الجزائر.. إلى أين تسير؟ بين ذاكرة بوضياف ومتلازمة بروكرست

جمال الدين مشبال
بوضياف: مرآة أخلاقية للنظام
السؤال عن الجزائر، إلى أين تسير؟ هو في هذا المقال ليس من باب الحنين، بل يعاد طرحه من منظور نقدي يستند إلى استعارة متلازمة بروكرست، التي تكشف كيف يُطوّع النظام العسكري الواقع، ويُشوّه الحقائق، ويُقزّم الطموحات لتتناسب مع قالب سلطوي ضيق
في عام 1964، بعد سنتين فقط من استقلال الجزائر، طرح محمد بوضياف – وهو أحد أبرز المؤسسين لجبهة التحرير الوطني – سؤالًا جوهريًا في كتابه أين تسير الجزائر؟، كاشفًا عن التوترات العميقة بين مُثُل الديمقراطية والانحراف الاستبدادي الذي بدأ يتشكل مباشرة بعد الاستقلال. الرجل الذي حلم بجزائر مدنية، تعددية سياسية، وحكم ديمقراطي، انتهت حياته ضحية غدر نظام عسكري، تسلط على الحكم باسم مشروعية ثورية زائفة. والحال ان الضحية المغدورة هو المحرر الأساسي لبيان الفاتح نوفمبر1954 الذي أعلن الثورة الجزائرية التي تشكل المرجعية الأساسية لمشروعية الحكم والتي يدعي نظام الجنرالات امتلاكها زورا. شخصية بوضياف، وفكره، ونهايته المأساوية، تشكّل مرآة تكشف شكل وأخلاق النظام الذي اغتاله. واليوم، وبعد أكثر من نصف قرن، يتردد صدى سؤاله بإلحاح متجدد: إلى أين تتجه الجزائر؟
في مقال سابق نشرته في أطليار الإسبانية بعنوان “الجزائر، بعد 63 عامًا”، تناولت كيف خانت “جماعة وجدة” روح بيان نوفمبر 1954، الذي أعلن الكفاح المسلح من أجل استقلال الجزائر في إطار مغاربي موحد. وكيف الحلم المغاربي اختُطفته عصابة العسكر، فحوّلت التسلط إلى نظام، والقمع إلى وسيلة، والمواجهة الإقليمية مع جيرانه إلى ستار دخان يخفي مناورات الحكم العسكري..
بروكرست الجزائري: بتر الطموحات وتشويه الذاكرة
يقال في الأسطورة اليونانية، أن بروكرست كان يُخضع ضيوفه لمقاس سريره، فيُطيل أو يبتر أطرافهم. النظام الجزائري، منذ نشأته، مارس فعلًا مشابهًا: طوّع الواقع، شوّه الحقائق، وقزّم تطلعات الشعب. فبيان نوفمبر، الذي نادى بالحرية والكرامة في إطار حكم مدني ديمقراطي داخل مغرب كبير، تم اختزاله إلى شعارات تُستخدم لتبرير حكم العسكر، بينما سُحق جوهره الأخلاقي والسياسي ويمكن التأكيد أن هواري بومدين هو من كان صانع القالب المؤسس ولمنطق الإقصاء.
فمن مؤتمر الصومام الذي أقرّ أولوية القرار السياسي، إلى اغتيال عبان رمضان عام 1957، وانقلاب بومدين عام 1965، ومن بن جديد الى اليوم مع الثنائي شنقريحة وتبون، ظل النظام يُعيد إنتاج قوالب سلطوية لا تتسامح مع الاختلاف.
