون الحقيقة في هذا الإطار هي ان الانتصار رهين بحل معضلتين أساسيتين: التشتيت والاستغلال. الواحدة تلو الآخر، فلا يمكن ضرب العدو بفعالية قبل ان نكون، في أول الأمر، قد ان اخترنا الظرف المناسب و اعتماد الاستفادة منه باستغلال تداعيات الضربة الموجة للعدو قبل ان ينهض من أوجاعها.

3- تقييم تنفيذ الاستراتيجية

      لا يستقيم أي تنفيذ للاستراتيجية دون تقييم مستمر لمسار تحقيق أهدافها. فهذه المرحلة تكتسي أهمية كبرى لأنها تسمح بتخبر عن كل خلل في التنفيذ و تسمح بالتالي بتصحيحه او باختيار طريق آخر للوصول الى المبتغى. وصيغة العمل هنا تفرض أسلوبين لرد الفعل: السرعة في تحليل نتائج التحليل والموضوعية في اختيار أدوات التصحيح.

 مرحلة تقييم تنفيذ الاستراتيجية هي عملية مستمرة تهدف إلى التحقق من فعالية الاستراتيجية، وما إذا تم تحقيق الأهداف، وتحديد مجالات التحسين. إنها أداة تحليل داخلي ينبغي استخدامها كجزء من تحليل استراتيجي أوسع للمنظمة. ويمكن اجمال مهامها في المحطات التالية.

1- تحديد الأهداف:

 ومن الضروري تحديد أهداف الاستراتيجية ومؤشرات الأداء الرئيسي بشكل واضح حتى نتمكن من قياسها.

 2- المراقبة المنتظمة:

إن مراقبة الأداء بشكل منتظم باستخدام مؤشرات الأداء الرئيسية تسمح بالتحقق من تحقيق الأهداف وما إذا كانت الاستراتيجية تسير على الطريق الصحيح.

 3- تحليل النتائج:

بمجرد جمع البيانات، لا بد من تحليلها لتحديد نقاط القوة والضعف في التنفيذ.

 4- تكييف الاستراتيجية:

اعتمادًا على نتائج التحليل، قد يكون من الضروري تعديل الاستراتيجية أو تعديل الإجراءات لتحسين النتائج.

 5- توصيل النتائج:

ومن المهم توصيل نتائج التقييم إلى أصحاب المصلحة (القيادة والأطر وما الفاعلين) لضمان الشفافية والمشاركة.

 حماس وطوفان الأقصى على ضوء ما سبق

إلى أي مدى يمكن اعتبار هذه الحرب (ولسي معركة فقط) التي شنتها حماس متطابقة مع تصورها الإستراتيجي وخاصة تنفيذه على أرض الواقع؟

 بدءا يجب تحديد الوضع والسياق الذي اندلعت في طياته هذه الحرب. باختصار شديد (مع ان في كل اختصار شيء من الاختزال) ان الصراع يدور بين دولة (كيان) مُؤسسة ومُنظمة سياسيا واقتصاديا وثقافيا (أي ايديولوجيا) وخاصة تكنولوجيا معترف بها ومُسندة من طرف الغرب برمته (نتكلم هنا عن الدولة وليس الحكومة الحالية التي بإمكانها فقدان التأييد الدولي) وتنظيم سياسي مقاوم يسيطر و”يسير” قطاع غزة المحاصر والذي لا يتوفر على كل المقومات الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية المطابقة لمطالب العصر والذي تسانده ماديا وعسكريا بعض دول المنطقة (بالخصوص أيران وتركيا وقطر) وتنظيمات سياسية مختلفة، ولكن يوجد في تناقض وصراع مع طرف مهم سياسيا على المستوى الفلسطيني والعربي “منظمة التحرير الفلسطينية” والسلطة الوطنية الفلسطينية.  أي ان كساندته محليا لا تتجاوز التنظيمات العاملة محليا (إسلامية ويسارية).

