التجريب المسرحي العربي بين المراجعة والتراجع
د. عبدالكريم برشيد
فاتحة الكلام
عبد الفتاح ابطاني، هو كاتب و باحث تفاعل مسرحي في الوطن المسرحي، وهو في (مسرحا) إنسان بنزعة إنسانية احتفالية, يعشق المسرح والمسرح يعشقه، وهو إنسان مدني معتز بإنسانيته وبمدنيته وبثقافته ولغاته، وهو مثل كل عشاق المسرح الصادقين في العالم، يرى أن روح المسرح هو الاحتفال، وبأن وجود مسرح بدون روح وبدون وجدان وبدون هو مسرح ميت، أو هو في حكم الجسد الميت.
ولعل هذا هو ما جعل هذا المسرحي الصادق، يقول كلمته الحكيمة التالية في علاقة الإنسان بالمسرح وبالحياة وبالاحتفال وبالعيد (ما أشقاك، أيها الإنسان.. تحتفل ولم تدر أنك تحتفل… وإن عدت يوما، فاعلم أن عودتك احتفال.. تحياتي لكل مبدع في وطني..).
هو المسرح احتفال إذن، هكذا هو في البدء والختام، وفي الذهاب والإياب، وفي الحضور والغياب، لأن الاحتفال حياة والحياة احتفال، وأجمل وأصدق كل المحتفلين هم الذين يعرفون أنهم يحتفلون، في مسرح الوجود وفي المسرح المسرحي معا، وأنه خارج فضاء الاحتفال لا وجود إلا للعدم، ومن هذه الدرجة الأولية والأساسية ينبغي أن نعيش التجربة المسرحية، مغربيا عربيا وكونيا، وذلك قبل أن ننتقل إلى الدرجة التالية، والتي هي درجة التجريب العلمي والفكري والجمالي.. التجريب الفاهم والعالم بكل تأكيد.
أما المخرج المسرحي “كبير ديكار” فقد دخل عالم المسرح يجسد طفل وبروح طفل وبوجدان طفل وبعين طفل، معتبرا أن العمر تجربة، قبل أن يكون تجريبا، منطلقا في بحثه عن مسرحه ـ مسرحنا ـ من فكرة أساسية وتأسيسية تتمثل في أن هذا المسرح، في معناه الحقيقي، هو ظل حياتنا، أو هو عطر حياتنا، أو هو عنوان وجودنا، ومن ضيع هذا العنوان في الوجود فإنه لا وجود له، وأعتقد أن من حقنا أن نقول اليوم وفي كل يوم، بأن اصدق كل المسارح في التاريخ والجغرافيا هي المسارح الصادقة، بعيدا عن الادعاءات وبعيدا عن المزايدات وبعيدا عن العناوين الكاذبة والشعارات الخادعة والمضللة، وهذا المسرحي الاحتفالي، الشاهد والمشاهد، هو الذي قال في تعقيبه على النفس الأخير من هذه الكتابة الاحتفالية ما يلي:
(صدقت أستاذي الفاضل، كثيرة هي الأعمال التي أساءت إلى المسرح باسم التجريب، وهي في الأصل تفتقد إلى أبسط مقومات الاتجاه التجريبي، فالتجريب عند “أرتو” مثلا يقوم على تصور فلسفي أو جمالي يهدف التجديد، وعند “بريشت” يرتبط بمعرفة القوالب وتجاوزها من أجل إبداع الجديد، ووفق أعمالكم استاذي الفاضل، يتجلى التجريب في كسر الحبكة وتوظيف السرد والشعر وتأثيث الفضاء المسرحي بشكل مبتكر، ونرى في أعمال “الفنان سعد الله ونوس” ارتباط التجريب بقضايا المجتمع وأسئلته الوجودية، والتجريب عند الطيب الصديقي له أيضا أسسه ومقوماته.
