الذكاء الاصطناعي.. الجندر والجنسانية

الذكاء الاصطناعي.. الجندر والجنسانية

د. عبد الصمد الديالمي

            تحاول هذه الورقة البحثية فهم طبيعة العلاقة بين المستخدم البشري والذكاء الاصطناعي في موضوعات الجندر والجنسانية، وذلك من خلال الوقوف على تأثير التبادلات بين البشر والرفاق الافتراضيين على العلاقات الإنسانية بشكل عام. فمع التحسن المستمر للذكاء الاصطناعي، أصبحت التبادلات البشرية مع الكيانات الاصطناعية أكثر شيوعًا وأكثر اعتيادية. كما أن تأثير الذكاء الاصطناعي على تمثلاتنا وانتظاراتنا من المحتمل أن يغير الطريقة التي يتصور بها الأفراد العلاقات الإنسانية الواقعية.

تم تصور الرفقاء الافتراضيين ليكونوا مطيعين ومستقرين عاطفيًا، وليصبحوا رفيقًا مثاليًا يقدم لمستخدمه البشري ”علاقة مثالية“. فعلا، لا يعارض هذا الرفيق أبدًا مستخدمه أو يحبطه أو يرفضه. من شأن توافره هذا يؤدي الرفيق الافتراضي بمستخدمه البشري إلى تقليل تحمله للخلاف/الاختلاف أو الإحباط في العلاقات الإنسانية، التي هي بطبيعتها معقدة ومتناقضة وغير متوقعة. سلبية أخرى تكمن في فقدان المهارات الاجتماعية لأن الذكاء الاصطناعي، المبرمج للاستجابة غير المشروطة لاحتياجات المستخدم العاطفية، يؤدي بمستخدمه إلى منطق الاستهلاك العلائقي بمعنى أن البشر المحيطين بالمستخدم يُدرَكون كمصدر لراحة غير مشروطة، دون أن يطالِب المستخدم نفسه بالمعاملة بالمثل وبالتبادل المتكافئ. لهذا يمكن أن يكون التفاعل المستمر مع الرفاق الافتراضيين، خاصة بين الشباب، مضرًا بتطوير المهارات الاجتماعية مثل التعاطف وإدارة المشاعر وحل النزاعات. بل يمكن أن يؤدي بالمستخدم إلى انسحاب اجتماعي، مع ما يترتب عن ذلك من آثار مضرة على المدى الطويل على التطور العلائقي، لا سيما بين المراهقين. هكذا ومن خلال تقديمهم لعلاقات غير متبادلة ومتوقعة ومتمحورة حول ذات المستخدم، يمكن للرفاق الافتراضيين إضعاف أصالة الروابط الاجتماعية وتعزيز منطق الاستهلاك العاطفي. لذلك من الضروري تطوير أخلاقيات استخدام الذكاء الاصطناعي العلائقي، بالإضافة إلى التثقيف النقدي حول هذه التقنيات.

في المغرب، حيث لا تزال المعايير الاجتماعية المرتبطة بالأسرة محافظة للغاية لأنها التي لا تزال ممتدة ذهنيا رغم كونها نووية، وبالزوج/couple (الذي لا يزال هشا) وبالدين (الذي لا يزال قويًا كمرجعية عليا). لذا قد يولد التطور الرقمي توترات بين الممارسات الفردية الناشئة والقيم التقليدية، مما يخلق صراعات بين الأجيال و/أو مناقشات ذات طبيعة أخلاقية حول شرعية العلاقات مع الذكاء الاصطناعي. وقد يكون هذا الأمر مقلقًا بشكل خاص في المناطق الحضرية في المغرب، حيث تزحف فردنة أنماط الحياة لتعزز ثقافة العزلة. وحيثما لا تزال العلاقات الاجتماعية قائمة إلى حد كبير على البنيات الأولية (الأسرية والقبيلة)، فإن خطر تآكل هذه العلاقات بسبب الذكاء الاصطناعي قد تكون له عواقب على التماسك الاجتماعي والاندماج الجمعي.