على المستوى الاستراتيجي أعلنت بيانات حماس وخاصة وثيقتها الرسمية المعنونة بـ “هذه روايتنا …لماذا طوفان الأقصى؟” على انها “خطوة ضرورية واستجابة طبيعية تسعى لتحقيق أربعة أهداف:

  • التخلص من الاحتلال وإعادة إحياء القضبة الفلسطينية
  • استعادة الحقوق الوطنية وانجاز الاستقلال والحرية كباقي شعوب العالم
  • حق تقرير المصير
  • اقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس

إنها أربعة أهداف قصوى تلخص في الواقع مطالب الشعب الفلسطيني برمته والذي تتبناها كل فصائل المقاومة ومنظمة التحرير الفلسطينية. فهل كان بإمكان كتائب القسام وفصائل المقاومة الأخرى لوحدها ان تصل الى تحقيقها؟ هل هناك تناسب حقيقي بين الوسائل المتوفرة لديها وحجم متطلبات تحقيق هذه الأهداف؟ هل بالإمكان تحرير الأرض والإنسان وبناء الدولة الفلسطينية في ظل موازن القوى الراهنة في القطاع والمنطقة؟ هل بالإمكان إعادة إحياء القضية وفي أي شكل وإطار؟ …ألخ.

كما رأينا أعلاه نجاح تنفيذ اية استراتيجية رهين بتهيئة منهجها واسلوبها وأدواتها ومواردها ودراسة المعطيات الجغرافية والطبيعية ومدى استعداد الخصوم للمواجهة…

وأحد النقاط الجوهرية التي يقتضي التفكير الاستراتيجي الإجابة عنها هي التالية: هل العمل الهجومي الذي سنقوم به يتوفر على كل الموارد الضرورية للقيام به؟ وهل السياق العام والخاص يسمح بذلك؟ وهل أسلوب العمل الذي اختير لإنجاز الهجوم مطابق لذلك؟

ما يمكن ملاحظته من بيان حماس الصادر ب 21 يناير 2024 هو انه لا يوضح اية تراتبية في الأهداف المقصود إنجازها فالأهداف الأربعة تتقاسمها كل فصائل المقاومة وعملت الى حد الآن بوسائل وأساليب مختلفة على إنجازها ولكنها لم تنجح الا جزئيا في تحقيق إمكانية الصمود في وجه الكيان الصهيوني رغم النتائج المحققة من طرف السلطة الفلسطينية على الصعيد الدبلوماسي.

فهل قدرت حماس تناسب هجوم 7 أكتوبر مع رد فعل الدولة الإسرائيلية المسنودة من طرف الغرب؟

لقد أفلحت حماس في ايهام الكيان الصهيوني بأنها خاضعة للأمر الواقع ولمدة سنوات أقنعته بتسهيل توفير الشغل لمواطني غزة في الكيان وفي المقابل قبلت إسرائيل باتفاق مع الولايات المتحدة بتحويل المساعدات المالية القطرية الى حكومة حماس بالقطاع.

 لقد كان هذا الأيهام جزء مهم من استراتيجية المقاومة الإسلامية لإضعاف يقظة الكيان الصهيوني. كما رأينا سابقا ان الفعل الاستراتيجي يتكون من عاملين: المباغتة والتحرك. وقد كان 7 أكتوبر2023 درس بليغ في المباغتة وحساب دقيق خلق عند الكيان دهشة شلت رد الفعل الفوري لقواه الدفاعية.