فالتجريب في المسرح ليس شكلا فارغا يأتي من مجرد الرغبة في المغامرة وكسر المألوف وتجاوز النمطية. بل هو نزعة إبداعية تستند إلى تصور فلسفي وفني يستدعي فعل التجريب، ورؤية واعية تبحث عن بدائل وصيغ جديدة تواكب التحولات. لأن المسرح، وكما بينتم أستاذي في كثير من محطاتكم التنظيرية، فن حي يتجدد باستمرار، وهذا التجدد قد يستدعي التجريب، ولكن التجريب، عند البعض قد يسحب النقطة من تحت الجيم ليضعها فوقه فيصبح تخريبا).
أما الفنان المسرحي والكاتب والسيناريست ذ، عبد الوهاب عكاوي، فهو في تواصل متجدد مع الكتابات الاحتفالية الجديدة والمجددة، وهو عادة لا يكتب تعقيبات على هذه الكتابات الاحتفالية، ولكنه يغنيها بإضافات فكرية وجمالية من وحي تجربته في مجال المسرح، وذلك على امتداد عقود طويلة جدا، وفي مقالته “الأخيرة” يمكن أن نقف عند الفقرة التالية، والتي يقول فيها:
(الدكتور عبد الكريم في رده وبحثه الاحتفالي جسد الاحتفالية، ليس عند المغاربة فقط، بل الاحتفالية التي لها تاريخ وحضارة و أصالة وقيم، وهي تركيبة ثقافية إبداعية عند مختلف الشعوب، وهذا هو المطلوب، الاحتفاظ بالثرات وتطويره مع الاحتفاظ بالجوهر، والجوهر لا يمكن أن يندثر، لكل شعب له تاريخ وحضارة، ولكنه معرض للاندثار عند الذي يعتمد على التقليد… رحل معظم أهل الغيوان وبقي الغيوان ولو غاب لمدة، لكن الأصيل يبقى أصيلا…
شكرا لك الدكتور عبد برشيد على اجتهادك في الاحتفالية وشكرا أنك أحييت الاحتفالية في بلدك وأعطيتها كل الاهتمام، ومن خلال إصرارك قفزت وجوه اخرى مغربية ووجوه من مختلف القارات، وبحثت في وجودها وتواجدها، ورغم أن الهنود الحمر تعرضوا للإبادة الجماعية، لكنهم احتفظوا بتراثهم واحتفاليتهم كونهم شعبا أصيلا، والاحتفالية لا تنطبق عليها “امحمد قالو مات” ولكنها حية).
من يركب سفينة الاحتفالية لا يخشى الغرق
المنطق التجريبي يقول بأنه لا مستحيل في الفن، وانه لا ضفاف للإبداع، وبأنه لا حدود للخيال، وبأنه لا حد للجمال والكمال،
وفي فعل التجريب تفكيك للبنيات المعرفية والجمالية والتقنية القديمة؛ تفكيك عاقل بكل تأكيد، يعقبه إعادة بناء، وإعادة تركيب، وإعادة ترتيب، وإعادة صياغة، وذلك من منظور آخر مختلف، وفي فعل هذا التجريب شك مشروع في صحة الموجود، حتى يثبت صحته، وفيه يقين مؤجل، حتى تعززه الوقائع وتؤكده، وفيه احتمالات وفرضيات وتساؤلات بعدد لا يحصى، وكل ذلك بحثا عن الأصدق وعن الأجمل وعن الأكمل..
وفي التجريب قراءة حيوية لكل ألواح الحياة ولكل أبجديات الحياة ولكل لغات التاريخ، ولكل كتابات الكاتبين، ولكل أقوال القائلين، ولكل تصورات المبدعين، وفيه أيضا قراءة عالمة لسيكولوجية الإنسان المعاصر، وقراءة لسيكلولوجيات الجماعات والمجتمعات الحديثة.
ومن مهام هذا التجريب الجديد أن يصنع الذوق الجديد ، وأن يصنع الجمهور الجديد، ولا معنى لوجود مسرح تجريبي بدون فضاء مسرحي تجريبي، وبدون وجود جمهور مسرحي تجريبي، وبدون مؤسسات مسرحية تجريبية، وبدون مناخ ثقافي تجريبي، وبدون وجود معجم مسرحي تجريبي.
