التحولات الكبرى في المنطقة وانعكاسها على لبنان

التحولات الكبرى في المنطقة وانعكاسها على لبنان

أحمد مطر

          يشهد لبنان تحولات دراماتيكية في الأشهر الأخيرة، تكاد تنبئ بانعطافة تاريخية في اطار استعادة القرار الدولتي، لا سيما في ما يتعلق بمسألة السلاح غير الشرعي. من حزب الله إلى المخيمات الفلسطينية، تتقدم مشاريع تفكيك القرار الموازي على وقع ضغوط دولية متصاعدة، وإشارات داخلية توحي بمحاولة استعادة الدولة زمام المبادرة  

وفي هذا السياق بدا الامتعاض واضحاً على تعابير وجه رئيس كتلة الوفاء للمقاومة النائب محمد رعد، بعد مقابلة وفد الكتلة رئيس الجمهورية جوزف عون في قصر بعبدا، ولم تنفع معها كل عبارات الملاطفة المصطنعة التي تلفَّظ بها بعد اللقاء، في اخفاء حجم الخلاف الحاصل بين اصرار الدولة على تنفيذ تعهداتها بموجب اتفاق وقف اطلاق النارالذي وافقت عليه لانهاء الحرب بين إسرائيل والحزب في نهاية شهر تشرين الثاني الماضي، لنزع سلاح الحزب، وحصر السلاح بالدولة اللبنانية دون سواها، ورفض الحزب لهذا التوجه بالرغم من موافقته وتأييده للاتفاق المذكور، كما بيان حكومة الرئيس نواف سلام، الذي يشدد في كل مناسبة على الالتزام بتنفيذ مضمون البيان الوزاري بهذ الخصوص .

كان من المفترض ان يتناول اللقاء مع رئيس الجمهورية،استنادا إلى ما تم تداوله مؤخراً مواقف الحزب من طلب الدولة، تسليم ما تبقى من سلاحه.

أجوبة حزب الله على طلب الدولة، أعلنها قبل ساعات من اللقاء مع الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم، رافضا تسليم السلاح، لأن الحرب مع العدو الإسرائيلي ماتزال مستمرة، ولم تنتهِ بعد.

يحاول حزب الله في مواقفه الالتفاف على موافقته على اتفاق وقف إطلاق النار، والالتفاف على نصوص نزع سلاحه الواردة في القرار 1701، بحجج وذرائع باتت معلومة للجميع، وفي مقدمتها بقاء الاحتلال الإسرائيلي في مناطق جنوبية، وتارة ان السلاح هو لدعم الجيش اللبناني في التصدي للاعتداءات الإسرائيلية وغير ذلك، تهرباً من تسليم سلاحه، بعدما بادرت الدولة إلى بسط سلطتها ونزع سلاح التنظيمات الفلسطينية الموالية للحزب والنظام السوري السابق في الناعمة والبقاع، بداية، وهي تحضِّر باتجاه باقي المخيمات الفلسطينية قريبًا  

جواب الدولة، إن حماية لبنان تقع على مسؤولية الجيش اللبناني وحده، وسلاح الحزب لم يحمِ لبنان في ذروة قوته ولم يحمِ الحزب نفسه، وبالتالي، والحكومة جادة باتصالاتها لاستكمال انسحاب إسرائيل من المناطق التي تحتلها جنوبا، ووقف خروقاتها وعدوانها على لبنان، وليس مسموحا العودة إلى الوضع الذي كان قائما قبل اندلاع المواجهة العسكرية بين الحزب وإسرائيل قبل السابع من تشرين الاول عام 2023 .

في هذا السياق، تسجل مصادر دبلوماسية غربية ما تصفه بالتقدم الاستثنائي في ملف تحييد سلاح حزب الله وهو تطور لم تحققه واشنطن على مدى تسعة عشر عامًا منذ صدور القرار 1701 في أعقاب حرب تموز 2006. وتردهذه الأوساط هذا التقدّم إلى تضافر إرادة داخلية عابرة للإصطفاف السياسي والطائفي باتت تجمع على وجوب أن تسترد الدولة قرارها السيادي في سياق استراتيجية أمن وطني لا محل فيها للسلاح الخارج عن الشرعية .