لقد أعادت أحداث ذلك اليوم مفهوم المفاجأة الإستراتيجية إلى الواجهة. يفترض هذا المفهوم أنه من أجل الحصول على ميزة استراتيجية على الخصم، يجب القيام بعمل لم يتوقعه، مما سيؤدي بالتالي إلى تقدم استراتيجية الهجوم الخاصة. وقد خضع هذا المفهوم، الذي يستخدم في كثير من الأحيان في المجال العسكري، لتحول دلالي منذ عدة سنوات، وخاصة منذ أحداث 11 سبتمبر 2001، حيث أصبح من الممكن استخدامه خارج الصراعات العسكرية بين الدول من قبل مجموعات قتالية عابرة للحدود الوطنية. ومن أشهر الأمثلة على المفاجأة الاستراتيجية التقليدية الهجوم الياباني على بيرل هاربور والهجوم المصري في حرب يوم الغفران. وفي تعريفها الجديد، تتجلى المفاجأة الاستراتيجية في هجمات 11 سبتمبر2001، والآن في هجوم حماس في السابع من أكتوبر 2023. وهذا يعني أنه من وجهة نظر المهاجم عمل ناجح، ومن وجهة نظر الضحية فشل في تنظيم دفاعه. دون إهمال شروط نجاح المفاجأة الاستراتيجية، والتي تطلبت إعدادًا واسع النطاق ودقيقًا من جانب واضعيها، فمن المثير للاهتمام أن ننظر إلى المفاجأة الاستراتيجية من وجهة نظر أخرى، أي فحص الأخطاء أو الثغرات أو العيوب في البنية الدفاعية لبلد ما والتي حولت هجومًا، مهما كان مهمًا، إلى مفاجأة استراتيجية.

إن المفاجأة الإستراتيجية لا ترتبط فقط بأخطاء أحد الطرفين، بل ترتبط أيضاً بنجاح الطرف الآخر. ورغم أن نظام الدفاع الإسرائيلي أظهر عدداً من العيوب التي كانت في مجموعها عناصر رئيسية للمفاجأة، فإن قدرة حماس على تنفيذ مثل هذا الهجوم واسع النطاق لا ينبغي أن نتجاهلها. ولكن إذا كانت المفاجأة تخلق تأثيراً مذهلاً في لحظة حدوثها، فيجب أن يؤخذ في الاعتبار أنها محفوفة بالمخاطر للغاية إذا تم استخدامها دون خطة موضوعة بعد وقوعها. وبعبارة أخرى، يجب على المهاجم أن يأخذ في الاعتبار رد الفعل المتوقع للخصم وأن يستعد للإجابة عليه. ورغم هذا التحول في العلاقات الذي حدث في السابع من أكتوبر، فقد أظهرت إسرائيل قدرة على الصمود في مواجهة هذا الهجوم، مما أدى إلى إعادة إطلاق صراع إقليمي بدا كامناً، وليس من دون إثارة الجدل.

فالضربة المباغتة الي وجهتها المقاومة الفلسطينية الى الكيان الصهيوني كانت موجعة وعدد القتلى الإسرائيليين في يومين بلغ عددا غير مسبوق مما اثار ردة فعل مضادة بعد الاستفاقة من هول الصدمة. وهنا يكمن، من وجهة نظر الاستراتيجي، السؤال الأساسي: ما العمل من أجل امتصاص الهجوم المضاد وبأية آليات وأي أسلوب يمكن إضعافه بل القضاء عليه؟

كما قال ماكيافيل ” “الخطأ الرئيسي للإنسان هو عدم قدرته على التنبؤ بالعاصفة خلال الطقس الجيد (مكيافيلي، الأمير، 1532).

لقد عملت المقاومة على استغلال نتائج هجومها مما كان يقتضي منها تحصين مكتسباتها والتي تمثل الرئيسي منها في الحفاظ علة المحتجزين والتصدي لقوات العدو باستغلال الهجومات المفاجئة باستعمال الأنفاق والهجوم بالصواريخ على المدن الإسرائيلية بالخصوص تلك المتاخمة للقطاع وللبنان بعد انضمام حزب الله الى المعركة ومحاولة توسيع رقعة “وحدة الساحات”.

رد فعل العدو كان قويا واخذ صبغة همجية أتت على الأخضر واليابس واستهدف المدنيين العزل لتوسيع الهوة والتناقض بين الشعب والمقاومة. استعمل من أجل ذلك كل ترسانته الهجومية “التقليدية” واستعان بكل الدعم المادي والعسكري والتواصلي للولايات المتحدة ودول غربية أخرى واستقوى بكل الإمكانيات الحربية الجوية (الطيران والصواريخ بكل أصنفها) وسخر وسائل التكنولوجيا العملية (الذكاء الاصطناعي). بعد ثلاثة أشهر من العدوان ظهر جليا ان على هذا المستوى موازين القوى مختلة لصالح إسرائيل وحلفائها.