وبالنسبة للاحتفالي، فإن هذا المسرح التجريبي هو سفينة نوح، والتي تستطيع أن تحمل على ظهرها كل مخلوقات رب العالمين، وأن تسع جميع الناس وجميع الفنون وجميع العلوم وجميع الصناعات وجميع اللغات وجميع الثقافات، ولهذا نقول بأن من يركب سفينة التجريب لا يهوى الغرق، ولا يخشى الغرق، ولكنه يهوى السلامة والنجاة، وذلك لأن فعل التجريب هو أساسا مخاطرة، وفي التجريب العاقل والعالم كثير من حالات النجاة.
وبحسب الاحتفالي فإن من لا يعرف المسرح، ويسعى من أجل أن يعرف هذا المسرح، هو ألف مرة أحسن من ذلك الذي يعرف المسرح معرفة خاطئة ومغلوطة ومقلوبة مشوشة،
ما نبحث عنه في التجريب وما يلحق عنا
يقول الاحتفالي في كتاب (أنا الذي رأيت): (لقد رأيت أن الإدراك الحسي بدون إدراك حدسي هو إدراك ناقص، واقتنعت أيضا، بأن التجريب المادي البراني، بدون تجربة وجودية داخلية صادقة، لا يمكن أن يعطي إبداعا حقيقيا).
ثم ما معنى أن نجرب، إذا لم يكن فعل هذا هذا التجريب يكشف لنا عن الحقائق الخفية والجديدة والغامضة والبعيدة، وكان مجرد فعل روتيتي، يشتغل على المعروف وعلى البديهي، ليثبت لنا في النهاية كل ما نعرفه، وكل ما يعرفه معنا كل العالم؟ وهل يصح ـ مثلا ـ أن تجرب من أجل أن نثبت للعالم بان العجلة تدور، وبأن الملح مالح وبأن السكر حلو، وبأن يوم الجمعة ليس هو يوم الخميس ولا هو يوم الأحد؟
مثل هذا التجريب العبثي هو الذي يمارسه كثير من المسرحيين المغاربة والعرب، والذين يعيدون اكتشاف أمريكا مثلا، والذين لا يضيفون إلى ما هو موجود أية قيمة مضافة.
شيء مؤكد، أن البديهيات والمسلمات لا تحتاج الى تجريب، وأن ما هو معروف لا يحتاج إلى تعريف، وبذلك فقد كان كثير منا نسميه تجريبيا مجرد فعل عبثي وبلا معنى.
وفي إحدى دورات (مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي)، وفي عدد من نشرته اليومية، يقول الاحتفالي ما يلي:
(يقول شمس الدين التبريزي: (إن الذي تبحث عنه يبحث عنك)، وهذا هو حالنا مع هذا الذي نسميه التجريب المسرحي أو المسرح التجريبي، والذي قد تعشقه نحن، من غير أن يبادلنا حبا بحب، ليكون لهذا الحال معنى العشق من طرف واحد، ولا شيء أقسى على النفوس العاشقة من أن تحيا العشق من طرف واحد).
في الغرب الأوروبي جاءت كل التيارات من تلقاء نفسها، جاءت السوريالية في زمنها، وجاء اللامعقول في حينه، وجاء المسرح الملحمي في إطار شروطه الايديولوجية المتمثلة في الماركسية، أما هنا، فإن الأمر لا يتعدى فعل التقليد، والذي قد يمارس تحت عنوان التجديد والتجريب، وما هو لا تجديد ولا تجريب..
وفي البيان الثالث في كتاب (البيانات الجديدة للاحتفالية المتجددة ـ بيانات لنظام مسرحي عربي جديد)، وتحديدا في البيان الثالث الذي يحمل اسم (البيان الثالث: بيان التجربة والتجريب)، نجد أنفسنا في هذا البيان أمام العناوين الفرعية التالية
ــ حد السؤال وحد المسألة
ــ التجريب بين الإقامة والرحيل
ــ روح التجريب قبل فعل التجريب
ــ الرؤية العلمية الكلية أولا
ــ التجريب وروح اللحظة الحية
ــ التجريب بين إنتاج المعنى وإنتاج اللامعنى.
