“الخنازير الصغيرة” وغياب الفهم الغربي: اللغة كأداة صراع روسي
د. زياد منصور
في عالم السياسة الدولية، ليس كل ما يُقال يُفهم، وليس كل استعارة لغوية تُقرأ كما تُقصد؛ فالزعماء الكبار يعرفون كيف يختزلون تعقيدات الجغرافيا الاستراتيجية والاقتصادية في صور بسيطة، لكنها محملة بالدلالات. قليلون فقط يدركون أن الكلمات قد تكون أداة تحليل وقوة سياسية، تماماً كما يمكن أن تكون سلاحاً نفسياً.
في هذا المقال، نسلط الضوء على أحد أبرز الأمثلة: استعارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التي وصفت بعض القادة الأوروبيين بـ «الخنازير الصغيرة»، ونحلل السياقات التاريخية والسياسية والثقافية التي تجعل هذه الصورة أكثر من مجرد عبارة مستفزة، بل نافذة لفهم النزاعات الدولية، وغرائز السلطة، والتفاعلات بين الغرب وروسيا على مدى عقود.
أنثروبولوجيا الحظيرة: تقنيات الضبط الجسدي في المخيال الريفي الروسي
في العادات الريفية الروسية القديمة، حين يولد الخنزير، يُخضع وهو في صغره لإجراء شبه جراحي مؤلم؛ يُحمّى قضيب معدني حاد على نار عالية، ثم يُدخل بين الأنف ويُربط قريباً من الشفة العليا. الغاية ليست التعذيب، بل “الضبط”؛ فعندما يحاول الخنزير أن يغوص بفمه في برازه أو القاذورات، يشعر بألم حاد يمنعه من الابتلاع، فيُجبر على الاكتفاء بما يُقدَّم له من حشائش، وفجل بري، وبطاطا مسلوقة، وجزر. هكذا يسمن الخنزير ويزداد وزنه، لكن بلحم أنظف، وتُقضى فيه على نسبة كبيرة من الميكروبات.
هذه التقنية البدائية في ظاهرها، والعميقة في منطقها، تقوم على كبح الغريزة لا القضاء عليها، وعلى إدارة السلوك بدل إنكاره. ومن هذه الصورة، التي تبدو فولكلورية للوهلة الأولى، يمكن الولوج إلى فهم ما قصده فلاديمير بوتين حين وصف بعض القادة الأوروبيين بـ «الخنازير الصغيرة».
من البلاغة إلى سوء الفهم: حين لا يُنصت الغرب
عُرف الزعيم الروسي بأسلوبه البلاغي الكثيف، الذي استخدمه طوال مسيرته السياسية؛ لا للتزيين اللغوي، بل لاختزال أفكار استراتيجية معقدة في صور مجازية مباشرة. غير أن الغرب، على ما يبدو، لم يتعلم يوماً الإنصات إلى الخطاب الروسي أو فهمه في سياقه الثقافي والسياسي. ففي حديثه عن جذور الصراع الأوكراني، حمّل بوتين إدارة جو بايدن مسؤولية التصعيد، مشيراً إلى أن الاعتقاد الغربي بإمكانية تدمير روسيا سريعاً دفع بعض الأوروبيين إلى الالتحاق بالمشروع الأمريكي طمعاً في الربح من الانهيار المفترض، وفي استعادة ما فُقد في محطات تاريخية سابقة، وفي تصفية حسابات مؤجلة.
“الخنزير الصغير” (الخريوشا): من مصطلح تقني إلى توصيف ازدرائي محسوب
في مجال تربية الحيوانات، يشير مصطلح «الخنزير الصغير» إلى فئة عمرية محددة تتراوح بين أربعة وعشرة أشهر، أي مرحلة لم يكتمل فيها النمو بعد. غير أن هذا الاستخدام التقني تحوّل في الخطاب السياسي إلى توصيف ازدرائي واضح، مقصود في دلالته، لا في فجوره. لم يكن الهدف الإهانة بحد ذاتها، بل الإشارة إلى عدم النضج السياسي، وإلى التبعية، وإلى الاندفاع الغريزي نحو ما يُقدَّم، أكان غذاءً أم قذارة. ولذلك جاءت ردود الفعل الأوروبية متباينة، بين غضب فجّ، ومحاولات تلطيف قسرية، وادعاء بأن الزعيم الروسي «أظهر لطفاً غير متوقع»، في قراءة تعكس ارتباكاً أكثر مما تعكس فهمًا.