من جانبها أظهرت المقاومة بسالة منقطعة النظير بالنسبة لكل مراحل الصراع العربي الصهيوني واستعملت كل ما لديها من أنواع الأسلحة التقليدية و”المبتكرة” من صواريخ متنوعة وبقي سلاحها الاستراتيجي الأساسي هو استعمال الأنفاق وسلاح الحلفاء في الساحات المجاورة لفلسطين والرأي العام العربي والعالمي.

هنا يجب على المحلل الاستراتيجي ان يُبين الفرق في القوى والتكتيك المستعمل من الطرفين. الهدف الاستراتيجي الراهن لإسرائيل كان واضحا من البداية: دحر المقاومة والاستيلاء على الأرض (غزة) وافراغها من سكانها. اما الهدف الثاني فهو تحرير الأسرى. أبانت القيادة الصهيونية على استهزاء تام بتأثير الرأي العام الإسرائيلي والدولي وكل أشكال الامتعاض والاستنكار لهمجية حربها ضد الشعب الفلسطيني سواء في القطاع او الضفة. وتعاملت باستهتار مع كل قرارات الأمم المتحدة والهيئات القانونية الدولية.

من جانب المقاومة كانت حرب العصابات هي الأسلوب المعتمد انطلاقا من الأنفاق باستخدام صيغ المباغتة والايهام وسرعة الحركة. مما أعطاها إمكانية إعطاء العدو ضربات موجعة سواء على مستوى الجنود او مستوى الاقتصاد بشل كل مدن المناطق المجاورة لحدود القطاع او شمال لبنان وجبار إسرائيل تهجير عشرات الألاف من موطنيها.

 ولكن الإشكال الاستراتيجي يكمن في كون ما بدأ وكأنه هجمة مباغتة أصبح حربا ضروسا وما كان بالإمكان جنيه كمكتسبات من ضربة 7 أكتوبر أصبح من الازم على المقاومة تحصينه بتقوية المنجزات على الأرض وإعادة توحيد صفوف المقاتلين وتعزيز التعبئة الجماهيرية واضعاف عزيمة العدو بإطالة مدة استنزافه.

في الواقع ان كل مقاومة معتمدة حرب العصابات انتهت في الأخير كحرب متناظرة كلاسيكية حين تمكنت جموع المقاومين من ان تتكتل كجيش نظامي وان تحتل الأرض وتبني لنفسها مقومات الصمود ثم الانقضاض على قلاع العدو (انظر تجارب الحرب الثورية في الصين وفيتنام وكوبا…الخ) وخاصة بعد ان وضحت استراتيجية ما بعد الحرب. ما نراه في غزة بعيدا عن كل هذا. فالهدف الاستراتيجي لطوفان الأقصى ليس بالوضوح اللازم: هل كان الهدف هو فك الحصار على غزة ام تحرير فلسطين وفرض تقرير المصير ام تحرير المعتقلين الفلسطينيين…ما هو الهدف الاستراتيجي الذي كان يتطلب تعبئة كل هذه الموارد المادية والبشرية المتاحة من اجل تحقيقه؟ ما تحقق من هذا الهدف وما بقي عالقا الى مناسبة أخرى؟ وهل يتم فعلا التفكير في المعركة المقبلة؟ هل الأسلوب النضالي المتبع كان مناسبا لمتطلبات انجاز الهدف الاستراتيجي؟ هل كان لا بد من الاستمرار في الحرب رغم ان لا هدف تحقق في المرحلة الثانية من الحرب؟

