الرِّوائي عاموس عوز: التّعايش الفلسطيني والإسرائيلي
ترجمة: سعيد بوخليط
تقديم:
ولد عاموس عوز في القدس سنة 1939، بين أحضان عائلة يهودية بولونية هاجرت إلى فلسطين نتيجة الاضطهاد. تحتفظ ذاكرته عن القدس خلال تلك الحقبة بصورة مدينة ميّزتها “فسيفساء ثقافية”. إبّان سنوات مراهقته، انتقل إلى مستوطنة “هولدا كيبوتس”، فاختبر حياة مفعمة بـ “الأخوّة”.
بعد دراسات أدبية وفلسفية، شارك سنة 1967 في حرب الأيّام الستّة، ثم انضمّ إلى صفوف حركة ترفض كلّ ضمّ قسري. أصدر روايته الأولى “هناك ربّما” (1971). عاد ثانية إلى الجبهة العسكرية خلال حرب “كيبور” (1973)، قبل تأسيسه سنة (1977) – صحبة مثقّفين إسرائيليين آخرين – حركة “السّلام الآن”، التي ناضلت من أجل الاعتراف بدولة فلسطينية، والعودة إلى حدود 1967، وكذا إخلاء المستوطنات.
اعتُبر عاموس عوز لفترة طويلة أحد النّاطقين باسم اليسار الإسرائيلي وحركة “السّلام الآن”، ومدافعاً عن قيام دولة فلسطينية. تواصلت إصداراته الرّوائية باللغة العبرية، لكنها تُرجمت إلى مختلف لغات العالم، مثلما هو الشأن مع روايته “العلبة السوداء” التي فازت بجائزة “فيمينيا” سنة (1988). كذلك، عرفت روايته الأخرى “تاريخ الحبّ والعتمة” نجاحاً عالمياً كبيراً.
بحكم سلطته المعنوية داخل إسرائيل، ساهم في النّقاشات التي أفضت نحو “اتّفاق جنيف” شهر ديسمبر 2003، فأصدر كتابه البيان تحت عنوان: “ساعدونا على الطّلاق! إسرائيل وفلسطين، دولتان حالاً”.
توفيّ عاموس عوز، أحد أكبر أدباء إسرائيل، يوم 28 ديسمبر 2018 عن سنّ التّاسعة والسبعين، بعد معاناة مع مرض السرطان. ترك عملاً أدبياً حظي بجوائز عديدة، قوامه عشرون رواية ومجموعات قصصية، إضافة إلى عدد من الدّراسات وجملة مقالات صحفية.
التقيته بعد شهور من حفل توقيع عمله المعنون بـ “مبادرة جنيف” يوم 1 ديسمبر 2003 حول السّلام، وهو اتّفاق تاريخي شامل بخصوص حقوق الدّولتين، اليهودية والفلسطينية، داعياً إلى الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة، وتقاسم السّيادة على القدس؛ وهو وضع لم يتمّ تفعيله سوى جزئياً جداً.
دعوة رفضها على الفور “أرييل شارون” والليكود، معتبرين الأمر “خطيراً على إسرائيل”. بدورها، لم تكترث “حماس” بكلام عاموس عوز ووصفت مضمونه بـ “الخيانة”.
من المهمّ اليوم إعادة قراءة هذا الحوار، الذي تبلورت معالمه مباشرة بعد صدور كتاب عاموس عوز: “ساعدونا على الطّلاق! دولتان الآن” (غاليمار، 2004)، منتقداً بشكل حادّ “النّزعة المثالية المفرطة” للمثقّفين الفرنسيين المدافعين عن الفلسطينيين دون استيعاب للمواقف الإسرائيلية على مستوى الدّفاع عن الذات، لكن في إطار دعم قوي لاستراتيجية “تسوية مؤلمة” بين إسرائيل والفلسطينيين تفضي نحو الاعتراف بوجود الدولتين، السبيّل الوحيد الممكن في نظره، وكذا مناصري حركة “السّلام الآن”.
أمل ضعيف، تدعمه فرنسا منذ فترة، يبدو اليوم في تصوّر بلدان عديدة مخرجاً وحيداً من أجل وضع نهاية للوقائع الدموية التي اندلعت شرارتها نتيجة هجمات حماس يوم 7 أكتوبر 2023 (1195 قتيلاً، و250 رهينة)، ثمّ التّدمير الممنهج واللاإنساني لقطاع غزة من طرف الجيش الإسرائيلي (أكثر من 40,000 قتيلاً وفق بعض الإحصائيات الموثوقة).
