الردّ الرُّوسي على نشر صواريخ “توماهوك” في أوكرانيا: عودة شبح أزمة كوبا؟

الردّ الرُّوسي على نشر صواريخ “توماهوك” في أوكرانيا: عودة شبح أزمة كوبا؟

د. زياد أسعد منصور

         تُشير التطوّرات العسكريَّة والسياسيَّة في شرق أوروبا منذ عام 2024 إلى تحوُّلٍ نوعيٍّ في ميزان الردع بين الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة وروسيا الاتحادية، وذلك عقب الإعلان الأمريكي عن خططٍ لنشر صواريخ “توماهوك” (Tomahawk) متوسِّطة المدى في أوكرانيا، ضمن منظومات دفاعية مشتركة مع حلف شمال الأطلسي (الناتو). هذه الخطوة، التي اعتبرتها موسكو تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي، أثارت تكهُّنات حول احتمال لجوء الكرملين إلى إعادة إنتاج سيناريو أزمة الصواريخ الكوبية لعام 1962، كردٍّ رمزيٍّ واستراتيجيٍّ على الخطوة الأمريكية.

يرى العديد من الخبراء في موسكو أنّ نشر صواريخ “توماهوك” على مقربةٍ من الحدود الروسية يُعدّ خرقًا لمبدأ التوازن النووي التقليدي الذي تأسَّس بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، خاصة بعد انسحاب كلٍّ من واشنطن وموسكو من معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى (INF Treaty) في عام 2019. ووفقًا لتحليل بعض الخبراء الروس فإنّ نشر هذه الصواريخ في أوكرانيا “سيُتيح للولايات المتحدة القدرة على توجيه ضربات دقيقة إلى العمق الروسي خلال دقائق معدودة، وهو ما يُعيدنا إلى منطق الحرب الباردة الأولى.

وفي هذا السياق، لمّح في السابق نائب وزير الخارجيَّة الروسي سيرغي ريابكوف في تصريحاتٍ لوكالة “تاس” في يناير/ كانون الثاني 2025، إلى أنّ موسكو “قد تنظر في خياراتٍ ردعيَّةٍ غير متوقَّعة”، بما في ذلك نشر منظومات صاروخيَّة في أمريكا اللاتينية أو منطقة الكاريبي، في تكرارٍ رمزيٍّ لأزمة 1962، حين وضع الاتحاد السوفييتي صواريخ نوويَّة في كوبا ردًّا على نشر الولايات المتحدة صواريخ “جوبيتر” في تركيا وإيطاليا. وقد فسّر بعض المحللين هذه التصريحات بوصفها إشارة إلى إمكانية نشر صواريخ روسية حديثة مثل “تسيركون” (Tsirkon) أو “كينجال” (Kinzhal) في سفنٍ أو غواصاتٍ قريبة من المياه الإقليمية الأمريكية أو في موانئ صديقة مثل هافانا أو كاراكاس.

الخيارات الصاروخية الروسية في الكاريبي: ردٌّ محتمل على نشر “توماهوك” في أوكرانيا

تتداول مصادر روسيَّة وخبراء عسكريُّون احتماليَّة اتخاذ موسكو خطواتٍ استراتيجيَّة جديدة في منطقة البحر الكاريبي، من خلال نشر منظومات صواريخ متوسّطة المدى من طراز “أوريشنيك” (Orishnik) في جمهوريَّة كوبا، وذلك ردًّا على إعلان الولايات المتَّحدة نيَّتها تزويد أوكرانيا بصواريخٍ موجَّهة من نوع “توماهوك” (Tomahawk).

ويُشير المراقبون إلى أنَّ القيادة الروسيَّة كانت قد وجَّهت مرارًا تحذيراتٍ إلى كلٍّ من واشنطن وحلف شمال الأطلسي (الناتو) من مغبَّة الاقتراب من حدودها الشرقيَّة، معتبرةً أنَّ هذه الخطوات تُهدِّد التوازن الاستراتيجي العالمي. وفي هذا السياق، يرى عددٌ من العسكريين أنَّ إعادة الانتشار العسكري الروسي في كوبا – ولا سيما إمكانيَّة إنشاء قواعد برية وبحرية وجوية أو مركز استخبارات إلكتروني في “لورْدِس” (Lourdes) – قد يُعيد إلى الأذهان أجواء أزمة الكاريبي عام 1962، حين وصلت العلاقات بين موسكو وواشنطن إلى حافة الحرب النوويَّة.