إن طوفان الأقصى تم في قطاع غزة بالأساس أي كان حربا موضعية في إطار جغرافي محدود رغم ان المقاومة اعطته عمقا عن طريق الأنفاق التي بنيت بطريقة فريدة، فالفيتناميون استعملوا الانفاق كوسيلة مكملة للاختفاء والتنقل ولكن في مجال جغرافي واسع وبتضاريس مختلفة وصعبة في غالب الأحيان (الغابات والجبال والأنهار) مما سهل حركة المقاومة وأعطاها إمكانية استنزاف الجيش الأمريكي ودحره من موقع الى آخر حتى تطويق عاصمة البلد سايغون. في مجال تجربة حماس ان الإطار الجغرافي وضعف امكانياتها التكنلوجية تجعلها من الوهلة الأولى في موقع ضعف رغم تنوع الأساليب التكتيكية المتبعة لأن العدو تمكن من استجماع قواه وتعبئة موارده والاستفادة من الإمكانيات التي يوفرها الجو (الطيران وخاصة الأخبار الواردة من الأقمار الاصطناعية).

إن تدبير الحرب في هذا الزمن الذي تلعب فيه العلوم والتكنولوجيا دورا أساسيا يتطلب أكثر من العزيمة وحب الوطن من أجل الانتصار. فهل كان من الضروري الاستمرار في الحرب رغم كل النواقص التي أشرنا اليه.  وكل الضحايا والخراب الذي دمر كل غزة الى حد ان لا حماس ولا أي فصيل من المقاومة بإمكانه معاودة الكرة في الأجل المنظور. بل انتقلنا من هجوم 7 أكتوبر والإحساس بالانتصار الى وضع سُلبت فيه ارض القطاع اصبح لزام العمل على الدفاع من أجل عدم الاستسلام وتسليم السلاح.

 في العديد من الحروب وجد القادة أنفسهم في أوضاع تستلزم منهم، وهم في خضم المعركة، ضرورة إعادة النظر في تطلعاتهم ومشاعرهم وذلك في آخر المطاف في مصلحة تصاميمهم. فإن كانت الحرب مناقضة للعقل لكونها تستعمل العنف حين يصبح النقاش غير صالح للتوصل الى حل مناسب للجميع، فان تدبيرها يتطلب بالضرورة استعمال العقل لكي يتم الوصول الى النتيجة المرجوة. فمهما يكن الصراع مبني على القوة فان توجيهه يبنى حسب مسار عقلي. فوضوح الاستراتيجية يسهل الوصول الى ما نصبو اليه ويخفض من ثمن فاتورة العملية. وعلى عكس ذلك، بقدر ما نصب المزيد من الموارد في المعركة من دون تبصر فإننا نضع أنفسنا في خطر مواجهة انعكاس الوضع ضدنا وحتى لو انتصرنا فإننا سنكون في حالة ضعف لا تمكننا من الاستفادة من حلاوة الانتصار.

لقد سجلت ملحمة 7 أكتوبر انتصارا ملحوظا بناءً على استراتيجية المباغتة وسنوات ايهام العدو بالرضوخ وقبول الأمر الواقع عملت خلالها المقاومة في غزة بصمت وسرية بناء أدوات العمل المسلح (الأنفاق والصواريخ ومختلف البنادق…). كلف هجومها العدو خسارات كبيرة وألزمته إعادة النظر في طريقة تعامله مع القطاع. إن النصر الذي تحقق في 7 أكتوبر كان يفترض أن للمقاومة حلول (عسكرية واقتصادية ونفسية) على المدى المتوسط لتجعل العدو غير قادر على ترميم صفوفه وإعادة بناء قواه. لكن الأوضاع الجيو-استراتيجية للقطاع ومحدودية الإمكانيات المادية المتوفرة لدى المقاومة وعدم وضوح الرؤيا الاستراتيجية لديها منذ البدا وتمكن العدو من الحفاظ على تحالفاته مع الغرب عامة والولايات المتحدة خصوصا لم تسمح للمقاومة بإيقاف ردة الفعل الصهيونية. ولهذا أصبح مع الأسف انتصار 7 أكتوبر مهزوما في النهاية وأصبح ظهر المقاومة أمام الحائط.