حالياً، ومع الحديث عن مبادرات السلام، تر كّز عيناه الزرقاوان على ما يجري حوله. يستعجل عاموس عوز الإقناع، يعشق السّلام بكيفية عنيدة. حضر كضيف شرف للتّظاهرة الثقافية الكبرى “كوسموبوليس” التي تنظّمها مدينة برشلونة سنوياً واختارت هذا العام موضوع الحرب، هكذا تضاعفت اللقاءات والمداخلات الحارقة. لم يأتِ لـ “النّميمة”، بل كي يرافع، يناضل، يباغت ثم يسخر. يرغب في إسماع الأوروبيين الرّسالة السياسية لحركة “السّلام الآن”، التي اختزلها عنوان برنامجي استلهمه من كتابه الصادر بداية السنة: “ساعدونا على الطّلاق! دولتان الآن”.
عاموس عوز – ويعني الشقّ الثاني من اسمه باللغة العبرية “القوة” أو “الشجاعة” – شخص عاشق للسلام لكن وفق تصوّر واقعي، بحيث بادر إلى توقيع عدّة عرائض، ويعارض بكيفية مطلقة أرييل شارون والليكود. رجل عملي، وناشط عنيد وصبور.
يعتبر ربما الكاتب الإسرائيلي الأكثر شهرة، وأحد الأصوات السياسية لحركة “السّلام الآن” ورموزها. شارك بفعالية في الجدالات التي أفضت نحو مبادرة جنيف شهر ديسمبر 2003، وتناقش على امتداد أيام بأكملها مع الفلسطينيين حول مختلف الموضوعات التي شكّلت مصدراً لسفك الدّماء: عودة اللاجئين، الأراضي المحتلّة، الجدار الفاصل بين الدّولتين، في خضمّ تنامي الغضب والألم، ثم توثيق كل بند من بنود التّسوية.
انتزاع توقيعات قصد إخراج إطار اتّفاق جنيف إلى العلن، يرتّب لدولتي إسرائيل وفلسطين إمكانية العيش متجاورين، يفصل بينهما حدّ محكم. تقول إحدى عبارات كتاب عاموس عوز “ساعدونا على الطلاق”: “نتخلّص من حلمنا بخصوص إسرائيل الكبيرة، مثلما يتخلّص الفلسطينيون من حلم فلسطين الكبرى. إذا حدث تفعيل هذا الاتّفاق، لن يبقى في الشرق الأوسط مخيّم لاجئين فلسطينيين يرزح تحت اليأس، الكراهية، والتعصّب” (ص 38).
حسب حركة “السّلام الآن”، يؤمن سبعون في المائة من المجتمع الإسرائيلي بضرورة بلوغ لحظة هذا الطّلاق، لكن يتوقّف الأمر حالياً على مبادرات المسؤولين الإسرائيليين والفلسطينيين كي يجعلوا الأمل معطى واقعياً. ثم يضيف عاموس عوز بأنّ: “رفض تسوية من هذا القبيل يقود نحو التعصّب، حرب تستغرق على الأقل مائة سنة”، ويسخر من أوروبا التي لم تصنع قط على امتداد تاريخها سلاماً بكيفية سريعة للغاية.