الجيش المعروف بجيش الحدود، بقيادة هواري بومدين، عبر من وجدة إلى الجزائر بدعم من عبد الناصر والاتحاد السوفيتي ومستعملا “عسكر فرنسا”. فأطاح بالمجاهدين الحقيقيين، وأسقط الحكومة الموقتة، ثم نصّب أحمد بن بلة كواجهة ليكون رئيس الجمهورية الجزائرية الجديدة ” الديمقراطية والشعبية”، لينقلب عليه بعد سنتين ويبقيه رهن الاعتقال دون محاكمة مدة 14 سنة. ففي عام 1965 قاد بومدين انقلابا عسكريا فتولى رئاسة الدولة وألغى الدستور، وأرسى منطقًا سلطويًا يُقصي كل من لا ينسجم مع القالب الرسمي (الحزب الواحد والثورة الاشتراكية). الوطنيون الحقيقيون دفعوا ثمنًا باهظًا. فكريم بلقاسم ومحمد خيضر ومحمد بوضياف، ومفدي زكريا…. وغيرهم كثيرون… اغتيلوا، نُفوا، أو طُمست أسماؤهم. كريم بلقاسم الموقع على اتفاقية الاستقلال اغتيل في فندقه بفرانكفورت (المانيا) على يد المخابرات الجزائرية وكذلك محمد خيضر في مدريد بينما محمد بوضياف، بعد ثلاثين سنة من المنفى بالمغرب، تم التغرير به من طرف نظام الجنرالات فتم استقدامه ليترأس المجلس الأعلى للدولة ثم بعد ستة أشهر فقط، تم اغتياله غدرا وعلى المباشر اثناء القائه خطابا متلفزا. أما مفدي زكريا، صاحب نشيد “قسما”، مات في المنفى، بينما يُذاع نشيده يوميًا دون أن يعرف أحد اسمه ولا الموت الحزين خارج الوطن. إنها فعلا، استعارة حيّة لنظام يُكرّم الكلمات ويُسكت أصحابها. هذا غيض من فيض
عسكر فرنسا: من الانضمام المتأخر إلى السيطرة المطلق وتدوير الرداءة
كان كبار ضباط النظام ينتمون في الأصل للجيش الفرنسي، وتمت ترقيتهم استثنائيًا دون تكوين عسكري حقيقي، في إطار سياسة استقطاب استعماري، وانضموا في آخر ساعة إلى جبهة التحرير قبيل الاستقلال، فشكّلوا أداة قمع هائلة واساسية في يد بومدين، وبعد وفاته شكلوا نواة صلبة تتحكم في الجيش والدولة، تعيّن الرؤساء وتُقيلهم أو تغتالهم. الشعب الجزائري أطلق عليهم تكنية “عسكر فرنسا”، وهي تسمية ذات دلالة عميقة.
الشاذلي بن جديد، أحد هؤلاء الضباط، الذي تولّى رئاسة الجمهورية عام 1979 بعد وفاة بومدين. على اثر الانتفاضة الشعبية لعام 1988، حاول وضع حد للحزب الواحد وخلق انفتاح ديمقراطي، لكن العسكر أجبروه على الاستقالة، وأُلغيت الانتخابات، ودخلت الجزائر في حرب أهلية دامية. بيان روما عام 1995، الذي اقترح حلولًا توافقية مهمة، رُفضها العسكر، واستمرت الحرب، فكان ضحيتها أكثر من 250 ألف جزائري، حسب بوتفليقة نفسه .
ومنذ الألفية الثالثة، تحوّل النظام إلى آلة لإعادة تدوير الاستبداد. يُعاد الجنرالات إلى السلطة بعد سجنهم، وتُستخدم عمليات التطهير لترسيخ الخوف. أكثر من 40 جنرالًا مسجونون، إضافة لرئيسين اثنين للحكومة ووزراء سابقين. هو مشهد محزن سوريالي يكشف هشاشة النظام وغموض الآفاق والمستقبل في الجزائر..
شنقريحة وتبون: ذروة الرداءة
يمثل الثنائي شنقريحة وتبون ذروة متلازمة بروكرست. نظام أعاد خلق قالب جديد على صورتهما: ضعف فكري، غياب الشرعية، وانعدام الكفاءة. الشعب يُخضع الآن لقالب سلطوي أكثر تشددًا، حيث يُقصى كل تميز ثقافي أو سياسي أو مهني، لتبقى الوضاعة والابتذال هما البارزتان
ووفق متلازمة بروكرست، أعاد النظام كتابة تاريخ الثورة على مقاسه. فالسردية الرسمية خضعت لتكييف يخدم السلطة، مزوّرةً بذلك التاريخ وشرعية المجاهدين الحقيقيين. وكما قال ماكرون عام 2021 أن النظام الجزائري بنى على عائدات من إرث الذاكرة
«Le régime algérien s’est construit sur une rente mémorielle.»
وهكذا، لم يعد أمام المواطن من بديل سوى الخضوع لمقاييس العسكر أو الهجرة خارج الوطن. فالهجرة أصبحت الوسيلة الوحيدة بدل العيش في الجزائر تحت ظل نظام حوّل الحرية إلى ترف. ولهذا يتردد الهتاف الشعبي في شوارع الجزائر وبدون انقطاع “مدنية، مش عسكرية”. وهو نداء لإنقاذ الجزائر من عصابة الجنرالات، وبناء مؤسسات مدنية، جزائر الحرية والتعددية. جزائر تكون فعلاً جمهورية ديمقراطية شعبية في كنف المغرب الكبير الموحد، لا مجرد عنوان تحت حكم العسكر
تاريخ الجزائر الحديث هو قصة حزينة لثورة مغتصبة، مبتورة، واستقلال صادره جنرالات طوّعوا البلاد لحاجاتهم وأهوائهم. إن متلازمة بروكرست ليست مجرد استعارة، بل بنية سلطة تُشوّه الحقيقة والذاكرة والتاريخ وتعمل على اخضاع كل شيء إلى معايير ومقاييس بروكرست الجزائر وان لا تخرج أو تحيد عنه قيد أنملة.
______________________________________________________________________________________________________
* هذا المقال هو إعادة تحرير وصياغة لمقال نُشرته في صحيفة “أطليار” الإسبانية بتاريخ 30 يوليو 2025