تأثير الذكاء الاصطناعي على الحميمة والصداقة

     إن تطبيع العلاقات مع الذكاء الاصطناعي يعيد تعريف المفاهيم التقليدية للصداقة والحميمية، وفي حالات نادرة، الأدوار الجندرية أيضا. فمن خلال خلقه لأشكال جديدة من الارتباط والتواصل والدعم العاطفي، يتفاعل الذكاء الاصطناعي مع البشر بطرق أكثر مرونة وانسيابية. من ثم، تعيد هذه العلاقات الاصطناعية تعريف المعايير العلائقية المعمول بها.

في معناها التقليدي، تنطوي الصداقة على المعاملة بالمثل والثقة المتبادلة والاستمرارية. على النقيض من ذلك، تظل المعاملة بالمثل والقرب مع/من الذكاء الاصطناعي مجرد محاكاة ووهم. فالذكاء الاصطناعي لا يمكنه الالتزام بعلاقة صداقة ولا يمكنه تقديم سوى خدمة عاطفية تحت الطلب. والواقع أن المستخدم يلجأ إلى الذكاء الاصطناعي للتعويض عن خصاص علائقي، ولكن كل ما يحصل عليه مجرد بدائل فقيرة غير قادرة على تعويض أصدقاء حقيقيين في الوقع. فمن خلال مشاركة الأفكار والعواطف والأسرار الحميمية مع تطبيقات الذكاء الاصطناعي، يخاطب الأفراد كيانات لا تملك لا مشاعر ولا وعي. ونتيجة لذلك، تصبح العلاقة الحميمة إسقاطًا من جانب واحد، أي من جانب الفرد وحده، حيث أصبح الذكاء الاصطناعي قادرًا على محاكاة علاقة حميمة، لكن دون أن يعيشها فعلا. وبالتالي، تنفصل الحميمية عن المعاملة بالمثل لسبب بسيط وهو أن الرفقاء الافتراضيين لا يملكون أية حميمية.

ونظرا لأن برمجة الرفقاء الاصطناعيين غالبًا ما تتم من أجل الاستجابة لرغبات المستخدم العاطفية أو الجنسية، يعيد أولئك الرفقاء تشكيل مفهومنا للعلاقة الحميمة التي تقوم أصلا على المعاملة بالمثل وعلى الهشاشة المتبادلة وعلى الاستثمار العاطفي طويل الأمد. ومع ذلك، فإن رفقاء الذكاء الاصطناعي – سواء كانوا افتراضيين أو روبوتيين أو محادثين– مُصمَّمون لإشباع احتياجات المستخدم العاطفية و/أو الجنسية لوحده. وبالتالي لا آخر حقيقي ولا تبادل حقيقي في هذه العلاقة غير المتوازنة. فالعلاقة الحميمية مع الذكاء الاصطناعي تقوم على وهم المعاملة بالمثل: إن الذكاء الاصطناعي يعطي انطباعًا بأنه يستمع ويشعر ويتعلق بالمستخدم، لكنه لا يمتلك وعيًا ولا عواطف حقيقية. ويمكن أن تؤدي هذه العلاقة الحميمة المحاكاة بالأفراد إلى تفضيلها لأنها علاقات خالية من المخاطر والصراعات، عكس العلاقات البشرية المعقدة. وهذا ما يحول العلاقة الحميمة إلى خدمة عاطفية. على سبيل المثال، صُمم رفقاء الذكاء الاصطناعي مثل Replika أو Gatebox أو RealDollX لإشباع الاحتياجات العاطفية أو الجنسية حسب طلبات المستخدِم البشري. وهذا يختزل العلاقة الحميمية في منتج تكنولوجي وسلعة تكنولوجية تحوّل الرأسمالية من خلالها العواطف إلى أشياء / سلع للاستهلاك. في هذا السياق، يصبح الذكاء الاصطناعي أجهزة قابلة للشراء من أجل الإشباع الفوري، أجهزة تنتج أشكالًا من التعلق دون ارتباط حقيقي بالآخر ودون التزام. وبسبب طبيعتهم السلعية، يوفر رفقاء الذكاء الاصطناعي حميمة يتحكم فيها المستخدم في العلاقة بشكل كامل: يمكنه اختيار المظهر والصوت وردود الشريك وحتى سيناريوهات العلاقة. هذه العلاقة شبه المثالية الزائفة تنطوي على مفارقة: فكلما كانت العلاقة قابلة للبرمجة بشكل أكبر، كلما قلّت إمكانية اللقاء الحقيقي مع الآخر.