الحوار:
س: تقول بأنّ المجتمع الإسرائيلي “ديمقراطي، مترف، ومتحمِّس”، ولا علاقة لوضعه مع حيثيات الصورة العدوانية والمتعصّبة التي تقدّمها وسائل الإعلام…
ج: بالتّأكيد. تختلف حقيقة العالم الواقعي عن العالم كما تظهره شبكة (سي.إن.إن). تكشف الحياة داخل إسرائيل عن هذا المعطى بكيفية لافتة للأنظار. لقد عُمِّمَت في كل مكان صورة مجتمع إسرائيلي غير ودِّي تتشكّل ساكنته من متديّنين متعصّبين تقارب نسبتهم ثمانين في المائة، وكذا جنود شرسين متسلّحين بالبنادق الرشّاشة يبلغ عددهم تسعة عشر في المائة، ولا يتجاوز عدد المثقّفين الرّائعين رقم واحد في المائة – يدرجونني ضمنهم – حالمين جرّيئين يدافعون عن أطروحات السّلام ويتمسّكون عبثاً بانتقاد توجُّهات الحكومة. هذا تقييم ونظرة خاطئة تماماً لأنّها تخفي النّقاشات الحادّة بين “الصقور” و”الحمائم”، وعمقها وكذا قوّتها الدرامية. المجتمع المدني الإسرائيلي بمثابة برلمان تحت سماء مفتوحة. إسرائيل بلد يطوي داخله ساكنة تتجاوز ثمانين في المائة يعيشون مثلما يعيش أهل مارسيليا، برشلونة أو نابولي، ضمن أجواء تذكّر أكثر بـ “فيديريكو فليني” من “إنغمار برغمان”. أفراد علمانيون، يشكّلون طبقات متوسطة، مزعجون، مرحون، أنانيون، ملتهبون، وليسوا بملائكة، بل بعضهم مجرّد خنازير. لا يهتمّ جميعهم بالإيديولوجية، وأغلبهم تحكمه مرجعية مادية ودنيوية، يرغبون – كما الشّأن أيضاً مع فلسطينيي إسرائيل – في بلوغ حلٍّ براغماتي لهذه الحرب وأن يعيشوا حياة سعيدة. الشّباب مهتمّ أكثر بالنّوادي الليلية الجديدة، وآخر صيحات المطاعم التّايلاندية وكذا البرنامج السينمائي في تل أبيب أكثر من أخبار قرى الغرب. لم أعرف أبداً تفاعلاً فنياً سوى خلال هذه الفترة الحالية، على مستوى الأدب، السينما، المسرح، والفنون البلاستيكية، إلخ.
س: لكن الانتقادات نحو إسرائيل تنصبّ أكثر على حكومة أرييل شارون وليس الشعب الإسرائيلي؟
ج: ليس صحيحاً. أعاين فقط تقارير إخبارية حول حياتنا الواقعية، غير دقيقة، أساسها صور نمطية. بالتالي، أجدني باستمرار أمام أخبار دعائية. لقد توقّف الحوار بين أوروبا المثقّفين وكذا المجتمع المدني الإسرائيلي. يشيرون إلينا بالأصبع قصد شيطنتنا، مما يعكس كارثة بالنّسبة إلينا. نعلم جميعاً استمرار الأدب وتراث الحرية خلال أسوأ أيام فترة الاستعمار الفرنسي في شمال إفريقيا، عندما اقتُرفت جرائم فظيعة باسم فرنسا؛ لم يصرخ شخص – سواء داخل إسرائيل أو في مكان ثانٍ – قائلاً: “لنقاطع فرنسا”. بينما ألاحظ اليوم مدى فظاظة المقاربة الإعلامية والفكرية حيال إسرائيل، مما يجعلنا نشعر بالنّبذ وقد حُشِرنا عند ركن زاوية.
س: هل تودُّ تأكيد فكرة عدم استيعاب أوروبا لمأساة إسرائيل؟
ج: سنكون في الوقت ذاته “ملائكيين” و”أصحاب نزعة مانوية”. ينطوي النّزاع بين اليهود الإسرائيليين والعرب الفلسطينيين على مختلف عناصر التراجيديا بالمعنى الكلاسيكي. يتصادم شعبان، وقد استند كل واحد منهما على مرجعيات يقينية بخصوص حقّه. يرغب الفلسطينيون في استعادة أرضهم، فلا يمتلكون وجهة بلد ثانٍ يعتبرونه وطناً لهم. أيضاً، يعلن اليهود انتماءهم لنفس بلد الفلسطينيين ولا يرغبون في مكان ثانٍ. هاهما قوميتان بلا موطن، وينشدان نفس الوطن، داخل بلد كبير في حجم مساحة صقلية. ليس سوء تفاهم، بل تراجيديا، يمكن العثور على مخرج لها حسب أسلوب شكسبير، من خلال مشهد نهائي يغمره الأموات وقد تحقَّقت العدالة، أو على طريقة تشيخوف؛ هكذا يعود كل واحد إلى مكانه مستاءً، كئيباً، ومنكسر الفؤاد لكنه يظلّ حياً.