وتفيد التقديرات بأنَّ موسكو قد تُفضِّل في المرحلة الأولى نشر منظومات صاروخيَّة عملياتيَّة – تكتيكيَّة يتراوح مداها بين ألفين وثلاثة آلاف كيلومتر (2000–3000)، بدلًا من منظومات “أوريشنيك” ذات المدى الأطول البالغ خمسة آلاف وخمسمائة كيلومتر (5500)، وذلك في إطار ردٍّ تدريجيٍّ ومدروس. كما يُحتمل أن تشمل الخطط جمهوريَّة فنزويلا، في ضوء علاقاتها الوثيقة مع روسيا وموقفها المناهض للسياسات الأمريكيَّة في المنطقة.

وتأتي هذه التطوُّرات في ظلِّ توقيع روسيا اتفاقيات تعاونٍ عسكريٍّ شاملة مع عددٍ من الدول، من بينها كوبا، وفنزويلا، وتوغو، على غرار الاتفاق المبرم مع كوريا الشماليَّة. وتشمل هذه الاتفاقيات مناوراتٍ مشتركةً بريةً وبحريةً وجويةً، وتبادلاً استخباراتيًّا، وتوريدَ معدّاتٍ عسكريَّةٍ متقدّمة، والتزامًا بالدعم المتبادل في حال التعرّض لأيِّ عدوانٍ خارجيّ.

ويُظهر هذا التوجّه – وفق التحليلات العسكريَّة – تحوّلًا جوهريًّا في الاستراتيجيَّة الروسيَّة من سياسة الإقناع الدبلوماسي إلى اتّباع إجراءاتٍ عمليَّةٍ مضادّةٍ تهدف إلى كبح التمدُّد الغربي في مناطق النفوذ الروسي. كما يعكس سعي موسكو إلى تعزيز حضورها في أمريكا اللاتينيَّة وأفريقيا ضمن إطارٍ استراتيجيٍّ متكاملٍ يهدف إلى تحقيق توازنٍ دوليٍّ جديدٍ في مواجهة الضغوط الأمريكيَّة والأطلسيَّة.

بين أزمة الكاريبي 1962 والواقع الجيوسياسي المعاصر

يُعيد هذا المشهد المتصاعد إلى الأذهان أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962م، حين حاول الاتحاد السوفييتي آنذاك نشر صواريخ نووية في كوبا ردًّا على نشر الولايات المتحدة صواريخ “جوبيتر” (Jupiter) في تركيا وإيطاليا، مما أدّى إلى مواجهةٍ حادّةٍ بين القوتين العُظميين كادت أن تُشعل حربًا نوويَّة عالميَّة. غير أنّ السياق الراهن يختلف من حيث طبيعة السلاح المنتشر ومدى التوازن النووي القائم؛ إذ لم تعد موسكو وواشنطن تخوضان سباقًا مفتوحًا على الردع النووي فحسب، بل تتنافسان ضمن حروب نفوذٍ جيوسياسيٍّ أوسع تمتد من أوروبا الشرقيَّة إلى أمريكا اللاتينيَّة والقارَّة الأفريقيَّة.

ومع ذلك، فإنّ أيّ تموضعٍ عسكريٍّ روسيٍّ في كوبا أو فنزويلا سيحمل دلالاتٍ رمزيَّة وتاريخيَّة عميقة، تُظهر استعداد موسكو لاستعادة قدرتها على الضغط الاستراتيجي المباشر على الولايات المتحدة في محيطها الإقليمي القريب، تمامًا كما فعلت واشنطن عبر تمدّد حلف شمال الأطلسي نحو الحدود الروسيَّة. ومن هذا المنظور، يُمكن القول إنّ الأزمة الراهنة تمثّل صدىً جديدًا لأزمة الكاريبي القديمة، ولكن بأدواتٍ وتقنياتٍ مختلفة، تعكس واقع التوازن الدولي المتحوِّل في القرن الحادي والعشرين.