ــ تيار مسرحي بأي معنى؟
ــ كلمة عن روح هذا البيان
ــ مورفولوجيا التجريب المسرحي
ــ المسرح والتجريب والتراث
ــ التجريب والنص المسرحي
ــ سلطة الكاتب أم سلطة الاحتفال؟
ــ عجز الكتابة أم عجز الكاتب؟
وكل عنوان من هذه العناوين الفرعية يمكن أن يكون كتابا، وأن يكون في كتاب من هذه مضامين فكرية وعلمية حقيقية، وأن تكون في مجموعها بحثا عن التجريب الحقيقي في المسرح الحقيقي.
تجريب غير حقيقي هل يؤسس مسرحا حقيقيا ؟
ويقول الاحتفالي في البيان الثالث (بيان التجربة والتجريب)، من كتاب (البيانات الجديدة للاحتفالية المتجددة) ما يلي:
( إنني اليوم، في بدء هذا البيان الجديد، أقول بأنني لا أملك إلا أسئلتي، والتي قد تكون أسئلتكم أيضا، وبأن هذه الأسئلة مفتوحة من كل الجهات على كل الأجوبة الممكنة، وبأنني لست إلا عاشقا وشاعرا ومسافرا ومكتشفا ومتنبئا، وأنه لولا عشقي للعوالم الجديدة ما كتبت اليوم هذه البيانات الجديدة، ولما عشت هذه الرحلة المعرفية والجمالية الجديدة، وإنني لا أعدكم في هذه المقدمة إلا بما يلي، وهو أنني أمارس حقي في الشغب المعرفي والجمالي، وأنني لن أناقش البديهيات والمسلمات، وأنني سأحتفظ بحسي الطفولي أمام الناس والأشياء المغلقة، وبأنني سأحتفظ باندهاشي أمام الكلمات والعبارات المثيرة والمبهرة، وبأنني سأكون قارئا حرا و متحررا، وذلك أمام الضرورات والاختيارات).
وهذا العبث الذي نمارسه اليوم، هو شبه تجريب وليس تجريبيا حقيقيا، وهو يعتبر الجرأة في حد ذاتها فتحا مبينا، في حين أن أية جرأة، خارج العقل وخارج حدود الفن وخارج حدود اللياقة هي وقاحة بكل تاكيد، وليس أي شيء آخر.
أما في (البيان الثاني لجماعة المسرح الاحتفالي)، والذي صدر سنة 1980 من مدينة تطوان، فإنه يمكن أن نقراأما يلي:
(فى المسرح التقليدى تقدم الأحداث للمتفرج. وقد تكون هذه الأحداث مدهشة. لأنها مخالفة لما هو حقيقى ولكنه (الجمهور) لا يملك أمامها إلا الصمت. لماذا؟ لأن الخشبة عالم والصالة عالم آخر. وبين الإثنين مسافات مكانية وزمانية كبيرة “هناك عالمان. يتوازيان”، ولكنهما أبدا لا يلتقيان. أما بالنسبة إلى المسرح الاحتفالى، فليس هناك غير عالم واحد. هو هذا الفضاء الذى نعيش بداخله، وغير زمن واحد، وهو (الآن) ومكان واحد هو (هنا). ان ما نشاهده لآ يمكن أبدا أن ينفصل عنا، إنه «صورتنا كما تظهر في المرآة، وهل يعقل أن يتفرج الإنسان على حياته من غير أن يفعل أى شىء؟ من هنا تنبع ضرورة القول بمعايشة الابداع، وذلك عوض (التفرج على الإبداع).
وعلى غرار مقولة (كل إبداع تجريب وليس كل تجريب إبداع) يمكن أن نضيف المقولة التالية:
(كل مسرحية احتفال وليس كل احتفال مسرحية).
والمطلوب من المسرحي المبدع والخلاق أن يرتقي بهذا الاحتفال الخام، إلى درجة الاحتفال العلمي والفكري والجمالي المركب.
ويقول الاحتفالي إن من لا يعرف المسرح، ويسعى من أجل أن يعرف هذا المسرح، هو ألف مرة أحسن من ذلك الذي يعرف المسرح معرفة خاطئة ومشوشة، ولهذا يكون من واجبنا اليوم أن تراجع كثيرا من قناعاتنا البالية، وأن نجدد علاقتنا بالمسرح والتجريب من بوابة العيد والاحتفال ..