س: تحدَّثت عن تصوُّر مثقّفي أوروبا لهذه التراجيدية بكيفية “هوليودية مفرطة”؟
ج: ينبغي على مثقّفي أوروبا التوقّف عن الاعتقاد بوجود جانب يهمّ الملائكة سواء في إسرائيل وكذا فلسطين. يبدو الاختيار الملائكي بسيطاً حين مناهضتهم الاستعمار وتردديهم دعوة القضاء عليه. استنكار “الأبارتيد” سهل. نفس الحكم يمكن إسقاطه على دعم فيتنام فترات مواجهتها للولايات المتحدة الأمريكية. لكن الصّراع الإسرائيلي الفلسطيني ليس بفيلم “ويسترن”، وليس بدراما مانوية وثنائية المنحى (إما سوداء أو بيضاء). لا يوجد طيّبون في هذه الجهة وأشرار يجتمون عند الجهة الأخرى، كما الشّأن مع السيناريوهات الهوليودية الساذجة. إنّها دراما مرتبطة بهذه الأرض، ينبغي تفكيكها. أتفاجأ حين رؤية مثقّفين أوروبّيين يبحثون ثانية بسذاجة عن “الطّيّب” الذي يربح الرهان ثم “الشقيّ” الذي يخسر. أقول لهؤلاء: “اصنعوا السّلام وليس الحبّ”.
س: هناك بحسبك تقليد آخر بخصوص التزام فكري، لا يقدّم دروساً كثيرة، معطى قادك نحو صياغة “مبادرة جنيف”…
ج: أنتمي إلى تيار مختلف للغاية، معتدل، اشتراكي، لا يعتبر المثقّفين ضمن تصوّره كقضاة عادلين بل فريق مرحِّب وفعّال. إذا وصلتُ إلى مكان حادثة سير والضحايا ينزفون دماً، فلا يمكنني حينها الشّروع في توجيه عبارات اللّوم إلى السّائق المتهوّر ثم تقديم شكوى؛ سأحاول بداية العمل على وقف النّزيف وتقديم الدّعم إلى الضحيّة. تنتمي هذه المقاربة الفكرية إلى تقليد مضياف. عندما نستحضر تطلّعات الفلسطينيين البراغماتيين، تجري كل الأمور مثلما يعمل فريق من الأطباء، بحيث يقع أحياناً الاختلاف حول التّشخيص أو العلاج، لكن يُطرح أمامنا عمل طبي يلزمنا جميعاً القيام به.
س: هل يمثِّل مبدأ التّسوية – أو الطّلاق وفق تعبيركَ – الذي تبنّته ندوة جنيف سبيلاً ناجعاً في الوقت الرّاهن؟
ج: نعم، اشتغلت صحبة زملائي الإسرائيليين أو الفلسطينيين داخل الحركة من أجل السلام، بهدف إيجاد لبنات تسوية عملية وليس نهاية سعيدة. اعتبرنا كل نقطة خلاف مؤلمة، نخوض في حيثيات النّقاشات دون حذف شيء يذكر. لا نريد نهاية على طريقة “دوستويفسكي”، فيخاطب كل واحد منا الثاني: “آه أخي! لقد أسأتُ لك، هل يمكنكَ أن تعذرني؟ خذ الأرض التي أردتَها دائماً، وامنحني فقط حبَّكَ في المقابل!”. إنّه حل مبتذل. بالتالي، نشتغل على طلاق شاقٍّ، مثلما الحال مع كل طلاق، بهدف وضع حدٍّ للمواجهات ويعيش الطّرفان في إطار معطيات الجوار. تنعدم تماماً تسوية سعيدة. الحياة توافق، وحينما يغيب هذا الفكر يحلّ التعصّب محلّه. ربّما لا يبدو هذا التصوّر واضحاً كثيراً بالنسبة إليكم. لقد خاضت أوروبا طيلة فترة تجاوزت مائة سنة عدّة حروب فظيعة زاخرة بالقتلى، بين الفرنسيين والإنجليز والألمان، إلخ، قبل الوصول إلى لحظة بناء المجموعة الأوروبية الحالية. إذن، نحن جماعة أفراد من الشرق الأوسط أصحاب نوايا حسنة، نلتقي كل يوم بغاية بلوغ السلام خلال أقلّ من مائة سنة، وبدم أقلّ. لسنا ربّما متحضِّرين بكيفية رائعة مثلكم في أوروبا، لكن حينما تدقّ لحظة المقارنة، سنبدو أكثر تحضّراً من الأوروبيين.