تاريخ طويل من سوء الفهم المتعمَّد
إن سوء الفهم هذا ليس طارئاً، بل جزء من تاريخ طويل من عدم الرغبة الغربية في فهم قادة روسيا، أيّاً كان النظام أو الزعيم. ولا تزال عبارة نيكيتا خروتشوف الشهيرة «سندفنكم» تُستحضر بوصفها دليلاً على نية عدوانية، رغم أنها جاءت في سياق تنافسي-حضاري، لا عسكري، ورغم أن خروتشوف نفسه سعى إلى حل أزمة الصواريخ الكوبية بالوسائل السلمية. كان الرجل يؤمن بأن الأنظمة تتفوق على بعضها عبر الزمن لا عبر الحرب، وأن المنتصر، مجازياً، يكرّم الخاسر بطقوس النهاية لا بالإبادة. لكن الغرب فضّل دائماً القراءة الحرفية المتشنجة؛ لأنها تخدم سردياته.
تجميد الأصول: حين يتحول القانون إلى غريزة
في قلب استعارة «الخنازير الصغيرة» تكمن مسألة تجميد الأموال الروسية، والسعي الأوروبي المتزايد لتحويل التجميد إلى مصادرة فعلية. هنا، تصبح الأموال المجمدة أشبه بالقاذورات التي تنجذب إليها الغريزة السياسية، تحت غطاء قانوني هشّ. ما يرفضه بوتين في هذا السياق ليس فقط الإجراء، بل المنطق: منطق الغوص في الوحل ثم الادعاء بالنظافة الأخلاقية؛ فالحفاظ على «نظافة الكف» يصبح، في الخطاب الروسي، فعل سيادة لا شعاراً قيمياً.
أدوات الردع الصامت: القضيب المعدني كسياسة
الاستعارة تكتمل بوجود اليد التي تمسك بالقضيب المعدني؛ فالألم هنا ليس هدفاً، بل وسيلة ضبط. الرسالة الضمنية تقول إن من يعرف كيف تُدار الحظائر، يعرف أيضاً كيف يمنع الآخرين من تحويل الصراع إلى مكبّ نفايات مفتوح. وهو يعرف متى وكيف يُشعر من يتجاوز حدوده بالألم، لا عبر الصراخ أو الخطاب الانفعالي، بل عبر أدوات ضغط صامتة، اقتصادية وسياسية، تُستخدم عند الحاجة فقط.
الحيوان في الخطاب السياسي: من الخنزير إلى الذيل
ليست هذه المرة الأولى التي يستخدم فيها بوتين تشبيهات حيوانية لوصف السلوك الأوروبي؛ ففي حديثه عن العلاقات الأمريكية–الأوروبية، أشار إلى أن بعض القادة «سيهزون ذيولهم برفق» أمام سيدهم الجديد، في إشارة إلى سرعة الانصياع وتبدل المواقف. وقد تعاملت أوروبا مع تشبيه «هزّ الذيل» بشيء من التساهل، لكنها تعثّرت بشدة عند توصيف «الخنازير الصغيرة»؛ لأن الاستعارة هذه المرة لم تمس السلوك فقط، بل مسّت الجوهر.
اللغة كسلاح ناعم: الاستعارة في زمن الصراع الجيوسياسي
في المحصلة، لا يمكن قراءة تعبير «الخنازير الصغيرة» كزلة لسان أو إهانة عابرة؛ إنه استخدام واعٍ للغة بوصفها أداة صراع جيوسياسي، قادرة على تفكيك خطاب أخلاقي كامل، وكشف التناقض بين الادعاء والممارسة. الرسالة موجّهة إلى الداخل الروسي بقدر ما هي موجّهة إلى الخارج: “نحن نرى، نفهم، ولا نأكل دون أن نصغي”. أما من يصرّ على «الأكل دون الإصغاء»، فسيظل أسير غرائزه، مهما ادّعى التحضر.