بعيد عنا أي تشف في المقاومة أو بحث لإعطائها اية دروس، ولكن نؤمن انه لزاما علينا ان ندلي بوجهة نظرنا كمناصرين لقضيتنا الفلسطينية وللنقاش حول معطيات المعركة وليس حول مشروعيتها حتى نتفادى السقوط في نفس الخطء مستقبلا. فالعمل من أجل بناء الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس لازال طويلا ويتطلب بالضرورة بناء وحدة الصف الفلسطيني على أسس رؤية سياسية عملية متقاسمة من طرف جميع الفصائل منضوية تحت لواء منظمة التحرير الفلسطينية وبقيادة سلطة وطنية معبرة على كل أطياف المجتمع.  بمعنى آخر، لا نظن ان نصر ممكن ما دامت الرؤية الاستراتيجية لعملية التحرير غير متقاسمة بين كل الفاعلين السياسيين وأنهم رغم “تنوع” تكتيكات تدخلانهم ملتزمون بتحقيق الهدف الأسمى بالنسبة لشعبهم في إطار تنظيمي وسياسي موحد.

 فالانتصار لا يكون دائما بخوض العمل العسكري المسلح اذ يمكن بناء استراتيجية العمل حول أشكال نضالية سلمية ولكن قادرة على التعبئة الشعبية ومرتبطة بالصمود في المواقع التي تعيش فيها الجماهير او تنظم عيشها فيها. ثانيا، التطورات التكنولوجية التي يعرفها عالمنا والتي توظف بمهارة في عالم السلاح والحرب تفرض على المحاربين والمناضلين اتخاذ اساليب جديدة للتحرك: مناهج تعمل على تغطية ومراقبة المجالات بدل السعي الى الاستيلاء على الخطوط، وتشل فعل العدو (موضوع عملي) بدل العمل على إبادة قواته (موضوع نظري) حيث انه بإمكان انسياب الوسائل الفعلية ان تنجح بدل تمركز ها في إطار جامد يهدد وجودها.

___________________________________________________________________

[1] Strategos     في القرن الخامس قبل الميلاد ، كان استراتيجوس أو استراتيجي قاضيًا منتخبًا أو مختارًا يوجه بشكل خاص شؤون السياسة العسكرية في أثينا. في عام 900، تحدث الإمبراطور البيزنطي ليو السادس الحكيم في أطروحته عن تكتيكات “فن الاستراتيجيات” لترجمة اللاتينية Ars bellicas

[2] Lieutenant-Colonel Paul-Gédéon Joly de Maizeroy  ازداد بمدينة ميتز بفرنسا سنة 1717و توفى سنة 1780

[3] نظرية النهج غير المباشر هي نظرية في الجغرافيا السياسية وعلم الجدل اقترحها باسل هنري ليدل هارت في عام 1929. وتجادل بأن النصر يمكن تحقيقه من خلال إجراءات غير مباشرة محدودة تزعزع استقرار العدو، وليس من خلال المواجهة المباشرة البسيطة…hمنشور بالفرنسية

[4] Maximes de guerre de Napoléon

[5] هلموت كارل برنهارد، كونت فون مولتكه، ولد في 26 أكتوبر 1800 في بارشيم، وتوفي في 24 أبريل 1891 في برلين، كان مشيرًا بروسيًا (جنرال فيلدمارشال) خدم كرئيس لهيئة الأركان العامة للجيش البروسي، ولا سيما خلال الحروب ضد النمسا في عام 1866 وضد فرنسا في 1870-1871.

[6] كان السير باسل هنري ليدل هارت (31 أكتوبر 1895 – 29 يناير 1970)، المعروف باسم الكابتن بي. إتش. ليدل هارت طوال معظم حياته المهنية، جنديًا بريطانيًا ومؤرخًا عسكريًا ومنظرًا عسكريًا. ألّف سلسلة من الكتب التاريخية العسكرية التي لاقت صدىً واسعًا بين الاستراتيجيين. جادل بأن الهجوم المباشر محكوم عليه بالفشل، متكبدًا خسائر فادحة في الأرواح، كما ثبت في الحرب العالمية الأولى، وأوصى بـ”النهج غير المباشر” والاعتماد على التشكيلات المدرعة سريعة الحركة..

شارك هذا الموضوع

د. عبد الوهاب الصافي

متخصص في تدبير الموارد البشرية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!