س: تدافع عن طلاق حتميّ، وفق معنى “كل واحد في منزله خلف جدران متينة”. فقد استحال العيش معاً؟
ج: علينا اتّخاذ قرار قصد إعلان ما يلي: هذا منزل الفلسطيني، والجانب الآخر منزل الإسرائيلي. بالتّأكيد، بوسع الأفراد العيش في المنزلين ورفضهم خلق ملاجئ، لكن ينبغي القيام بتمييز واضح: تحتاج كل قومية إلى بيت، ليس بالضّرورة مترفاً جداً، بل مجرد مسكن يحتوي على الأساسي (غرفة ومطبخ). يتحقّق انفصال من هذا القبيل في نهاية المطاف وبكيفية لا رجعة معها. ستكون هناك حدود وجدران. لا نبتعد كثيراً عن الوضع المأمول، وينبغي على مسؤولي الشعبين الإقبال على الخطوة الأولى. يعبّر بعض الملاحظين عن صدمتهم حيال فكرة جدار الانفصال، لكنّهم ينسون بأنّ كل طرف يمتلك قفلاً لباب منزله، حتى الذين وقَّعوا عرائض تنديداً بالحرب يغلقون عليهم مساكنهم بالمفتاح! تفرض هذه الجدران نفسها، لا سيما ما تعلّق بطبيعة الجوار المحفوف بالمخاطر، قصد تقليص أبعاد خطورة التجاء بعض المتعصّبين إلى قتل الناس ورميهم بالقنابل. طبعاً، يلزم إقامة مثل هذه الجدران عند الموقع الجيّد، بين حديقتي وكذا حديقة جاري، وليس ضمن محيط أحدهما كما الشّأن حالياً. التَّفكير في استتباب فاصل ليس جميلاً أو مثيراً، لكنّنا نحتاج إلى عزل بين فلسطين وإسرائيل، دولتين وحكومتين. بهذا الصّدد، أستعيد حديث الشّاعر الأمريكي “روبير فروست” عن الجدران الجيّدة التي تخلق حسن الجوار. لا تُعتبر الجدران أو الحواجز مصدراً للمشاكل، لكنها العواطف المرتبطة بتلك الجدران، وينبغي مقاومة المشاعر الباطنية وليس الأسوار المادية.
س: تروي فصول روايتكَ “حكاية عشق وظلمات” حكاية جدّتكَ التي فرّت من أوروبا ولم تتأقلم جيداً مع أجواء الشرق، وتوقّعت سلفاً المأساة التي حدثت…
ج: كانت جدّتي مفتونة بأوروبا، لكن الأخيرة طردتها. وخيّب الشرق الأوسط الذي عاشت فيه ظنّها. جسّدت حياتها سلسلة أحلام أجهضت وأوهام تلاشت. اعتُبر أجدادي وآبائي أوّل الأوروبيين؛ لقد جابوا كلّ أوروبا حينما كان الفرد داخل فرنسا مواطناً وفرنسياً، أو بلغارياً عند انتقاله إلى بلغاريا. لقد طُرِدَ جَدِّي من طرف بولونيين يعادون السامية، وسعى لنيل مختلف الجنسيات الأوروبية، كي ينتهي به المطاف إلى الجنسية الألمانية سنة قبل بداية حملة تدعو إلى تهجير اليهود. بعد طرد والدايّ من أوروبا، خلقا ثانية “بيتاً” داخل إسرائيل يضم رفوف كتب تنهل من ستّة عشر لغة أوروبية. استطاع أبي القراءة بسبعة عشر لغة ويتكلم بإحدى عشرة، بينما امتلكت أمّي ستّ أو سبع لغات. ولم يرغبا – أنا الطفل غير المرحّب به – كي أتعلّم الحديث بتلك اللغات حتى لا تستهويني وتغويني أوروبا، فأغدو في يوم من الأيام ضحيّة قتل داخل إحدى فضاءاتها جرّاء عدوان مناهض للسامية. لذلك، حرصا على تدريسي اللغة العبرية، كي أصير رائداً حقيقياً داخل إسرائيل.