لكن هذا المسار، وإن بدا طموحًا، محفوف بعقبات جمة، ليس أقلّها الانقسام الداخلي. وأتت الغارة الإسرائيلية الأخيرة التي استهدفت ما قيل إنه مستودع صواريخ قرب وسط بيروت، لتزيد المخاوف من أي تلكؤ إضافي في إيجاد الحل الجذري. ومهما كانت دقة الرواية الإسرائيلية، فإن رمزية الضربة في العاصمة ترفع منسوب التوتّر، وتذكر بأن استمرار وجود السلاح خارج الدولة ليس فقط مشكلة سياسية، بل تهديد وجودي للمدن والسكان والاقتصاد.

في الموازاة، تبدو واشنطن أكثر وضوحًا من أي وقت مضى. هي تجزم بأنه لا يمكن للبنان أن يتحول إلى دولة ذات سيادة وجاذبة للاستثمارات، طالما بقيت السلطة الفعلية في يد بنية عسكرية-سياسية موازية. ولذلك تربط الإدارة الأميركية بين تحييد سلاح حزب الله وتحرير الدولة من القرار الأمني الموازي، وبين تنفيذ إصلاحات هيكلية اقتصادية ومالية تعيد لبنان إلى خريطة النمو بدل التبعية.

وتدفع الولايات المتحدة، مدعومة بدور فاعل من قطر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة نحو رؤية جديدة للبنان، قوامها شراكات اقتصادية مستدامة، وبيئة تشريعية شفافة، وإصلاحات تبدأ من رفع السرية المصرفية وتطال القضاء والتعيينات الأساسية في الإدارة، خصوصًا في القطاعين المالي والمصرفي. أما الهدف الأبعد، فهو إغلاق بوابات الاقتصاد النقدي، الذي ما زال يشكل بيئة حاضنة لغسل الأموال وتمويل الإرهاب، بحسب تعبير الديبلوماسية الأميركية.

بالتقاطع، تشكّل قضية السلاح الفلسطيني في المخيمات وخارجها، عنوانًا أمنيًا موازياً لا يقل حساسية. زيارة الرئيس الفلسطيني محمود عباس الأخيرة إلى بيروت، وإن بدت بروتوكولية في ظاهرها، جاءت في توقيت أمني دقيق. وقد حرص عباس خلال لقاءاته على طمأنة الدولة اللبنانية إلى أن منظمة التحرير ليست في وارد تصدير التوترات الفلسطينية إلى الداخل اللبناني، لا بل هي مستعدة لحل جذري لهذا السلاح على أن يبقى أمن المخيمات في عهدة حركة فتح حصرًا.

لكن الواقع أكثر تعقيدًا. إذ لا تملك السلطة الفلسطينية سيطرة فعلية على القرار الأمني في بعض المخيمات حيث تنشط فصائل إسلامية متشددة، وبعضها مرتبط بمحور المقاومة. في هذه المخيمات، يتحول السلاح عنصرا تفجيريًا محتملا في أي لحظة، خصوصًا في ظل التداخل بين التوترات في قطاع غزة والضفة الغربية، واحتمال ارتدادها على المخيمات اللبنانية .

 ختامًا، يكتسب الحديث عن قرار سياسي بإقفال ملف السلاح الفلسطيني في المخيمات وخارجها كما أُعلن بعد زيارة عباس أهمية خاصة. وقد جرى الإعلان عن تشكيل لجنة لبنانية،فلسطينية مشتركة لوضع آلية عملية لضبط هذا السلاح، في موازاة التمسك برفض التوطين، والالتزام بتحسين أوضاع اللاجئين المعيشية

يُعيد تقاطُع الضغط الدولي مع دينامية داخلية ناشئة، إلى الواجهة سؤالًا جوهريًا: هل الدولة اللبنانية جادة فعلًا هذه المرة في تفكيك القرار الموازي، أم أنها أمام حلقة جديدة من إدارة الأزمة. تشي المؤشرات الأولية بأن ثمة مشروعًا يبنى، لكن نجاحه سيعتمد على قدرة المؤسسات اللبنانية على الصمود في وجه الكلفة السياسية وعلى استعداد العواصم الإقليمية والدولية المعنية لمواكبته لا الاستثمار في تعطيله. فهل تكون استعادة الدولة ممكنة، من بوابة السلاح؟ يحتاج الجواب إلى جهد استثنائي هذه المرة، وإلى التقاط الزخم الخارجي والرغبة الدولية في مساعدة لبنان على تخطّي أزماته المتشعبة، من أجل توظيفهما في استعادة القرار الدولتيّ وانتفاء أي دينامية خارجة عن الشرعية.

شارك هذا الموضوع

أحمد مطر

صحفي وكاتب لبناني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!