في الثقافة المغربية، العلاقة الحميمة منظمة للغاية إذ هي غالبًا ما ترتبط بالفضاء الزوجي والحياء والقيم الأخلاقية القائمة على شرف العائلة وعلى الستر. وبالتالي ومن خلال السماح بحميمة خارج الإطار الزوجي، يعمل رفقاء الذكاء الاصطناعي كمناطق حرة رقمية يتم فيها تعليق المعايير التقليدية وتجاوزها. ينتج عن هذا توتر بين ما هو حلال وما هو حرام، حيث يمكن للمستخدم ربط علاقة حميمة افتراضية دون تجاوز مادي فيزيقي للأعراف الاجتماعية والمحظورات القانونية والدينية، لكنه في الوقت نفسه يدخل في منطقة مُشتبَهة. على الرغم من أن الخروقات الجنسية الفعلية المتجاوِزة للمحرّمات شائعة بشكل متزايد في المغرب، وهو ما أثبتته السوسيولوجيا المغربية والروايات المغربية [4]. وبالتالي، يمكن القول إن الجنسانية الفعلية تتعزّز، بل تتوسّع وتصبح أكثر سهولةً بفضل الجنسانية الرقمية (أيضا).

على الرغم من هذه المخاطر، يمكن لرفقاء الذكاء الاصطناعي أيضًا أن يفتحوا مجالًا لإعادة تعريف الحميمة، لا سيما بالنسبة للفئات المهمشة مثل كبار السن والعزاب (غير الراغبين في العزوبة) والمثليين والمزدوجي الجنسانية والمتحولين جنسيًا (الذين يواجهون العديد من الصعوبات في المغرب). فأولئك الرفقاء يمكّنون بعض الأفراد من تجربة شكل بديل من الحميمية التي ربما لا تكون ممكنة في إطار اجتماعي محافظ. لذا فهم ليسوا فقط تهديدا للحميمية الإنسانية، بل هم أيضًا أحد أعراض الحاجة إلى الاعتراف والاستماع والمودة التي لا تلبيها دائمًا البنيات الاجتماعية القائمة/السائدة. إن مثال المثليين ومزدوجي الجنسانية والمتحولين جنسيًا في المغرب وثيق الصلة بهذا الموضوع. فبفضل الإنترنت والذكاء الاصطناعي وقعت هذه المجموعة عقد ميلادها وخلقت شعورا بالانتماء والحميمية بين أعضائها (5).

في المغرب، يمكن الجزم أن رفقاء الذكاء الاصطناعي (المبرمجون للاستجابة للرغبات العاطفية أو الجنسية) يساهمون في إحداث تغيير عميق في العلاقة مع الحميمية. إنهم يُنقلون العلاقة الحميمية نحو منطق الفعالية والشخصنة والتجرد من الجسد، ويسائلون المرجعيات التقليدية التي تقوم عليها الحياة العاطفية والعلائقية. من ثم، تثير هذه التطورات أسئلة أخلاقية وثقافية ونفسية كبرى، وتدعو إلى التفكير الجماعي في الطريقة التي تعيد بها التكنولوجيا الرقمية رسم ملامح الرابط الإنساني.