س: كتبتَ بأنّ كل تراجيدية تظهر جانباً من الكوميديا. هل يسري ذلك على إسرائيل أيضاً؟
ج: نعم، كل تراجيدية تتضمّن كوميديا. لقد عشق والدايّ أوروبا لكنّهما أخفيا عنّي حقيقة شعورهما. لم تحب جدّتي فلسطين واقتصرت مشاعرها هناك على تلك الحمّامات الساخنة، رغم انجذابها الفعلي إلى الشرق. نفس الإحساس الذي يختبره الأفراد حينما يثيرون في نفس الوقت اشمئزاز البعض ثم تعلّق البعض الآخر؛ تأويل لا علاقة له بالسياسة بل ينهل من الجوانب الجنسية والحسية. أيضاً في إسرائيل، توجد علاقات مغناطيسية بين أشخاص مختلفين جداً، عرب ويهود، هكذا تنبعث الكوميديا وتستعيد كوميديا الحياة حقوقها.
س: ما الموقع الذي يشغله الكاتب حالياً داخل المجتمع الإسرائيلي؟
ج: ليس الكاتب بطبيب أسنان ولا مدير لشركة طيران. يختار كل كاتب الموقع الذي يريده لنفسه، ولن تجد اثنين مستعدّين كي يشغلا نفس المكان. يكمن الدور الكبير للكاتب في سرد الحكايات. صحيح فيما يخصّني، أظهر كشخص ثانٍ: أقصد تحديداً “مكتشف الدّخّان”؛ دخّان اللغة العبرية. غالباً ما كتبت مقالات تفاعلاً بخصوص ما بدا لي تحريفاً للغة. مثلاً: قبل خمسين أو ستّين سنة، حينما سمعت أشخاصاً يتحدّثون عن “أقاليم مُحَرَّرَة”، تناولت قلماً بسرعة كي أدبّج مقالة ليس دفاعاً ولا تقويضاً – مادامت أفكاري ومواقفي معلومة – بل قصد التّأكيد على انتفاء وجود أقاليم مُحَرَّرَة. هذه الكلمة موجودة فقط بين طيّات قاموس البشر. بوسعنا مناقشة ما ينبغي على إسرائيل القيام به من نابلس غاية رام الله، لكن هناك لم نحرّر شخصاً. تحرير الأرض مجرّد أسطورة نموت من أجلها. هكذا كتبت مقالات سياسية تنبعث لدى الأغلبية من فساد اللغة وتلاعبها. هذا ما نعتته بـ “مكتشف دخان” اللغة العبرية.
س: باعتباركَ مثقّفاً، هل تشعر بأنكَ تمارس تأثيراً على الإسرائيليين؟
ج: حقيقة، أجهل أبعاد ذلك. التّأثير شيء كبير ومذهل للغاية. لا أعتقد قط بأنّ نائباً متحدِّثاً بليغاً ألقى كلمة داخل البرلمان، بعدها وقف غريمه سياسياً كي يخاطبه بالعبارة التالية: “أعتقد العكس، لكني استمعتُ إليكَ وقد أصبتَ”. هل للكلمات تأثير معيّن؟ ربّما، لكن يصعب قياسه. يستحيل قياس قوة الأفكار كمياً. عموماً، حتى إن أبلغني شخص ما بطريقة حسابية حقيقة افتقادي لأي تأثير على الرّأي العام، سأواصل كتابة المقالات وإلقاء الخطابات.
س: منذ شهر، أصدرت دراسة عنوانها بالعبرية: “شلوم ليكانعيم”. يمكن ترجمته بالفرنسية “أهلاً بالمتعصِّبين”. ما المقصود بالمتعصِّبين؟
ج: آه! قصد اكتشافهم، يلزم قراءة كتابي (مجرّد مزحة). أومن بانطواء دواخل كلّ إنسان على موروث التعصّب. يكمن الخطأ الكبير في الإقرار بأنّ المسلمين متعصّبون، أو فقط الفاشيين وكذا الألوية الحمراء. يقبع التعصّب في كل مكان حسب أشكال مختلفة. لكن خلال القرن الواحد والعشرين، وعلى امتداد العالم، صارت هذه المشكلة أكثر جديّة وبلغت أوجها. أشير في هذا السياق إلى تطرّف اليمين الأمريكي، والحركات القومية الدينية في أوروبا الشرقية، وجانب من اليمين الإسرائيلي، بل وحتى اليسار الراديكالي. أيضاً، هناك حركة نسائية متعصّبة ومتطرّفة.