تدويلُ ساحاتِ القتال في الحربِ الأوكرانيَّة: بين المقاتلين الغربيين والمتطوّعين الكوبيين

تشيرُ مصادر إعلاميّة غربيّة إلى أنّ آلاف المقاتلين الأجانب قد انضمّوا منذ اندلاع الحرب في شباط 2022 إلى ما يُعرف باسم “الفيلق الدولي للدفاع عن أوكرانيا، الذي أُنشئ بمبادرة من الحكومة الأوكرانيّة وبموافقة ضمنيّة من حلف شمال الأطلسي (الناتو). وقد قُدّر عدد هؤلاء المتطوّعين في ذروته بما بين عشرة آلاف إلى عشرين ألف مقاتل (10,000–20,000) من دولٍ أوروبية وأطلسيّة متعددة، من بينها فرنسا، وبولونيا، وليتوانيا، ورومانيا، وجورجيا، وكندا، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة.

ورغم إنكار كثير من هذه الدول رسميًّا وجود جنود تابعين لجيوشها النظامية في ساحة المعارك، فإنّ الإسناد اللوجستي والاستخباراتي والتدريبي الذي يقدّمه الناتو لأوكرانيا جعل من هؤلاء المقاتلين جزءًا غير مباشر من تحالف غربي غير معلَن يسعى إلى استنزاف القدرات العسكرية الروسيّة على المدى الطويل. وتشير بعض التقديرات إلى أنّ نسبة معتبرة من هؤلاء المتطوّعين هم قدامى المحاربين في حروب العراق وأفغانستان وسوريا، ما أضفى على “الفيلق الدولي” طابعًا احترافيًّا متقدّمًا عزّز من فعاليته الميدانية في بعض الجبهات.

وفي المقابل، تشير مصادر إعلاميّة غربيّة إلى أنّ ما يصل إلى خمسةٍ وعشرين ألف كوبيّ (25,000) قد يستعدّون للانضمام إلى القوات الروسيّة على الجبهة الشرقية، الأمر الذي يمثل تحولًا لافتًا في طبيعة المشاركة الأجنبية في الصراع. واستنادًا إلى وثائق صادرة عن الكونغرس الأمريكي، قد يصبح الكوبيون أكبر قوة أجنبية تقاتل إلى جانب روسيا، متجاوزين حتى الجنود الكوريين الشماليين الذين سُجّل حضورهم في بعض مناطق القتال. وتشير التقديرات إلى أن العوامل الاقتصادية تلعب دورًا حاسمًا في هذا الانخراط، إذ يبدو عرض راتب شهري يُقدّر بنحو ألفي دولار أمريكي (2,000) جذابًا للغاية مقارنةً بمتوسط الدخل الشهري في كوبا البالغ عشرين دولارًا (20) فقط، ما يجعل الحرب بالنسبة للكثيرين فرصة لتحسين أوضاعهم المعيشية في ظلّ الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تمر بها الجزيرة.

وعلى الرغم من نفي السلطات في هافانا أي تورط رسمي في الصراع، إلّا أنّ الدوافع الاقتصادية والشخصية غالبًا ما تتجاوز التصريحات السياسية. وفي الوقت ذاته، تسعى روسيا إلى موازنة التفوق البشري والإسنادي الغربي عبر بناء شبكة من الشركاء العسكريين والسياسيين في آسيا وأمريكا اللاتينيّة، حيث يشكّل انخراط كوريا الشماليّة في تقديم الدعم العسكري والتقني لموسكو، إلى جانب إمكانية مشاركة المتطوّعين الكوبيين، مؤشرًا على تنامي ما يُمكن وصفه بـ “المحور الجنوبي المناهض للغرب”، الذي يهدف إلى موازنة التمدّد الأطلسي عبر توسيع الحضور الروسي في مناطق استراتيجية قريبة من الولايات المتحدة، مثل منطقة البحر الكاريبي.

ويُبرز هذا التنوّع في أصول المقاتلين أنّ الحرب الأوكرانيّة لم تَعُد مجرّد نزاع إقليمي بين دولتين متجاورتين، بل تحوّلت إلى ميدان دولي لتصفية الحسابات الجيوسياسيّة بين القوى الكبرى، حيث تتقاطع فيه المصالح العسكرية والاقتصادية والسياسية على نحو غير مسبوق منذ نهاية الحرب الباردة. وبذلك، تصبح الحرب اليوم حربًا بالوكالة دولية تتداخل فيها الجيوش النظامية، والمتطوّعون، والمرتزقة، والشركات العسكرية الخاصة، في معادلة معقدة تعكس تحوّل ميزان القوى العالمي في القرن الحادي والعشرين.

شارك هذا الموضوع

د. زياد منصور

باحث في القضايا الروسية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!