كائنات رقمية (avatars) مؤنثة مُجَنْسَنَة (sexualisées)

     من خلال جندرة وتأنيث الكائنات الرقمية في أغلب الأحيان، يبعث الذكاء الاصطناعي رسائل حول الأدوار المتوقعة من النساء في علاقاتهن بالرجال: اللطف والجاهزية والخضوع والجمالية الكاملة. فعلا، تقوم أدوات الذكاء الاصطناعي العلائقي على معايير جنسية تمييزية. فالأصوات الأنثوية ناعمة، والنساء الافتراضيات يطورن مواقف الخضوع و/أو الإغواء. بهذه الطريقة، يتم إعادة إنتاج القوالب النمطية البطريركية، مما يعزز الانتظارات التقليدية حسب الجنس: يجب على النساء خدمة الرجال بينما يجب على الرجال قيادة النساء. باختصار، يُعاد إنتاج اضطهاد المرأة في/بواسطة الذكاء الاصطناعي. وبالفعل، فإن العديد من الذكاءات الاصطناعية العلائقية (المساعدون الصوتيون أو الرفاق الافتراضيون أو الروبوتات الشبيهة بالبشر) مؤنثة: أصوات ناعمة، أسماء موحية (سيري، أليكسيا، إلخ)، مظهر أنيق وسلوك خدوم. إن ظاهرة التأنيث شبه الآلية ذات مغزى: فهي تعكس وتعزز القوالب النمطية التمييزية جنسيا المتجذرة بعمق في الثقافة البطريركية. هذا الاختيار التصميمي هو جزء من تاريخ يتم فيه تكليف النساء بأدوار الرعاية والدعم والتوافر العاطفي. فتأنيث الذكاء الاصطناعي يوحي بأن الدور”الطبيعي“ للمرأة هو مساعدة الآخرين وإرضائهم وتلبية احتياجاتهم. هذا هو السبب في أن منتجات مثل الروبوتات الجنسية والمساعدات الافتراضية تجسد شخصية أنثوية مثالية مطيعة ومُشَيئَّة، تنقل وتعيد إنتاج المعايير الجمالية والسلوكية السائدة. هذا هو السبب في أن هذه المنتجات” أكثر قبولًا “اجتماعيًا، لأنها تتناسب مع التوقعات الثقافية المميزة جنسيًا التي لا تزال مهيمنة. يساعد هذا الوضع على تطبيع الهيمنة الرجالية، وعلى تطبيع الأنوثة كتوفر وكخضوع، وكشيء يجب التحكم فيه (من الناحية التكنولوجية أيضًا). والأسوأ من ذلك هو أن الذكاء الاصطناعي المؤنث يتقبل الإهانات الجنسية دون رد فعل، مما يعزز فكرة أن المرأة يجب أن تظل هادئة ومتساهلة في مواجهة السلوك الرجالي العنيف.

بالمقابل، يستكشف بعض المصممين أشكالاً من عدم الجندرة ومن السيولة الهوياتية في الذكاء الاصطناعي. على سبيل المثال، يهدف روبوت الدردشة الآلي” Q“إلى أن يكون غير مجندر لتجنب التمييز الجنسي. من هنا، يتبين أن تطبيع العلاقات مع الذكاء الاصطناعي يمكن في الوقت ذاته أن يعزز الأدوار الجندرية التقليدية أو أن يوفر مساحة لإعادة تعريفها. وفعلا، يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي لتفكيك المعايير التمييزية جنسيًا، حيث يستكشف بعض المصممين والفنانين إمكانية عدم جندرة الذكاء الاصطناعي أو إمكانية إعطاءها هويات غير ثنائية (تلك التي ترفض أن تعرف نفسها كمذكرَة أو كمؤنثة، كغيرية أو كمثلية). على سبيل المثال، يسعى مشروع” Q“، الذي تم تقديمه كأول ذكاء اصطناعي غير مجندر إلى تعطيل الربط الآلي بين الجنس والوظيفة الاجتماعية. وبالمثل، تدعو المقاربات ما بعد الإنسانية إلى رؤية للتكنولوجيا تتجاوز الثنائيات الجندرية. وبالتالي، يمكن أن يصبح الذكاء الاصطناعي مساحة لإعادة ابتكار الهويات، ورافعة للتفكير في الآخر ضمن أطر غير نمطية ومناهضة للبطريركية.