س: ما أصل هذه الظاهرة؟
ج: لقد ابتعدنا عن سياق حقبة هتلر وستالين. هذان الشّخصان خلقا لدينا حتماً – دون إدراكهما لذلك – شيئاً من المناعة ضدّ التطرّف وراديكالية النّظام الشمولي. استمرّ هذا الوضع خمسين سنة ثم انتهى الأمر، ونسيت البشرية ذلك. فالنّاس يفضّلون الشّعارات وكذا العبارات الصّادمة الأكثر اقتضاباً وبساطة قدر الإمكان. يرغبون في معرفة من يقتل بهدف أن يكون كل شيء على الوجه الأكمل! المسلمون، الصهاينة، الرأسماليون، المدافعون عن العولمة… يلزم تحديد القاتل كي تسير الأمور وفق المطلوب. وضع أشعر معه برعب كبير.
س: هل تحسّ بأنّ إسرائيل الحالية قد خانت إسرائيل البارحة؟
ج: ليس كذلك. حينما يستحضر الإسرائيليون ماضي بلدهم، يعتقدون بأنّ النساء والرجال الذين أسّسوا الدولة امتلكهم حلم، ويتساءلون عن ما بقي منه. فيما يتعلّق بي، أقول بأنّ خيالهم سكنته أحلام عدّة مختلفة، وليس فقط حلماً واحداً؛ يعني ذلك انعدام “الحلم الصهيوني” الموحد. ما الذي أسفرت عنه؟ المعطى الحتمي عندما تتحقق الأحلام هو خيبة الأمل. إذا تطلّعت صوب حلم وأردت التخلّي عنه كلياً، فلا تسعَ نحو تحقيقه. الدولة الإسرائيلية جملة أحلام تجسّدت وتعتبر حالياً أقلّ إثارة مقارنة مع الفترة التي طوتها صفحات الكتب. لنأخذ عنوان (الدولة اليهودية)؛ قبل ثلاثمائة سنة كان مجرد عنوان كتاب، رواية مستقبلية من توقيع “تيودور هرتزل”. بوسعي سرد عناوين أخرى: “تل أبيب” (ناحوم سوكولوف)، “عشق صهيون” (أبراهام مابو)، “غاية القدس” (أهارون روفيني). أعمال تطرّقت بتفصيل لأحلام كتّابها، وبالتّأكيد فقد كانت أكثر جمالاً ضمن الصفحات قياساً لمعطيات تجسيدها على أرض الواقع.
س: بالنسبة إليكَ، فما الذي أصابكَ بخيبة الأمل؟
ج: لست مستاءً. أنا فقط خائف من التعصّب وتجلّياته على امتداد العالم، لا سيما التعصّب العنيف الذي يقتل ويحدث موت الناس. سينتابني شعور الإحباط إذا انبعث أجدادي ثانية وتأمّلوا ما يجري حولنا؛ سيقولون: “تبدو الأمور أكثر مما تخيّلناه لكنها أيضاً أقلّ كثيراً”. اليوم نحن ستّة ملايين يهودي في إسرائيل، وهو أمر لم يكن ممكناً بالنسبة إليهم. أستعيد في هذا الإطار مثال أبي: ذات يوم وأنا طفل، قال لي: “لن أعاين هنا قط خلال حياتي حضور مليون يهودي. ربما اختبرتَ أنتَ وضعاً من هذا القبيل!”. حكاية تظهر بجلاء أنّ المشهد الحالي يتجاوز كثيراً ما تخيّله هؤلاء الأجداد، لكنه أيضاً أقلّ بكثير. لو أُخبر والدايّ أو أجدادي عن قدرة يهود في يوم من الأيام بخصوص إمكانية إقدامهم على إحراق منزل أسرة عربية، سيكون جوابهم كالتّالي: “مستحيل، لن يحدث هذا الأمر”. لقد اخترت عمداً المتطرّفين. إذن، صحيح، كيف لا أصاب بالإحباط نتيجة أشياء كثيرة. مع ذلك أكرّر: تحقّق جانب من هذه الأحلام مما أفقدها جاذبيتها.