تطبيقا على السياق المغربي، يساعد استيراد النماذج الرقمية المُجندرة على إعادة إنتاج تراتبية جندرية معولمة، من خلال تجذيرها محليًا في الممارسات الرقمية. وهذا يمكن أن يخلق فجوة بين تطلعات التحرر لدى نخبة من النساء المغربيات والنماذج الثابتة التي تفرضها عليهن التكنولوجيا (والأيديولوجية البطريركية). ورغم ذلك، من الممكن لذكاء اصطناعي مصمَّم قصد تفكيك الجندرة أن يسائل القوالب النمطية الجندرية. على سبيل المثال، يمكن أن تُعْكَسَ الأدوار ويتم اختراع ذكاءات اصطناعية رجالية عاطفية وهشة وذكاءات نِسْوِية مستقلة وقوية. ستكون هذه فرصة بيداغوجية / تعليمية ثمينة لتعميق النقاشات حول معايير الجندر[6]، لا سيما مع الأجيال الشابة. وهذا يفترض مسبقًا وجود إرادة سياسية وثقافية وتربوية لإدراج قضايا الجندر والتنوع والعدالة الاجتماعية في تصميم التقنيات ذاتها. لكن تأنيث الذكاء الاصطناعي بشكل عام في شكله الحالي يعزز في المغرب القوالب النمطية التقليدية المجندرة التي تضع المرأة في أدوار الخضوع والخدمة والزينة. إنه التأنيث الذي يساهم في تطبيع حميمية غير متكافئة وغير تصادمية.

تشيئ المرأة

     في نفس المنحى، تبرز العديد من الكائنات الرقمية (avatars) التي أنشأها الرجال أجسادا أنثوية مفرطة في الإثارة الجنسية، غير واقعية ومُنَمَّطة جندريا. من الواضح أن هذا يساهم في تشيئ المرأة. ففي معظم الذكاءات الاصطناعية، يتم تصميم العديد من الكائنات الرقمية الأنثوية بخصائص جسدية مفرطة في الإثارة الجنسية: قياسات مثالية غير واقعية (للصدر وللساقين وللمؤخرة…)، أزياء مثيرة وأوضاع موحية (جنسيا). هذا الاتجاه غالبًا ما يكون نتيجة إنتاج رجالي ليغذي التمثلات الجندرية للأنوثة. لذلك، تساهم هذه التمثلات في تشيئ المرأة، سواء في الفضاءات الرقمية أو في الواقع الاجتماعي. في كلمة واحدة، يتمثل التشييء الجنسي للمرأة في اختزال المرأة في جسدها وفي مظهرها، والتعامل معها كشيء/موضوع للمتعة البصرية والجنسية. فعندما يتم تصوير الكائنات الرقمية الأنثوية بشكل منهجي كأشياء جنسية، يعني ذلك أن قيمة المرأة تكمن قبل كل شيء في مظهرها وقدرتها على الإرضاء والإغواء. هذا التشييء جزء من الثقافة البصرية السائدة التي تستند على نظرة رجالية جنس ـ غيرية (regard masculin hétérosexuel). هذه النظرة هي التي تحدد هوية المرأة وتشكلها لتصبح موضوعًا للرغبة. هذه النظرة الرجالية المهيمنة مدمجة في تصميم الكائنات الرقمية، فأجساد تلك الكائنات منمقة قصد تحقيق أقصى متعة بصرية للرجال، وهو ما يخلق معيارًا جماليًا انتقائيًا لا واقعية له. وبالتالي، فإن النساء اللواتي لا يستوفين هذا المعيار فيتم إخفاؤهن (رقميا) أو يُنظر إليهن ككائنات غير مرغوب فيها في الواقع.

يساهم التعرض المتكرر لهذه الصور غير الواقعية لنساء غير حقيقيات في ترسيخ معايير جنسية وجسدية غير واقعية لدى الفتيات الصغيرات والنساء. وقد يؤدي ذلك بهن إلى الشعور بالخجل والقلق وتدني احترام الذات. أما بالنسبة للفتيان والرجال، فإن ذلك يعزز لديهم النظرة الاستغلالية للمرأة، حيث تكون الأولوية عندهم للمظهر على حساب الشخصية. وبشكل عام، تتأثر التفاعلات بين الجنسين بانتظارات تمييزية جنسيا (sexistes) وجنسية (sexuelles). بالمقابل، يقترح بعض المصممين والمصممات وهم أقلية، كائنات رقمية نِسْوِية متنوعة تتحرر من القوالب النمطية المجندرة، وذلك في صيغة أجساد غير مجنسنة وأدوار سردية معقدة. هذه المبادرات تمهد الطريق لثقافة رقمية أكثر شمولاً، حيث يتم تمثيل المرأة كذات في حد ذاتها، وليس كمجرد شيء ينظر إليه من خلال الرغبة الجنسية.

في السياق المغربي، يحجب التجانسُ التكنولوجي للجسد الأنثوي المجنسن بإفراط تنوعَ واقع النساء: فالمغربيات قرويات، شعبيات، محافظات، محجبات، مسنات… وبالتالي يروج ذلك التجانس رؤية غريبة عن الأنوثة، منفصلة عن التجارب المغربية. ويلعب الاستخدام الواسع النطاق للكائنات الرقمية الأنثوية المفرطة في الجنسانية والنمطية، التي ابتكرها أو استخدمها الرجال المغاربة بشكل أساسي، دورًا فعالًا في إعادة إنتاج تشيئ المرأة، سواء في الفضاءات الرقمية أو في التمثلات الاجتماعية الأوسع نطاقًا. هذا النوع من التعبير الرقمي عن المرأة يخلق المفارقة الآتية: كلما كانت الجنسنة المفرطة للجسد الأنثوي في العوالم الافتراضية مقبولة، كلما كانت غير لائقة وغير مقبولة عندما يتعلق الأمر بالأجساد الأنثوية الحقيقية. هذا هو الحال في الكثير من الأحيان، وهو ما يبرر للبعض العنف الجنسي الذي تتعرض له النساء في العالم الحقيقي والرقمي على حد سواء. وهذا يعني أن الجسد الأنثوي موضوع استيهام جنسي مفرط إلا أن التعبير عنه في الواقع الحقيقي يخضع للرقابة ويعتبر غير مقبول. هنا يتجلى نوع من الفصام عند الرجل المغربي: فموقفه المعلن يطلب من النساء أن يكنّ متحفظات ومحتشمات، بينما يتسم موقفه الحميمي باستهلاك رقمي مفرط لصور أنثوية مفرطة الجنسنة. لمواجهة هذا الاتجاه نحو التشييء الرقمي للمرأة، نحتاج إلى تعزيز كائنات رقمية بديلة تصممها نساء أو مجموعات مناهضة للتمييز الجنسي، والتي تثمن تنوع الأجساد والأدوار والأساليب. وقبل كل شيء، نحن بحاجة إلى دمج التربية الرقمية والتربية على الصورة في المناهج الدراسية المغربية قصد تطوير التفكير النقدي حول التمثلات الجنسية التمييزية على الإنترنيت وفي الذكاء الاصطناعي.