س: ماذا عن المَسِيحانية في إسرائيل؟
ج: كل مسيحانية هي تطرّف. يعتبر كل شخص متطرّفاً حين قوله عبارة: “سأصلح العالم. امنحوني أيّاماً أو سنوات. ينطوي ذلك على ضرر بحيث تسفك دماء، ورغم ذلك أعيد إصلاح العالم”. تعريف يدرج تجليات المسيحانية في إسرائيل، لكن مثلما قلت سلفاً، فالتطرّف ظاهرة كونية؛ بحيث أجيب: “فلتتركوا العالم ينهار دون المبادرة إلى إصلاحه، وإذا فكّرتم على أيّة حال في هذا السّعي، فيمكن تحقيق ذلك رويداً رويداً”.
س: معلومة للجميع مواقفك نحو الفلسطينيين. كيف ترى حالياً المعطيات؟ نقرأ ونتابع أكثر فأكثر مقاربات تحليلية لصالح دولة ثنائية القومية…
ج: يقول الأفراد أيضاً بقدوم المسيح هنا خلال يومين. كل هذا السجال حول دولة ثنائية القومية يفتقد إلى الجديّة. لماذا؟ يبدو لي هذا الطّرح حقاً غير ممكن؛ بعد مائة وعشرين سنة من الدّم، الكراهية، والإذلال، أن نأخذ بأيادي الإسرائيليين والفلسطينيين ونضعهم في نفس السرير ثم الإقرار أمامهم بما يلي: “مارسوا الحبّ بدل الحرب!” أو “فلتكونوا نفس العائلة الواحدة”. لا! لنبدأ بتأسيس دولتين. بعدها يعتاد الإسرائيليون والفلسطينيون على تبادل التّحايا الصّباحية في السّلالم بحكم تجاورهما المكاني. بعد ذلك، يستضيف أحدهما الثاني قصد ارتشاف فنجان قهوة وربّما تطول الجلسة حتى يطهوا معاً وجبة. حينها يتشكّل مجال زمني للتّفكير في نظام فيدرالي أو صيغة أخرى. لكن الخطوة الأولى تقتضي تقاسم “المنزل” بدولتين وشعبين.
س: هل لازال ذلك ممكناً؟
ج: ولمَ لا! لا يوجد سبب واحد يجعل سعياً من هذا القبيل مستحيلاً. تُتداول هنا في إسرائيل باستمرار عبارة “لا رجعة فيه”، والحال تظلّ الموت الحقيقة الوحيدة التي ينطبق عليها هذا التّوصيف. لنستعد جانباً من تاريخ فرنسا: لو أخبرني شخص سنة 1958 بخصوص احتمال تخلّي “شارل ديغول” عن فرنسا الجزائر، كنت لأجيبه: “يستحيل ذلك! يعيش مليون فرنسي في الجزائر التي تشكِّل قطعة من فرنسا. وضع لا يقبل التّغيير!”. بوسعي تقديم أمثلة كثيرة ضمن معطيات القرن العشرين: غورباتشوف وتفكيك الاتحاد السوفياتي، وينستون تشرشل وتفتيت الإمبراطورية البريطانية، تنازل مناحيم بيغن لمصر عن صحراء سيناء مقابل السلام. إذن، كل شيء يقبل المراجعة.
س: هل أنت متفائل عنيد؟
ج: لا! فقط أبقى عاجزاً عن إدراك ما يخفيه المستقبل. لكن اليوم بمجرّد الإدلاء بأفكار مثل التي أشرت إليها يصفونني بالتّفاؤل، رغم أنّهم لم يسمعوني خلال مرّة أستطرد قائلاً: “كل شيء على ما يرام” أو “سيكون هناك حلّ”. فقط كرّرت بأنّ الوضعية القائمة محكومة بالتّغيّر. جوهرياً، أنا مثل طبيب كهل عاين ويعاين كثيراً من المرضى، ضمنهم واحد اشتدّ عليه المرض، مع إدراكي بأنّه لم يبلغ بعد المرحلة النهائية وليس على وشك الموت ويمكن التدخل لإنقاذه. لكن ربّما قد يصبح مجنوناً أو ينتحر؟ لا أدري.
__________
هامش:
مرجع الحوار: Le point :28 Avril 2018