عواقب الجنسنة على الأجيال الشابة

     إن الإفراط في جنسنة sexualisation الكائنات الرقمية والتمثلات الأنثوية في العالم الرقمي ظاهرة اجتماعية ذات آثار بعيدة المدى، لا سيما بالنسبة للشباب الذي هو في طور بناء هويته. فالشباب في وضعية هشاشة أمام الرسائل التي تنقلها وسائل الإعلام الرقمية لأنه يتعرض بشكل كبير لهذه الوسائط ونظرا لخصوصية وحساسية مرحلة تطوره النفسي. فعندما يواجه المراهقون أجساداً أنثوية مفرطة الجنسنة وطيعة، فهم معرضون لاستبطان معايير جسدية لا يمكن العثور عليها في الواقع ومعرضون أيضا لاستبطان الأدوار النمطية للجنسين. أما بالنسبة للمراهقات، يمكن أن يؤدي ذلك إلى عدم الرضا عن الجسد وإلى السعي للتوافق الجمالي (مع المعايير الرقمية غير الواقعية) وإلى تدني احترام الذات.

أيضا، يمكن أن يؤدي التعرض المتكرر للتمثلات المجنسنة في البيئات الرقمية إلى الانخراط في حياة جنسية مبكرة، أي إلى تثمين الجسد باعتباره رأس المال الاجتماعي الوحيد. فقد تدرك الفتيات الصغيرات أنفسهن كشيء من خلال/في نظرة الرجل. ولدى الفتيان، يمكن أن يؤدي ذلك إلى تصور مشوه للعلاقات مع النساء حيث يُنظر إلى النساء على أنهن أشياء متاحة للرغبة، مما يعزز منطق الهيمنة الرجالية وتجريد المرأة من إنسانيتها. نتيجة لذلك، يمكن القول إن التمثل النمطي للجنسين في العوالم الرقمية يساهم في تصلب وجمود الأدوار الرجالية والنسوية معا. فغالبًا ما يتم اختزال النساء في دورهن الزخرفي أو العاطفي، بينما يجسد الرجال القوة والعمل والعقلانية. هذه السرديات تعزز النظرة الثنائية والهرمية للجنسين، مما قد يثبط المسارات التي تخرج عن المعايير البطريركية النمطية الغيرية. وغني عن القول إن هذا الأمر مضر بشكل خاص بالمثليين والمثليات وبمزدوجي الميول الجنسية وبالمتحولين جنسيًا وبالأشخاص غير الثنائيين.

على الرغم من هذه المخاطر، يمكن أن تكون البيئات الرقمية أيضًا مجالات للتحرر. فهناك مبادرات بيداغوجية /تعليمية تشجع الشباب على تطوير التفكير النقدي حول وسائل الإعلام من أجل تفكيك التمثلات التي يستهلكها في تلك الوسائل. كما يمكن لمصممي المحتوى أيضاً أن يروجوا لكائنات رقمية أكثر تنوعاً وشمولاً وواقعية، مما يساعد على إعادة تشكيل المخيال الجماعي.

في السياق المغربي، حيث لا تزال معايير التنشئة الاجتماعية جماعية وعائلية بقوة، يمكن أن تؤدي جنسنة التمثلات إلى زيادة الفجوة بين الأجيال، وكذلك بين التجارب الافتراضية والمعايير الاجتماعية الفعلية (المرتبطة بالزواج والحشمة والأدوار الجنسية المجندرة). ففي مجتمع مغربي تتسم فيه العلاقات بين الجنسين باختلالات هيكلية (التباين في الولوج إلى الفضاء العام، وإلى التربية الجنسية، وفي تناول الكلمة)، هناك خطر من أن تعزز التقنيات الرقمية هذه الاختلالات بدلاً من تصحيحها. ومع ذلك، فإن الشعور بعدم التفاهم بين الأجيال، والانفصال عن بعض الممارسات الاجتماعية وحتى عدم الشعور بالانتماء الثقافي لبعض الشبان/الشابات الباحثين/ات عن نماذج خارجية عبر الإنترنت والذكاء الاصطناعي يمكن أن يساهم في فردنة مسارات الحياة. ومن ثم يسعى الشباب المغربي إلى التحرر من الجماعة عن طريق البدائل الرقمية، وهو ما يولد توترات يمكن أن تتحول إلى رافعة للتعبير وقوة دافعة للتغيير الاجتماعي. ويمثل هذا التطور فرصة للتحرر، لا سيما بالنسبة للشباب (شبان وشابات) الذي يشعر بأنه مستبعد أو مهمش من قبل الأعراف الاجتماعية التقليدية (مثليون ومثليات، مزدوجو الميول الجنسية، متحولون جنسياً وعزاب قسريون …). لكل هؤلاء يوفر الذكاء الاصطناعي بيئة أكثر أمانًا لتجريب هوياتهم وعلاقاتهم. ويتمثل التحدي اليوم في تطوير تربية نقدية لما هو رقمي منذ مرحلة التعليم الثانوي فصاعدًا، ودمج القضايا الأخلاقية والنوع والجنسانية في السياسات التعليمية وضمان يقظة أبوية واجتماعية مواكبة، يقظة مصاحبة غير مصدرة لأحكام قيمة.

ترجمة: عبد الواحد الغازي

مراجعة الترجمة: عبد الصمد الديالمي

______________________________________

إحالات مرجعية

1) Abdessamad Dialmy est sociologue, professeur d’université émérite, expert/auteur en « Genre, sexualité et féminisme en Islam ».

2) Publié le 30 mai 2025 en français dans Panoraspost.

3) Abdelouahed El Ghazi est cadre associatif, lauréat du CEA (Master) en sociologie.

4) Voir à ce sujet mon livre :

– Jeunesse, sida et Islam au Maroc : les comportements sexuels des jeunes , Casablanca, EDDIF, 2000.

– Et mon article : « Les sexualités transgressives dans le roman marocain de langue française», in Transgressions en tous genres, Actes du colloque d’Innsbruck (2022), Editions Georg Olms Verlag, Baden Baden, 2024, pp. 131-156

5) Abdessamad Dialmy : « Transitional LGBT in Morocco : LGBT between Islam and Human Rights », in : MoroccoDynamics of Inclusion and Exclusion in the MENA Region : Minorities, Subalternity and Resistance. Rabat, Hans Seidel Foundation, 2019, pp. 249-272.

6) Voir à ce sujet mes deux livres :

– Vers une nouvelle masculinité au Maroc, Dakar, CODESRIA, 2009.

– Pour une masculinité non violente à l’égard des femmes, Casablanca, Le Fennec, 2023.

بيبليوغرافيا

– Bryson, Joanna J. (2010). Robots should be slaves. In Y. Wilks (Ed.), Close Engagements with Artificial Companions (pp. 63–74). John Benjamins.

– Danaher, John (2017). Robotic Romantic Companions: A Threat to Love? In Robot Sex: Social and Ethical Implications, MIT Press.

– Devlin, Kate (2018). Turned On: Science, Sex and Robots. Bloomsbury Sigma.

– Illouz, Eva (2007). Cold Intimacies: The Making of Emotional Capitalism. Polity Press.

– Haraway, Donna (1985). A Cyborg Manifesto. Socialist Review.

– Johnson, Deborah G. (2011). Computer systems: Moral entities or tools?. Ethics and Information Technology, 13(2), 145–150.

– Levy, David (2007). Love and Sex with Robots: The Evolution of Human-Robot Relationships. HarperCollins.

– Noble, Safiya Umoja (2018). Algorithms of Oppression: How Search Engines Reinforce Racism. NYU Press.

– Przybylski, Andrew K., & Weinstein, Netta (2013). Can you connect with me now? How the presence of mobile communication technology influences face-to-face conversation quality. Journal of Social and Personal Relationships, 30(3), 291–310.

– Turkle, Sherry (2011). Alone Together: Why We Expect More from Technology and Less from Each Other. Basic Books.

– UNESCO (2019). I’d Blush if I Could: Closing Gender Divides in Digital Skills Through Education.

شارك هذا الموضوع

د. عبد الصمد الديالمي

عالِم اجتماع مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!